شاعر الجنوب شوقي بزيع المفتون بجماليات الأنثى والريف والسياسة/ شاكر فريد حسن

 


شوقي بزيع شاعر لبناني جميل راقٍ وناعم، أتى من الجنوب إلى الجنوب، فتح عينيه على هزيمة حزيران، وصحا على مذابح أيلول حد السكين، ولامس محاصرًا عذابات تل الزعتر. لا يكتب الشعر فحسب، بل هو ناثر بامتياز، ونثره لا يقل جمالًا وعذوبة ورقة عن شعره، يكتب بشفافية عن الأوطان والإنسان، وتمتزج في شعره المعاني الشفيفة والغنائية الرقيقة والشاعرية، بفتنة الأنوثة والوله العاطفي والعشق المشبع بالحسرات، وتبدو الكلمة لديه حية وخصبة في موقعها النسقي وإشعاعها الجمالي. 

شوقي بزيع متأثر جدًا بالريف الذي نشأ فيه، وشعره غناء صامت، وصمته غناء في حناجر مندهشة، يحاكي الطبيعة والأشجار والمياه والوديان.  

صدر له العديد من المجاميع الشعرية، أولها " عناوين سريعة لوطن مقتول "، و" الرحيل إلى شمس يثرب " ثم توالت مجموعاته الشعرية بالصدور، وهي " أغنية حب على نهر الليطاني، وردة الندم، مرثية الغبار، كأني غريبك بين النساء، قمصان يوسف، شهوات مبكرة ، فراديس الوحشة، جبل الباروك، سراب المثنى، ملكوت العزلة، صراخ الأشجار، لا شيء من كل هذا، كل مجدي أنني حاولت، فراشات لابتسامة بوذا، إلى أين تأخذني أيها الشعر، الحياة كما لم تحدث، ومدن الآخرين ".  

شوقي بزيع يتهادى مع  الشعر الذي يصعد إليه من نبع الروح، يرسم بالكلمات والحروف، وبكل ألوان الموسيقى يلون كلامه، ويتعانق في نصوصه العمودي مع التفعيلي مع النثر المسبوك على آهاته الشاعرية الدفينة. وكما يقول د. خليل أحمد خليل :" إنه المسكوب من بئر الحب، إلى نهر الليطاني، الفنان بجماليات المرأة والأرض والسياسة، المبدع بلا ضفاف، الخطيب المعتق الذي يستهلُّ من حُزن اليراعات ما يطرب له الحبر الأخضر. ساحر، فاتن ومفتون، يضج شعره بالوطنية والعروبة، بالإنسانية وبالحُبّ، بلا استسهال للشعر، ولا استرخاص للكلام، شعره مثل قريته وأهله، شجر المقاومة الصامتة في الأرض، والناطق في جراح أغانيه ". 

شوقي بزيع شاعر حقيقي مدهش، متجذر في أديم الأنوثة وخميرة الجمال، وفي الأمكنة والرثائيات وملاحم العشق التي تلازم قصائده وسرده، وهو الشاعر الذي كتب كثيرًا عن الحُبّ والأنثى، وكان يبحث في وجوه النساء وأجسادهن عن وجه مريم وساقيها. ومريم هي الفتاة التي شغفته حبًا وهو طفل صغير، لكنها ارتبطت بشخص آخر.  

وفي عدد من قصائده يطرح الأسئلة الوجودية المتعلقة بالكينونة والزمن والحياة والموت. 

ينتقي شوقي بزيع ألفاظه بدقة متناهية ورهافة وشفافية وحس موسيقي، وجملته الشعرية شفافة كالماء ولينة تدغدغ عواطفنا وتوقظ ما هجع من أحلامنا الخضراء. فلنسمعه يقول في هذه القصيدة التي تحمل عنوان " كم أنت أجملُ في الحنين إليك " :  

آن تقترب القصيدة من نهايتها 

وتشتبه الظّلال على المساءِ 

الآن يبدأ ذلك الألقُ المراوغُ للحقيقةِ 

عدّه العكسيّ، 

للآلام ما يكفي من الشبهات 

والشرفاتُ أضيقُ من حلول الذكرياتِ 

على الشتاءِ 

لا أرض تُرجع هذه الفوضى 

على أعقابها 

لأشمّ كامرأة على قبر 

قميص لهاثكِ الملقى على جزع السرير 

ولا تمائم كي أروِّض بالكلام الصِّرف 

أحصنة الدماءِ 

لا شيء يوقفني على قدَمَيْ رحيلكِ 

أو يحالفني مع الضجر الملبّد بالخسارةِ 

في فناء البيت، 

محضُ يدينِ فارغتين في أبدية ثكلى 

يدايَ، 

وإذ تداهمني عواصفُ نأيكِ الهوجاءُ 

تنشبُ حيرتي أظفارها كالقطة العمياءِ 

في الغبشِ المرائي 

كم أنت أجملُ في الحنينِ إليكِ، 

كم ذكرى النساءِ أشدّ سحراً 

في حساب العاشقينَ 

من النساءِ 

كم أنتِ بالغة الخفاء، 

كأنما تتجاوزين هشاشة الأجسامِ 

كي تتصالحي مع رغبة الفانينَ 

في ترميم ما خسروهُ 

من حلم البقاءِ 

الآن تقترب القصيدةُ من نهايتها 

تضيء يمامتا ذكراكِ 

في غبشِ الظهيرةِ 

كالنجومِ المستعادةِ من صراخ الليلِ 

والنسيانُ يرفع ذلك الاسم الخماسيّ 

المبالغ في تهدّجهِ 

على خشب الشحوبِ 

لا بدّ من هذا الفراق إذن 

فأدرك أنني أعمى بدونكِ، 

أنني النصفُ الضريرُ من التماعكِ 

في الحصى الغافي 

وحصة حاجبيكِ من انحناءِ الشمسِ 

في قوس الغروبِ 

لو كانت الأحلامُ أصدقَ من حنين الحالمينَ 

لو القصائدُ لا تخون مؤلفيها 

حين ينقلب الغناء على المغنّي 

لاختلطتُ على أنينكِ 

في فم القيعانِ 

كالوتر الكذوبِ 

صفراءُ ريحكِ في يباس الفقدِ، 

أصفرُ ذلك الخفر المغطّى بالبثورِ 

على ملامحكِ المطلةِ 

من غبار الأمس، 

أيتها الشبيهة بانبلاج يد ملوِّحة 

على غرق الكتابة، 

والتظاهرة الأخيرةُ للوداعةِ 

في تفتحها على الآلام 

كيف أُجيد تهجئة الروائحِ دون عطركِ؟ 

كيف أُفلح في احتساب الوقت؟ 

كيف أعيد تهدئة الأسرّةِ والوسائدِ، 

أو أعدّ على الأصابعِ 

ما تناثر من هبوبكِ 

فوق صفصاف الجنوبِ؟ 

صدئٌ نحاسُ الوقتِ، 

فحميّ صدى الأجراس، 

مذبوحٌ شعاع الشمس فوق 

أريكة الماضي، 

الشتاءُ بلا يديكِ الطفلتينِ 

يخرّ كالسحب القتيلة 

عند أقدام الجبالِ 

والبيتُ تنخرهُ الملوحةُ، 

حيث لا قدماكِ في أرجائهِ 

تتبادلانِ مهمة الطيرانِ 

فوق رتابة الساعات، 

لا كفّاك تنزلقانِ عن كتف الصباحِ 

كرغوة الصابون، 

لا عيناكِ تقتسمان بُنّهما المحيّر 

مع ملائكة الأعالي  

شوقي بزيع مبدع يتألق على ضفتي نهر الكتابة الشعرية والنثرية، ينسج بحبر أحلامه آفاقًا رحبة لأيامه ولقرائه، ويصوغ تعابيره بسلاسة وانسيابية تتدفق كشلال جارف، ويرسم قصيدته بكلمات ونبضات القلب وارتعاشات الروح.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق