في وقت عصيب يسود فيه الكساد اقتصاديات العالم، وتتراجع فيه الاستثمارات الأجنبية بسبب تداعيات الفيروس الصيني وما ألحقه من مآس بالأفراد ومجتمعات المال والأعمال، نجد شركة غوغل تسعى إلى ترسيخ أقدامها في الهند، إحدى أسرع الإقتصادات العالمثالثية نموا، وذلك عبر استثمار ما لا يقل عن عشرة بلايين دولار في أسواق الهند الرقمية الواعدة، خصوصا وأن هذا السوق هو أحد آخر الأسواق الرقمية التي لم يتم استغلالها بشكل كامل إلى اليوم، حيث أن الإحصائيات تشير إلى أن ما يقارب نصف عدد سكان البلاد البالغ تعداده 1.3 مليار نسمة لا يستخدمون الانترنت حتى الآن، لكن الكثيرين منهم متأهبون لخوض التجربة.
ونيودلهي التي تدرك تماما مدى حاجتها إلى الإستثمارات الأجنبية لخلق فرص عمل جديدة لسكانها المتزايدين، ولاسيما شبابها المؤهل الواعد، وأيضا لمواجهة احتياجات الملايين الجديدة للخدمات الرقمية رحبت بقرار شركة غوغل، خصوصا وأنها قامت مؤخرا بالعديد بالإجراءات التي تصب في صالح سد العجز المالي المتزايد (بسبب تراجع حصيلة الضرائب وتخفيضها بقيمة 20 مليار دولار على الشركات) واستعادة عافية اقتصاد البلاد البالغ حجمه 2.7 تريليون دولار ورفع معدلات نموه (توقع صندوق النقد الدولي انخفاض نمو الاقتصاد الهندي إلى 6% مقارنة بتوقعاتها قبل عدة أشهر والتي بلغت 7.5%).
من هذه الإجراءات المضي قدما في حملة الخصصة، ومصادرة بنوك الظل، وبيع حصص الحكومة في عدد من الشركات الكبرى مثل مصفاة بهارات بتروليوم (ثاني أكبر مصفاة تكرير في البلاد) وشركة النقل البحري الهندية (أكبر شركات النقل الهندية)، وإصدار تشريعات جديدة في قطاع الصناعة، وتقديم تسهيلات لجذب نحو 325 شركة عالمية لفتح مصانع في الهند، وضخ 10 مليارات دولار في البنوك المتعثرة، وتخفيف قواعد الإستثمار الأجنبي المباشر في قطاع تعدين الفحم.
والمعروف أن غوغل كانت أولى شركات التقنية الأمريكية التي وجدت في الهند سوقا واعدة لمنتجاتها، بل أكبر أسواق جنوب آسيا على هذا الصعيد، لكنها تباطأت في استغلال الفرص وعمليات الإستحواذ التي طرحتها الحكومة الهندية بمليارات الدولارات، لتعود اليوم وتطرح فكرة إنشاء "صندوق غوغل لرقمنة الهند" من أجل استثمار مليارات الدولارات على مدى السنوات الخمس القادمة في تطوير البنية التحتية الرقمية للبلاد، من خلال تقديم منتجات وخدمات باللغات الهندية والمساعدة على تنفيذ الصفقات التجارية بواسطة الانترنت واستخدام التكنولوجيات الرقمية في تعزيز الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها من الخدمات الإجتماعية.
ومما لاشك فيه أن غوغل لن تجد الكثير من الصعوبات في اختراق الأسواق الهندية. ذلك أن للشركة عمليات وتواجد فيها منذ العام 2004، ناهيك عن أن الهنود مذاك على تواصل مع الأسماء الأمريكية الكبرى الأخرى مثل "فيسبوك" و"أمازون" و"وول مارت"، وغيرها من تلك التي لديها استثمارات بمليارات الدولارات في الهند.
نعم، "إنها لحظة الهند، واعتراف بقوتها الرقمية العظيمة وخططها المستقبلية الهادفة للتمكين والابتكار" كما قال وزير الإتصالات والالكترونيات والمعلومات الهندي رافي شنكار براساد في تعليقه على قرار شركة غوغل المذكور. كما أنها فرصة لغوغل للاستفادة من الشعور المناهض للصين، الذي بدأ يهيمن على الهنود منذ تسببها في جائجة كورونا ثم اعتدائها المسلح على حدود البلاد الشمالية وقتلها 20 جنديا هنديا (وهي الواقعة التي ردت عليها حكومة رئيس الوزراء ناريندا مودي في يونيو المنصرم بحظر استخدام 60 تطبيقا من التطبيقات الصينية كان على رأسها تطبيق "تك توك" المعروف وذلك بداعي حماية البلاد أمنيا من اختراقات الصين السيبرية، ناهيك عن محاولاتها الدؤوبة للتخلص بشكل أكبر من الموردين الصينيين سواء فيما يتعلق بالهواتف النقالة أو التطبيقات)، وذلك من خلال قيام غوغل بتصميم وتعديل منتجاتها بما يتلاءم مع احتياجات نحو نصف مليار مستخدم هندي جديد يطمح معظمهم إلى تطوير أعماله في الأسواق المحلية والعالمية، من خلال الهواتف الذكية وخرائط غوغل للرحلات ومقاطع الفيديو ولوحات المفاتيح المستحدثة بلغات هندية يفهمها أكثر من الإنجليزية، علما بأن أنجح خدمات غوغل في الهند حتى الآن هو تطبيق الدفع الرقمي الذي تمّ تصميمه للهنود الأقل ثراء.
وعلى الرغم من أن الهند تضررت كثيرا من جائحة كورونا المستجد بعدد إصابات تجاوزت 800 ألف نسمة، فإن غوغل لم تكن الشركة الوحيدة التي سارعت لمد يدها الإستثمارية للهند التي لم تتفوق عليها لجهة أضرار كورونا سوى الولايات المتحدة والبرازيل. ففي شهر إبريل من العام الجاري عقدت شركة فيسبوك صفقة مع إحدى الشركات الهندية الرائدة في مجال الهواتف المحمولة بقيمة 5.7 مليار دولار لتغطية الأماكن النائية من البلاد وتمكين سكانها من القيام بالتجارة الإلكترونية. أما شركة أمازون فقد استثمرت في الهند في عام 2018 نحو خمسة مليارات دولار لتوسيع وتعزيز تواجدها في الاسواق الهندية. وفي العام نفسه اشترت شركة "وول مارت" واحدة من أكبر شركات الهند العاملة في قطاع التجارة الالكترونية وهي شركة "فليبكارت" التي تأسست عام 2007 بستة عشر مليار دولار. علاوة على ذلك هناك شركة ريلاينس اندوستريز غير المعروفة على نطاق واسع في الغرب والولايات المتحدة. فهذه الشركة البالغ حجم أعمالها السنوية نحو 90 مليار فرنك سويسري تستثمر منذ مدة في قطاعات البيتروكيماويات والبيوتكنولوجيا والتوزيع والاتصالات، وتوظف أكثر من 195 ألف شخص. ومن الواضح أن كل هذه الشركات الأمريكية التي توصف بعمالقة "سيليكون فالي" تتنافس على الاستحواذ على "جيو بلاتفورمز" التي تعد الفرع الرقمي من المجموعة الأم، والتي تدير متعامل الهاتف النقال "جيو"، الذي تم إطلاقه في 2006 ونجح في استقطاب 388 مليون عميل في ظرف 4 سنوات ليصبح المتعامل رقم واحد في الهند في قطاع الاتصالات الهندي.
المستغرب أن كل هذه الإستثمارات الأجنبية تتدفق على الهند على الرغم من أن نيودلهي لم تلغ حتى الآن كل القيود والاشتراضات التي تفرضها على المستثمرين الأجانب، علما بأن الإبقاء على بعض تلك القيود ما هو إلا رضوخ واستجابة لمطالب بعض الساسة ورجال الأعمال من الذين يرغبون أن تكون الهند كالصين لجهة حماية الشركات المحلية من تغول الشركات الأجنبية. لكن الاستغراب يتواري حينما نعلم أن رؤوساء غوغل وميكروسوفت وأدوبي وآي بي إم ينحدرون كلهم من أصول هندية، وبالتالي فهم يعرفون بلدهم الأم وظروفها جيدا، ولهم علاقاتهم الوطيدة مع الساسة وأقطاب المال والأعمال الهنود.
د. عبدالله المدني
* استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: سبتمبر 2020
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق