طِلْق الحور* (قصّة قصيرة – حبّة زيادة!)/ سعيد نفّاع



عندما قال له معلّمه: "انتبه، فأنت مثير للحسد!"، حدّق في عينيّ المعلّم من خلال ابتسامة عريضة دون أن يكلّف نفسه حتّى أن يعلّق على هذا القول. وقبل أن تفارق عيناه عينيّ المعلّم المبتسمتين ردًّا، كان المعلّم يربّت على كتفه اليسرى ودون كلام، وافترقا كلّ إلى همومه.

يخطئ من يظنّ أنّ بطلنا وبعد أن سمع ما سمع مرّ عليه خلال عودته إلى نفسه مرور الكرام، فقد أشغله القول كثيرًا وإن كانت الابتسامة في مثل هكذا موقف قد تخدع. الحقيقة أنّ بطلنا ابتسم حين سماع نصيحة معلّمه، إن صحّت الكلمة نصيحة إذ يمكن اعتبار ذلك تحذيرًا لا نصيحة، ابتسم لأنّه وعند سماعه إيّاها اعتبرها مديحًا بغضّ النظر إن كانت نصيحة أو تحذيرًا، ومن ذا الذي يكره المديح لا بل لا يسعى إليه؟! ولكن سرعان ما مرّ لمحًا بخاطر بطلنا قولّ كثيرًا ما سمعه من المعلّم نفسه: "ياما أفسد المديح الناس!"       

حار بطلنا بين قوليّ المعلّم وما رافقهما من ردود فعل ساعة قول الأول واستذكار الثاني، ولكنّه ضاع وضاعا في معمعان حياته الصاخبة كغيره وكغيرهما الكثير، فالمعمعان أنانيّ حدّ النرجسيّة المرضيّة لا يترك لغيره مكانًا إن استطاع إلى ذلك سبيلا وغالبًا ما يستطيع، والصخب ليس بالضرورة ميّزة الحياة العامّة والخاصّة وأحيانًا يكون، ولكنه يكون حتمًا حين يصخب الأفراد أنفسهم فيضطرم الصخب فيهم كأفراد وفيهم كمجموع، وأحيانًا سلبًا وأحيانًا إيجابًا، والإيجاب والسلب منوطان بهم هم عادة، وأحيانًا متباعدة بغيرهم وحتّى حينها لهم في ذلك قسط.

كلّ هذا دار في خلده ومنذ أن كان يقبع على أعلى فرع في شجرة الحور المعمّرة ابنة عين البلد، والتي كان تسلّقها باحثًا عن أعلى طِلْق فيها، وكان ما أن يقرّر أن الطِلْق المرجو موجود على فرع ويصله بعد لأي إذ كان يصبّ جلّ جهده ألّا يكسر أي غصن في تسلّقه، وخوفه على نفسه من السقوط لم يكن يقلّ عن خوفه على الغصن من الانكسار، وكان الجهد في هذا أشد من جهد التسلّق. 

كان ما أن يكاد يصل أعلى الغصن ويقرّر أنّه وصل مبتغاه حتّى يُخيّل إليه أنّه أخطأ، فالطِلْق الأعلى يبدو له على الفرع المقابل، فيبدأ رحلة انتقال. وقد طال به التنقّل نزولًا وصعودًا وإن كان النزول دائمًا في سبيل الصعود. ظنّ به نفر رأوه على هذه الحال الظنون غير آثمين، فالظانّ الآثم هو ذلك الذي يعرف ويحرف أمّا هؤلاء النفر فيرون ولا يعرفون ويكتفون بالدعاء للمحتاج بحسن الختام، وكان الذين يعرفون وعادة يحرفون ما زالوا لاهين. 

الطِلْق الحوري العالي كان ثمرة نصيحة لم يطلبها من بيثيا عرّافة دلفي التي أتته في الليل وقد أمضّه حلم عن واقع حال طال وطال به العمل على تغييره حبّا في أهل ذاك الواقع، أتته قائلة إن دواء واقع الحال في أعلى طِلْق في حورة البلد، وعليه أن يقطعه ويصليه نارًا عاتية يصل دخانها كلّ بيت في البلد.   

حين علا اللهب جاء الظانّون غير الآثمين واستنشقوا الدخان حتى الثمالة، وراح العارفون المحرفون يعملون على إطفاء هذه النار حسدّا وحقدًا ليس إلّا، راحوا وكمّامات تشوّه وجوههم خوف استنشاق الدخان، تاركين نيران غرباء تتراقص طربا للسَّمر وياما سمروا حولها.

بالمناسبة بطلنا لم يحاول أن يثنيهم وضحك كثيرًا وعاليًا حين تذكّر حكاية النار والرمضاء، وضحك أكثر حين تذكّر أن أهله وقبل أن يكونوا بحاجة لإشعال نار في طِلْق حور من أعلى حورة عين البلد، كانوا يضعون الكمّامات على أفواه البقر والبغال والحمير في "الحراث" وخصوصًا في "سكّة القلوح" حفاظًا على القُلوح - طلوق الكرمة الجديدة الطريّة في الربيع -  من شرِهِ الدواب،  ويضعونها على أفواهها أيضًا أيام "الدراس" على البيدر، وعلا ضحكُه أكثر حين وجد وهو يتذكّر ذلك، الفارق بين كمّامات وكمّامات ولصالح كمّامات الدواب، وظلّ يضحك وظلّ يطعم ناره ورائحة طِلْق الحور تُطيّب أنوف وتُزكم أنوف.       

*طِلْق: الغصن الطريّ حديث الانطلاق من البرعم.               


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق