حينما تحتد الخلافات بين أي دولتين يطفو على السطح مبدأ "عدو عدوي صديقي"، هذا ما مارسته باكستان مثلا منذ سنوات بعيدة بتحالفها مع الصين "عدو عدوتها الهندية"، والمبدأ ذاته آخذ اليوم في التبلور كمنحى في السياسة الخارجية الهندية على صعيد ملف العلاقات الهندية ــ الصينية.
صحيح أن نيودلهي ترددت طويلا في التقرب من تايوان، متمسكة بموقفها الظاهري حيال مبدأ "الصين الواحدة"، تجنبا لقطع الحبل المشدود بينها وبين بكين، وسعيا منها للتوصل إلى حلول دبلوماسية مع الأخيرة حول المناطق الحدودية المتنازع عليها. لكن الصحيح أيضا هو فشل تلك الحلول، وتنمر بكين ضد نيودلهي عسكريا، والذي تجسد في محاولتين في الفترة الأخيرة: أولاهما إقدام الصينيين في يونيو 2017 على التحرش بالهنود من خلال شق طريق في منطقة دوكلام داخل مملكة بوتان الجبلية التي تعتبرها الهند ضمن مناطق نفوذها، وثانيتهما قيام الجيش الأحمر الصيني في منتصف يونيو 2020 بالتوغل في منطقة لاداغ الجبلية الحدودية وتدمير وحدة عسكرية هندية،
ويمكن القول أن هذين التطورين، علاوة على الجهود الصينيين الحثيثة لتوسعة وترسيخ نفوذها في المحيط الهندي ودول جنوب آسيا المحاطة بالهند، مهدت الطريق أكثر فأكثر لسياسة هندية جديدة للإنفتاح علنا على تايوان ــ خصوصا لجهة عقد اتفاقيات تجارية ــ وذلك بدعم وتأييد من صقور السياسة في الأوساط الحزبية والبرلمانية في نيودلهي، خصوصا وأن واشنطون تدفع في هذا الإتجاه وتشجع عليه بحكم علاقاتها المضطربة وحربها التجارية مع بكين.
ومما لاشك فيه أن هذا التوجه الهندي، تسبب في قلق بكين التي تنظر إلى موضوع تايوان بحساسية شديدة، بدليل أن الناطق الرسمي باسم خارجيتها سارع إلى إعادة التأكيد على أن الصين تعارض بشدة أي نوع من الإتصالات أو التبادلات أو الاتفاقيات بين أية دولة و"جزيرة تايوان"، مضيفا بلهجة إملائية: "يجب على الهند أن تلتزم بمبدأ الصين الواحدة، وأن تتعامل مع مسألة تايوان بحكمة". ورغم أن الهنود تجاهلوا الرد على المسؤول الصيني، إلا أن صحافتهم قامت بالمطلوب حينما ذكرّت الصينيين بأنه إذا كنتم تريدون منا أن نعترف بسيادتكم على تايوان، فيجب عليكم بالمقابل أن تعترفوا بسيادة الدول الأخرى على أراضيها، في إشارة إلى عدم اعتراف الصين بسيادة الهند على ولاية جامو وكشمير، وإحتلالها لجزء منها (منطقة أكساي)، ومطالبتها بالسيادة على ولاية "أروناتشال براديش" الهندية التي تعتبرها بكين جزءا من إقليم التيبت.
المعروف أن تايبيه سعت لسنوات طويلة إلى عقد محادثات تجارية رسمية مع نيودلهي، إلا أن الأخيرة كانت تؤجل الموضوع عاما بعد عام، تحاشيا للإصدام مع بكين داخل منظمة التجارة العالمية. لكن يبدو أن الوضع تغير الآن، بمعنى أن نيودلهي لم تعد تكترث بردود الأفعال الصينية، وباتت تنظر إلى الانفتاح على تايوان كخطوة ضمن الخطوات العديدة التي اتخذتها منذ يونيو الماضي كرد فعل على الهجوم العسكري الصيني ضد قواتها في لاداغ، ومنها منع الشركات الصينية من المشاركة في مناقصات البنى التحتية الهندية، وتشديد ضوابط الإستثمار في الأسواق الهندية من قبل المستثمرين الصينيين، وحظر استخدام 118 تطبيقيا صينيا من تطبيقات الهواتف النقالة، ومنع استيراد قائمة من السلع الصينية. مقابل هذا سمحت نيودلهي للعديد من الشركات التايوانية الرائدة في مجالات الالكترونيات وتكنولوجيا المعلومات بالاستثمار في الهند.
والملاحظ أن هذه الخطوات الهندية ضد الصين وجدت ترحيبا واسعا في الأوساط الشعبية والاقتصادية داخل الهند، الأمر الذي يشير إلى بروز نزعة قومية شعبية ضد الصين، ولاسيما بعد واقعة لاداغ التي قتل فيها الجيش الصيني أكثر من 20 جنديا هنديا، دعك من تسبب فيروس كورونا الصيني في اصابة ووفاة الآلاف من الهنود. من آيات هذه النزعة، الارتفاع المفاجيء لأعداد الهنود ممن استخدموا منصات التواصل الاجتماعي مؤخرا لتهنئة التايوانيين بعيدهم الوطني في العاشر من أكتوبر.
لكن هل تستطيع تايوان أن تحل محل الصين لجهة التصدير إلى الهند التي تعد ثاني أكبر شريك تجاري للصين من بعد الولايات المتحدة؟
الإجابة نعم! فتايوان دولة صناعية مصدرة منذ ما قبل بروز الصين كقوة تصديرية عالمية. ويمكنها تزويد الهند بالعديد من السلع الانتاجية والاستهلاكية والوسيطة الأكثر جودة من السلع الصينية، وخصوصا الأجهزة الالكترونية والمعدات والآلات ووسائط الكمبوتر والأسلحة الخفيفة وغيرها.
وإذا ما تفحصنا احصائيات التبادل التجاري بين الهند وتايوان لوجدنا نمت تدريجيا. فقد ارتفعت قيمتها الإجمالية من 4.78 مليار دولار في عامي 2015 ــ 2016 إلى 7.18 مليار دولار في عامي 2017 ــ 2018 مثلا. وكان من المقرر أن ترتفع أكثر في عامي 2019 ــ 2020 ، لولا الكساد العالمي الراهن بسبب جائحة كورونا.
د. عبدالله المدني
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: نوفمبر 2020م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق