"الأسرلة" وصف شاع في السنوات الاخيرة كمذمّة يطلقها البعض في وصف فعل، أو دعوة أو مبادرة اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية أو ثقافية بهدف تشويه سمعة الفاعل/الداعي/ المبادر ومهاجمته ووأد فعله لكونه "غير وطني" ولا يخدم مصالح المواطنين العرب في اسرائيل، كما يراها ويعرّفها ويؤمن بها أولئك المهاجمون والمنتقدون .
فما الأسرلة اذن؟
يغيب عن بال معظم المنشغلين في هذه القضية موقف قادة الحركة الصهيونية والمؤسسة الحاكمة بكل أجنحتها، الذين حسموا هذه المسألة منذ البدايات وأجهضوا امكانية نشوء حالة "الأسرلة" الرسمية، وذلك حين قمعوا كل محاولة فردية او جمعية للمطالبة بها.
قد يكون قضاة المحكمة العليا في ستينيات وسبعينيات القرن المنصرم هم السباقون و"أبطال" هذه المهمة، فقراراتهم المبكرة والمثابرة حالت عمليًا دون امكانية نشوء "هوية مدنية إسرائيلية" لجميع مواطني الدولة، تشمل بداخلها مركبات ثانوية اخرى مثل الديانة وغيرها.
جاءت قرارات المحاكم الاسرائيلية قبل تشريع قانون القومية بخمسين عامًا وذلك في عدة قضايا حاول من خلالها بعض المواطنين اليهود وغير اليهود تسجيل انفسهم في هوياتهم "كاسرائيليين" وليس كيهود، إلا أنّ صهيونية القضاء وعنصريته وتحيّزه منع قوننة "الأسرلة"، وذلك لإبقاء اليهود ، حسب هذه القرارات، أسياد البلاد، والآخرون ضيوفًا يجلسون على الريح.
لقد ثبّت القضاة عبر تلك السنين "اسرائيل" إسماً لدولة كانت وستبقى دولة يهودية لا يسكنها "اسرائيليون" بل يهود ، لانها، كما كتبوا في قراراتهم، كيان قام "كدولة يهودية في أرض اسرائيل وكحق طبيعي للشعب اليهودي كي يعيش مثل باقي الشعوب في دولته اليهودية السيادية". فلا يوجد انفصام بين اليهود والاسرائيليين، ولن يكون.
اذن، ما بين أسرلة مستحيلة وغيرها من الحالات، بعضها مستكره وبعضها طبيعي، تضيع الطاسة وتذوب الفوارق وتنتعش الفطريات.
يساورني شعور بأنّ الغالبية العظمى من المواطنين العرب لا تولي هذه الحالة اهتمامًا جدّيًا ولا تتوقف عند ما يعنيه حقيقةً مُطلق التقريع ؛ فأكثرية الناس تسمع هذه "المسبة"، بحق فلان أو تلك المجموعة المتهمة بذلك الفعل المدان، ويمضون الى مواقع عملهم والى مصادر أرزاقهم المرتبطة بطبيعة الحال بأسواق الانتاج والعمل والاستهلاك الاسرائيلية.
لا يمكن ان تغطي مقالة أسبوعية واحدة كل جوانب هذه القضية الملتبسة؛ ولذلك سأكتفي اليوم بالتطرق الى مهاجمة بعض الافكار السياسية الخارجة عن نطاق المألوف والانتقاص من محاولات بعض الاشخاص او المجموعات اقتحام المستقبل بأدوات وبطروحات سياسية جديدة؛ وقد شهدنا الموجة الاخيرة من هذه الهجمات ضد مجموعات من الاشخاص البارزين والمشهود لهم بانتمائهم الحقيقي لقضايا شعبهم ولمصالح مجتمعاتهم، كان بضمنهم النائب ايمن عودة.
بعض من الذاكرة لن يضر .. فعندما كنا طلابًا جامعيين في أواسط سبعينيات القرن الماضي عشنا مخاضات سياسية ثلاثية الأضلاع ؛ فكطلاب عرب وقفنا معًا في وجه القوى اليمينية التي كان يقودها في حينه من اصبحوا اليوم وزراء في الدولة كيسرائيل كاتس وتساحي هنجبي وايفيت ليبرمان وغيرهم ممن يتحكمون في اجهزة الدولة وسياساتها؛ أما داخليًا فكانت المواجهة محتدمة بين "جبهة الطلاب العرب" وفي طليعتها وقف رفاق الحزب الشيوعي الاسرائيلي وبين "حركة أبناء البلد" التي دأبت على رفع شعارات قومية وعلى نعت الحزب الشيوعي بالاداة الاسرائيلية وعلى مهاجمة تاريخ نشاطاته قبل إقامة اسرائيل وبعدها.
لا أعرف من يذكر اليوم تفاصيل تلك الصدامات، فالمواجهات تعدت رفض "حركة ابناء البلد" لشعارات "الحزب الشيوعي" السياسية ورؤيته للحل من خلال إنهاء الإحتلال الإسرائيلي وإقامة دولتين لشعبين، بل وصلت الى حالات من التخوين السافر والاشتباكات الجسدية العنيفة، اذ أن شعار القوميين في تلك السنوات أكد على ان تحرير القدس سيمر أولا بتحرير جزيرتي "سبتة ومليلة" المغربيتين من براثن الإحتلال الإسباني، وعلى أنّ حل القضية الفلسطينية لا يكون إلا بالمقاومة وإقامة دولة ديمقراطية واحدة على جميع أرض فلسطين؛ ومن لا يؤمن بذلك فهو خائن ومفرّط .
كانت الأسرلة، اذن، وقتئذ "الوصمة" الكبرى التي ألصقها نشطاء قوميون، أو بعضهم ادّعى القومية، بأهم تنظيم سياسي عمل على بعث روح البقاء والصمود بين الأقلية الفلسطينية الناجية من مزايدات القوميين، وبعد أن هندس قياديّوه، برؤى حكيمة وكفاحية واقعية، ضفتي نجاتها في الوطن: هوية فلسطينية جامعة، ومواطنة اسرائيلية متساوية بالحقوق.
في تلك السنوات لم يكن مصطلح "الأسرلة" شائعًا كمسبة كما في أيامنا هذه، وقد يكون جديرًا دراسة أسباب ذلك؛ لكنني اجزم ان من بين تفسيرات تلك الحالة سنجد وضوح تعريف "العمالة" ومضامينها والاجماع شبه البديهي على من يكون العميل أو "الذنب"، كما درجت العامة على تسميتهم.
والى جانب ذلك سنجد، كذلك، أن عدم نضوج فكرة المواطنة داخل مجتمعاتنا التي واجهت حتى العام 1966 قمع الحكم العسكري الاسرائيلي، لم يدفع المواطنين الى الاهتمام بماهية "الأسرلة"، لا سيما وقد عاش معظمهم تحت رهبة ونفسية النكبة التي لم يخرجوا منها إلا إبان أحداث يوم الأرض، الذي من دون شك كان عتبة هامة لتجذير مفهوم المواطنة الكاملة ووضوحها كرافد للبقاء السليم، علاوة عن كونها استحقاقًا طبيعيًا لنا.
لقد رافق تلك التطورات وعي قيادات ذلك الزمن بضرورة انشاء شبكة من الاطر المساندة والكفيلة برسم السياسات المرغوبة والضرورية من جهة، وبمواجهة ممارسات الدولة العنصرية من جهة اخرى، فكانت ولادة "اللجنة القطرية لرؤساء المجالس المحلية والبلديه العربية"، ومعها مجموعة من الجمعيات الاهلية والشعبية والنقابية، عناوين مكلفة بمتابعة البعد المدني واستحقاقاته المواطنية، واما "اللجنة العليا لمتابعة شؤون الجماهير العربية" فجاءت لتداري الرافد القومي وما يتفرع عنه من ضرورات وموجبات ومهام؛ وبقيت الأحزاب والحركات السياسية المشاركة في الكنيست عناوين لإدارة المعركتين وفق ما يراه كل حزب وحسب عقائده وأولوياته.
من دون ان نستعرض جميع المحطات السياسية والتحولات الاجتماعية التي مرت بها مجتمعاتنا المحلية بعد تلك المرحلة، من المهم ان نلحظ ان اهم المتغيرات التي طرأت عليها لم تكن بالزيادة العددية وحسب، بل بنشوء شرائح جديدة وطبقات اجتماعية حديثة أفضت ولادتها الى نمو شبكة من المصالح، الفردية والجمعية، مع الدولة، وفرضت، بالتالي، انماط اشتباك واندماج مع مؤسساتها لم نعهدها من قبل.
استمرت المحاولات لخلق التوازن داخل المعادلة الثنائية حيث بقيت الجبهة الديموقراطية وادواتها المجرّبة والعريقة رأس الحربة في هذه المهمة، إلا أنها، لأسباب كثيرة، لم تعد قادرة على أداء هذا الدور، ودخلت مؤسساتها في حالة من التكلس والجمود، وراح بعض قادتها ينافسون زملاءهم من الاحزاب الاخرى في الجري والتودّد لزعماء العرب ولطغاتهم، والتراخي أمام تنامي مدّ حركات الاسلام السياسي، حتى ضاعت بوصلة الجماهير المجرَّبة واختلّ قاموس المعاني، فلم يعد للعميل تعريف يجمع عليه ولا كل وطني مأمول، واستحضر كل حاو "اسرائيله" حتى غدت "الأسرلة" هوى وموال يغنيه كل "ثائر " على هواه.
في ظل "فوضى القيادة" ومع جنوح المجتمع الاسرائيلي الى يمينيّة عنصرية وفاشية سافرة، وبسبب عوامل خارجية ومحلية اخرى ازدادت قوة الأصوات المطالبة بعملية الإقصاء الذاتي ومقاطعة مؤسسات الدولة، فسادت حالة من العدمية الخطيرة التي اوصلت مجتمعاتنا الى حالة من "السيلان الهوياتي" والتدحرج نحو قاع الهاوية، والى عبثية لم تعد محتملة؛ فصار أهون على بعض المتعاطين بالسياسة، والخائفين على مواقعهم الحزبية، مهاجمة الأنقياء والمجتهدين ورميهم بتهمة الأسرلة حينًا والصهينة أحيانًا، بينما نراهم يصمتون ويخنعون امام العابثين في خيرات بلداتهم والمفتنين والمتطاولين والفاسدين والبلطجيين.
ما الأسرلة اذن، ومن يقرر ما هي وما بينها وبين احكام المنفعة أو "العثمنة" أو "البلشفة" أو "القطرنه" أو "البوتنة" أو "السعدنة" أو "البشرنة" ؟ ومتى تكون مذمومة ومرفوضة حتى يستحق من يمارسها تهمة الخروج عن الصف الوطني او المتصهين او الجاسوس؟
يتبع ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق