في نكبة عام 1948 طُرِد وهُجِّر غالبيّة سكان حيفا الفلسطينيين منها فاستحالوا لاجئين حيث لم يتسنى إلا للقليل منهم، حوالي 2500 من اصل حوالي 130000, بالعودة إلى مدينتهم، في حين صادرت دولة الاحتلال، إسرائيل، البيوت الفلسطينيه المهجورة ومعظم الاملاك في المدينه التي هُجِر أهلها منها.
اعتبرت القيادات الصهيونية السياسية والعسكرية أن بقاء مدينتي يافا وحيفا اضافة الى عكا والقرى الساحليه بيد الفلسطينيون كارثة كبرى للمشروع الصهيوني، لذا فإن تصفية هاتين المدينتين عرقياً هو في حد ذاته مساهمة كبيرة في نجاح هذا المشروع، وبالتالي يؤدي إلى إضعاف أي محاولة فلسطينية لإعادة بناء المدينة الفلسطينية من جديد. بمعنى آخر فإن تصفية حيفا ويافا في حد ذاته تصفية للحياة المدينية الفلسطينية، وتحويل الفلسطينيين في هاتين المدينتين والقرى المحيطة بهما إلى لاجئين ومشردين بعيدين عن مراكز القرار وصنعه وتأثيره.
وتحولت حيفا من منارة الثقافه والاقتصاد والوجود الفلسطيني الى جرح مفتوح بالوعي الجمعي للشعب الفلسطيني ينزف ويؤلم.
بدأ الجرح الفلسطيني في الالتئام رويدًا في ثمانينات القرن الماضي عندما بدأت فلول المثقفون والمتعلمون الفلسطينيون من ابناء الطبقات الوسطى والعليا بالانتقال من القرى للعيش والاقامة الدائمة بحيفا… في العقدين الاخيرين ازداد عدد السكان الفلسطينيون بحيفا بشكل كبير واصبح المسجلين كمواطنين رسميين بحيفا حوالي 40000 الف اضافة الى عشرات الالاف الاخرى التي تعيش في حيفا بشكلٍ دائم لكنها لاسباب اقتصادية وحمائلية تتعلق في انتخابات السلطات المحليه بقيت مسجلة رسمياً في قراها ومدنها الفلسطينيه في الجليل والمثلث والناصره. ومع ازدياد عدد الحيفاويون الفلسطينيون ازداد حضورهم في كل مجالات الحياة العامة والاقتصادية في المدينه. بالاضافة الى الاحياء الفلسطينية التقليدية مثل وادي النسناس والكبابير والحليصة اصبحت اقسام احياء وشوارع بكاملها في حيفا تحمل طابع فلسطيني باكثرية سكانية ولون ثقافي حياتي يومي فلسطيني بامتياز.
نلاحظ هذا الطابع في البلدة القديمه التي أعادت لها المطاعم والمقاهي ومراكز الثقافة ألعربيه الفلسطينيه شيئاً من جمالها واصلها بعد ان أُهمِلَتْ من قبل إدارة حيفا اليهوديه لعشرات السنين وفي الشارع الرئيسي للاستجمام والحياة الليله المسمى شارع بنغوريون، الذي يطلق عليه الفلسطينيون اسم شارع ابو النواس، تشعر وانت تزوره انك في رام الله او بيروت وليس في مدينه اراد محتليها تهويدها بالقوه ... وإعادة فلسطنة طابع المدينة الذي تسميها الدكتورة منال حريب "استحلال" ( كلمة مركبه من بنات افكار د. حريب اصلها اعادة احتلال ) يراقبه المشاهد والزائر في معظم احياء المدينه تقريبا.
هذا "الاستحلال" اصبح مع الوقت دواء للجرح الفلسطيني الذي انفتح مع النكبه وما زال حتى يومنا هذا… دواء ينعش روح المراقب الفلسطيني ويرفع من معنوياته كما وانه نشوة للنفس والعقل تبث روح الصمود والتحدي للاقلية الفلسطينية امام جبروت الاحتلال الصهيوني الغاشم.
يتعكر المزاج وتنحصر النشوة ويتقلص الانتصار عندما نمحص عميقاً بجيش "الاستحلال" وتركيبته الاجتماعيه واسباب نزوحه من الريف الفلسطيني في المثلث والجليل والناصرة الى حيفا… وسرعان ما نرى ان هذا الدواء للجرح الفلسطيني هو أيضاً داء ، وداء عقيم مزمن للمجتمع والروح الفلسطينيتين.
معظم جنود "الاستحلال" هم من ابناء وبنات الطبقة الوسطى والعليا الفلسطينيه… معظمهم من الاكاديميين والمثقفين الذين اختاروا العيش في حيفا لاسباب مختلفه عن ما يصرحون بها علناً… الاكثريه الساحقه منهم تأتي في حجة العمل وطريق الوصول لمكان العمل كسبب اساسي لانتقال مركز حياتها من الريف الى حيفا. في الحقيقة هذا التعليل ممكن ان ينطبق على اقلية صغيرة من الاف الفلسطينيين الذين يعيشون في حيفا لكن اذا ما قارنا مستوى الحياة وجودتها بين حيفا والقريه وامكانيات التنقل المتاحه اليوم من شوارع وقطار وزحمة سير داخل المدن وصعوبة الانتقال السريع من حي لاخر فسرعان ما ينقشع الضباب وتظهر الاسباب الحقيقية لانتقال الالاف للعيش بحيفا… الاسباب الحقيقة تبدأ في انعدام الخصوصيه وانحصار امكانيات المحافظة على حيز خاص عائلي بيتي ضيق للفرد بالقريه الفلسطينية وتعبر الاسباب وتتعاظم لتصل الى مستنقع الرباطات العائلية الحمائليه التي بقيت متحجرة ولم يتم تطويرها وملائمتها لعصرنا الى مظاهر اللانظام والعنجهيه والفوضى والوسخ التي تخيم على الطبيعة والمجتمع بالقريه وتنتهي في التدخلات السافرة من قبل الاخرين في حياة الفرد اليوميه… هذه كلها اضافة الى اسباب عديدة اخرى هي الاسباب الحقيقة التي تقف وراء انتقال الطبقة الوسطى الفلسطينية من متعلمين ومثقفين ومنفتحين ومتنورين للعيش في حيفا. وهذا داء للمجتمع الفلسطيني بالداخل.
داء لان تطور مجتمع القريه يحتاج بالضبط هؤلاء الذين انتقلوا للعيش بحيفا… يحتاج خبرة ورؤية وصراحة هذه الطبقة من ابناء شعبنا الفلسطيني لكي ننتقل في قرانا من الحياة الاجتماعيه البدائية بمظاهر صناعيه حضاريه فوضوية الى حياة قروية عصرية كريمة تحافظ على الارث الحضاري وتحترم الطبيعة وخصوصية البشر .
جنود "الاستحلال" هم ايضا جنود التقدم للقريه والحياة الفلسطينية الاصيله…ان توجه هؤلاء الجنود الى ساحة معركة اخرى دون بديل لهم يعني بالمحصلة ان تبقى الساحة الاساسيه، القرية الفلسطينيه، تراوح مكانها في احسن الاحوال وتتراجع اجتماعيا واخلاقيا وتراثيا وحضاريا في اغلب الاحيان. وهكذا يتحول الدواء الى داء…وتطول المعاناة وتنفتح جروح جديدة في الجسم الهزيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق