كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف بعد طول مراقبة وتتبّع أنّ العراق بتاريخه لم يشهد مثل هذه "الخيانات" وسط مثقّفيه الذين سرعان ما خلعوا جلودهم واستبدلوها بأخرى تتكيّف على نحو فاضح مع الإحتلال والسلطة الجديدة التي ثبّتها على مقاسات طائفيّة وعرقيّة، وأعذار التكيّف.. الإدعاء بالسعي لقيام عراق جديد، ديموقراطي، سيّد، مستقلّ. وذلك من دون أي سعي جدّي لطرح السؤال: كيف يمكن بلوغ هذه الأهداف تحت ظلال حراب المحتلّين وبمعيّة من صعدوا إلى السلطة بشبهة "المتعاونين"؟!. ومن دون طرح السؤال الجدّي الآخر ـ من موقعهم كمثقّفين ـ وهو هل يمكن فصل الثقافة عن المسائل الوطنية وفي مقدّمها المساهمة وبفاعلية في دحر الإحتلال الجاثم على قلب الوطن ودحر القوى المحليّة المستفيدة من بقاء الإحتلال ذاته؟.
المشهد يتكرّر على نحو أو آخر في لبنان بالتزامن مع استصدار القرار رقم 1559 الذي أيّاً يكن القاتل هو المسؤول الأوّل عن اغتيال رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري وما استتبع من اغتيالات آثمة وتفجيرات متنقِّلة وشرخ لبناني داخلي منه نفذَ الإسرائيلي وشنّ على لبنان في تموز 2006 حرباً مسعورة بتأييد دولي وعربي، واستخدم خلالها قوة ناريّة لا مثيل لها في تاريخ الحروب الإسرائيلية - العربية. فمثقّفون لبنانيّون كُثُر كان لهم شأن في موقع الكلمة المعترضة ضدّ الإستغلال وسلطات الإقطاع بأشكاله القديمة البائدة والحديثة المتجدّدة، وسرعان ما هم أيضاً ناوروا على مبادئهم أو انقلبوا عليها والتحقوا بركب المستغلِّين والإقطاع بأشكاله وضربوا صفحاً عن كلّ ما يشير بإصبع إتهام إلى أي مسؤوليّة لأميركا عمّا يصيب لبنان باعتبارِه من أثر اللهب المندلع في العراق بفعل جائر من أميركا ذاتها.
متابعة بسيطة لما يكتبه هؤلاء المثقّفون في صحف لبنانية وعربية بعينها، والتملّق المفضوح لجهة عربية من ناحية، والعداء المبالغ فيه لجهة عربية أخرى من ناحية ثانية، تكشف عن انحراف خطير، ما دامت الثقافة لها جادّة وأكثر ما تنبذ ثنائيّة الخير والشرّ، وما دام منطلقها النقد لا من أجل النقد بل من أجل التصويب، ومنطلقها الهدم لا من أجل الهدم بل من أجل الإعمار، ومنطلقها الإنفتاح المبصر لا الإنغلاق والتقوقع، ومنطلقها الإنصاف لا التجنّي، والحريّة لا العبودية، والغد لا الأمس، وتحديداً المظلم منه، والحيوية لا الملل والتعب. والمثقّف إذا رأى في الوجود العسكري السوري على أرض لبنان مثالاً فظاظة وهو على صواب فلا يمكنه أن يرى في العدوان الإسرائيلي على لبنان أي مبرّر لإسرائيل، والمثقّف إذا رأى في التدخّل السياسي السوري المباشر سابقاً في الشأن اللبناني شبهة وهو محقّ فلا يسعه أن يجد في الإهتمام السياسي الأميركي الراهن محاولة لإعادة الثقة بلبنان ورأب الصدع بين بنيه، والمثقّف المناهض لـ"الشيطان الأكبر" في لبنان لا يصمت عليه في العراق، وإذا اهتمّ بالإنتخابات الفرعيّة في المتن مثالاً أيضاً لا يعطي ظهره للإنتخابات الفرعية في بيروت، مثلما المثقّف يستنفر أن يُطعن الجيش في ظهره ويستنكر أن يلحق هذا الدمار بمخيّم - مدينة، ويدلي بدلوه هو لا بدلاء الآخرين الذين لهم حساباتهم المناقضة مرّات بالمطلق لما هو يراه. فأي وجود بعد للثقافة إذا فسد المثقّف؟ .
ـ 2007.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق