الولادة والوهم - جولة في معرض المستقبل الجديد/ نزار حنا الديراني



بعد جائحة كورونا تسنى لي حضور معرض الفن التشكيلي الذي أفتتح صباح يوم الاثنين المصادف 25/1/2021 في مدينة ملبورن – مركز whittiesea شارك فيه العديد من فناني مدينة ملبورن ومن جنسيات مختلفة . 

حين تتجول في ردهات المعرض العامرة باللوحات الجميلة تجد فيض من الألوان تتماوج وتتراقص أمام شبكية العين لتتحدث عن نفسها كلغة تعبيرية لتكشف لنا ما خزنته الأنا لكل فنان كاشفة في كل لوحة قصة وحكاية تحمل بين طياتها رؤية إنسانية وأحيانا تجدها تتجاوز حدود الزمان والمكان وتختزل مسيرة وطن وشعب في لوحة واحدة ، من خلال خلق وبناء فضاء متخيل تعكسه لنا الألوان والخطوط؛ فالعمل التشكيلي - بأساليبه المختلفة، وما يمثله كنوع من أنواع الصور - يحاصرنا في كل مكان، مخاطباً أحاسيسنا وعقولنا، وهو محملا بأبعاد جمالية، فكان المعرض بمثابة ملتقى لجميع المدارس التشكيلية الفنية العالمية مثل الكلاسيكية , الواقعية , الرومانسية و... بعض اللوحات كانت بقلم الرصاص وأخرى بالألوان ، بعضها كانت من عدسة الكاميرة وأخرى بريش الفنان ، بعضها كانت صور طبيعية وأخرى من نسيج الخيال ... ورغم كثرة اللوحات إلا أني اخترت أربع منها تلك التي دغدغت مشاعري أكثر وجعلتني أتوقف عندها لأصنفها الى رؤيتين المجموعة الأولى منها تبحث  عن الولادة الأولى والمجموعة الثانية تجسد متاهات الانسان بسبب فيض طموحاته .

المجموعة الأولى تضم لوحتين إحداهما للفنانة الكسندرا ليتي وهي بعنوان (- tree of life شجرة الحياة )) والثانية هي للفنانة نباهيد الهيسى بعنوان (- water goddessإلهة الماء ) .

في اللوحة الأولى تحاول الفنانة الكساندرا أن تزاوج بين الكرة الأرضية التي تحضن البشرية والشجرة التي تعبر عن الولادة والحياة ، وبنفس الطريقة حاولت الفنانة المزج بين الألوان (الآزرق – الذي يعبر عن الهدوء والامتداد اللامحدود من جهة ، ومن جهة أخرى يدل على الثقة والإستقرار . والأخضر – الذي يعبر عن الولادة والتجديد والأستمرارية  ، أما البني فهو يرمز في الصورة الى القوة والثبات كونه الجذع الذي يحمل الشجرة (الحياة) لتكون قادرة على التصدي لكل أشكال الرياح  ) .

من خلال هذه اللوحة تكشف لنا الفنانة عن العمق التاريخي  للولادة على هذه الأرض من خلال اللون الأزرق الذي يجسد بعد السماء عن الأرض والمساحة التي يحتلها الماء على كوكبنا أي ولادة الحياة ، وهذا يكون موازي لوجود النباتات على هذه الأرض والتي ترتبط (الشجرة) كرمز لا للخطيئة بل ترمز الى الولادة الناتجة من هذا التزاوج والذي لولا القوة والأصرار (اللون البني) لما استمرت الحياة ، من هنا يأتي أهمية اللون كرمز يعكس أثره على النفس البشرية ، فمن خلال انعكاس اللون وسطوعه يكشف لنا قوة نفوذه على الشخص وكذلك مدى انسجامه مع الألوان التي حوله . 

 


وفي اللوحة الثانية تنطلق  الفنانة نباهيد الهيسه من الميثلوجيا التي تستند على فكرة وجود الآلهة والتي هي مصدر النظام في الكون ، ولكل إلاهة وظيفة لجعل الحياة تستمر ، ولأن الماء هو شريان الحياة لذا اختارت الفنانة إلاهة الماء ... في لوحتها هذه تستند الفنانة الى مجموعة من الألوان ( الأبيض – الأزرق – الأحمر بتدرجاته (الوردي) – والبني بتدرجاته – وبنسبة أقل من البنفسجي) كي تجسد رؤيتها الى المشاهد ، فمن خلال اللون الأبيض والذي يرمز الى النقاء والبراءة جسدت الفنانة عطاء وطهارة هذه الإلهة والتي هي مصدر الحياة ، فالماء هو سر الوجود وهو الذي يحتل مساحة كبيرة من كرتنا الأرضية وهذا ما جسده اللون الأزرق المستخدم في خلفية اللوحة كما هي السماء والمحيطات والذي يرمز الى الثقة والأمان والهدوء وهذا ينسجم مع ما يحمله هذين الطفلين الجميلين واللذان يتطلبان وجود الحب وسفك الدماء للاستمر بالنمو والعطاء والذي جسده اللون الأحمر بتدرجاته الى الوردي الذي يشير الى جمال الأزهار والقوة والإثارة والعاطفة فهو طاقة مملوءة بالحب وإلا كيف سيصبحان هذان الطفلان (الملاكين ) المحملان بسلسة من الازهار  وهما يجسدان مع الماء المتدفق من السلة التي تحملها هذه الإلهة مدى قدرتها على العطاء .. كل هذا لا يأتي ما لم يكن هناك قوة وعزم في العطاء الذي جسده شعرها الطويل والذي يجسد هذه المسيرة الطويلة في الحياة وبعض الخطوط البنية في الفضاء الخلفي والتي تعبر عن بعض محطات القساوة والصلابة وحيث اللون البنفسجي يرمز الى الروحانيات كونه اللون المفضل لرجال الدين في المعابد القديمة وعمق الخيال  يكمل صورة مسيرة هذه الإلهة والذي يمتد لالاف السنين .

   


 

وتكون لوحة الفنانة نباهيد قد تمازجت وفكرة لوحة الفنانة كرستين وحيث كلاهما تحاكيان ولادة الحياة ببعدها وعمقها التاريخي ، إلا أن الفنانة كرستين جعلت من الشجرة كمصدر للحياة أما الفنانة نباهيد فجعلت من الإلاهة (الماء) كمصدر للحياة ... وكلاهما صورة لعملة واحدة فمن دون الماء لا تجد النبات وحين تجد الماء ستجد النبات لذا كلاهما يجسدان فكرة الوجود أو الولادة .

 إلا أن فكرة الصراع من أجل البقاء ظاهرة في لوحة الفنانة نباهيد أكثر مما هو في لوحة الفنانة كريستين . في كلا اللوحتين ( وكما في الأخرى) هناك وجود للمكان ولكن عملية حمله بالأبعاد القيمية الجمالية هي التي نستهدفها من خلال هذه الدراسة؛ لأن اللوحة ليس بالضرورة أن تقدم نفسها بكونها استحضارا لواقع معين بل وضعها خيالا تعيشه الذات وخصوصا حينما تكون للصورة القدرة على تمثيل الحركة للزمان والمكان كي تعيد إنتاج الفضاء المادي والواقعي بطريقة واقعية وعلي مستوي التشكيل الفني . 

كلا اللوحتين تحملان بين طياتهما الصمت ، والذي يجعل كل منهما أن تعبر عن نفسها من خلال المحددات المتمثلة في الضوء واللون كي يحددا البعد المكاني ولغة الأشياء . لذا فجمالية الصورة تكمن في الكشف من وجهة نظر خاصة ما هو مألوف في الصورة للمتفرج.

وتعتبر الألوان ذات أهمية بالغة في جذب انتباه المشاهد وخلق جو وجداني وانفعالي، وتكمن جمالية الألوان في حسن استخدامها؛ فيمكن خلق الجمالية عن طريق شاعرية التوافق أو التضاد بين الألوان حيث هي عبارة عن اتحاد موفق للألوان ينشأ عن طريق خاصية المصاهرة والتقارب الموجود بين الألوان و اتحاداتها البصرية .

أما اللوحتان الآخرتان إختزلتا فكرة وجود الحياة من خلال وجود الشخص الذي يكون في دوامة التفكير والصراع مع الوجود ، ففي لوحة الفنان بيسنويل ( الهروب – escape  ) وهي تخطيط بقلم الرصاص ، نجد هناك محاولة للهروب من حلبة الصراع إلا أن قوة الوحش (قساوة الحياة) جعلته فريسة مخالبه فالأنسان في دوامة الصراع مع نفسه ، يريد أن يحصل على كل شئ فهو يحمل هذه القساوة وشدة الصراع على ظهره ، فمن شدة التفكير ورغبته الشديدة للوصول الى مبتغاه نجده قد تقمط مخالب الطير (النسر) كعلامة القوة والتحليق والسرعة في الوصول الى مبتغاه ، وهو بهذا يحاكي الأساطير .

إن الإشتغال على هذه المفاهيم وتفكيكها من الداخل يُمكننا من توليد أفكار جديدة وربما مختلفة عنها، وهذه التعبيرات المعقدة في اللوحة والتي تمثل في عمقها ردة فعل قوية وعنيفة عن شيء ما يمكن أن نجد فيها فضاءات ومحاور إهتمام أخرى .

 


إلا أن الفنان غسان فتوحي إختزل فكرة الصراع وطموح الانسان في لوحته ( - Some dreams is not true - بعض الأحلام ليست حقيقية ) بصورة أوضح بعيدة عن التعقيد والاسطورة ، حيث جعل الانسان يلفه فضاء من الدخان أو الضباب كتعبير عن ضبابية أفكار الانسان الذي يكون في دوامة التفكير والصراع مع نفسه كونه لا يمل من التفكير في الحصول على كل شئ ... وهذا ما جسدته وجه تلك المرأة بنظرتها الثاقبة وملامح وجهها التي تمتاز بالهدوء والثقة بالنفس وهذا ما تمتاز به أغلب شخوص لوحات الفنان غسان الذي يجعل الوجه ناطقا من خلال نظرة العين وهدوء الوجه ... الفنان غسان جسد هذه الفكرة في لوحته بأسلوب مبسط عكس ما فعله الفنان بيسنويل حيث تعبر لوحته عن عمق صراعه الذي يمتد الى حيث أساطيره . الفنان غسان استند في لوحته هذه على الحياة اليومية ولكون هذا الصراع يحتل مساحة أكبر لدى المرأة التي تحلم كثيرا بالاناقة وجمال الحياة والعطاء لذا اختار المرأة بدلا من الرجل لتكون مصدر الصراع في لوحته والتي تتطلب القوة والخيال .

فكلاهما ( غسان وبيسنويل ) يحاولان إخبارنا بالجرائم التي نرتكبها يوميا حيث أصبحنا نعيش في وسط عدمية معممة وجمعية ، فهما يخاطبان عمقنا وجوهرنا ليقولا لنا هذا هو الإنسان الذي يكمن فينا وهذه خطايانا، فكل منهما ومن خلال اللوحة يطرح علينا سؤالا مفصليا وهو هل نحن هذا ؟ وبالتالي فإن اللوحة تتجاوز بعدها الرمزي والدلالي وحيزها الجغرافي الضيق لتطرح علينا أسئلة كونية ووجودية وفلسفية فهي تدعونا بشكل ما إلى إعادة التفكير في ذواتنا وجوهرها. فهل نحن أخيار وأفاضل أم أشرار وأراذل ؟ 

 


في لوحة الفنانة نباهيد الهيسى والفنان بيسنويل والفنان غسان هناك تركيز على الشحوص حيث يرتبط جمالية الشخصيات ارتباطا وثيقا بكل ما يمد بصلة إليها فجمالية الشخصيات تنبع من طريقة استعمال المحاكاة ، وطريقة استخدام الوجه والملامح وجمالية اللباس و...  وكلما كانت اللوحة أكثر بساطة كلما جذبت المشاهد . 

وفي الختام أقول :

القيمة الجمالية التي تسندها كل لوحة من هذه اللوحات تجعل منها والمفاهيم في تفاعل دائم، فكل منهما يعيد إنتاج الأخر بطريقة جديدة وشعرية . فاللوحة الفنية التشكيلية لدى كل منهم هي عبارة عن مساحة رسمها أو صورها عواطف وروح الفنان وضمّنها أفكاراً وأهدافاً لتحاكي المتذوّق، فهي في النهاية عمل اِستخدم فيه مخيلته وعاطفته معاً مستندا على رؤييته للعالم بشكل عام مغاير لما يراه المشاهد العادي لتميز الذاكرة الصورية لديه الوفرة والخصوبة ، وھي إمكانيات يمتاز بها الفنان بمشاعره الفياضة وحساسيته المفرطة التي تتفوق على الإنسان العادي .

هناك تعليق واحد: