علَى مَدْرَجٍ للهُبُوطِ/ الأب يوسف جزراوي

 


مِنْ ديوانِ (في البَدْءِ كَانَ العِراقُ).


(١) كَعْكَةُ التَّرْحَالِ 


....................... 


في هَذَا العَامِ 


أَعِدُّواْ لعِيدِ مِيـلاَدِي كَعْكَةً 


بِتَصْمِيمٍ مُمَيَّزٍ وَمُختَلِفٍ


وَهِيَ خَارِطةُ الْعِرَاقِ! 


وَضَعُوا فِي مُنتَصَفِهَا  


صُورَةً لْبَلَدَانِ تَرْحالِي!


حَيْنَ هَمَمتُ بقطِعِها 


اِستَوقَفَتني بِتَسَاؤُلٍ: 


أ تودُّني مُقطَّعةَ الأوْصالِ 


وَمَا كُلُّ هَذَا التَّرْحَالِ؟!. 


فَألْقَيْتُ عَنْ يَديّ عَصَا الرِّحَالِ!. 


******************************* 


(٢) يَخْتٌ وسَمَكةٌ 


............................ 


فِي يَخْتِ صَيْدٍ 


وسَطَ بَحْرٍ لُجِّيٍّ 


والسَّماءُ لم يَزَلْ 


 ومِيضُ برقِها سَاكِنًا 


قَالَ الصَّيَّادُ للرُّبَّانِ: 


مَا بالُكَ مُضّطَرِبًا؟ 


مَا كُلُّ غَيْمَةٍ تَبْرُقُ تَجُودُ بِالمَطَرِ. 


ردَّ الرُّبَّانُ كلامَهُ بِالْقَوْلِ: 


لَا فُضَّ فُوكَ...


بَيْدَ أَنَّ الْعِبْرَةَ  


لَا تَكْمُنُ فِي هَذَا الأمْرِ 


فَلَيْسَ كُلُّ مَنْ أَمسَكَ الصِّنَارَةَ صَيّادًا. 


قُلْتُ لَهُمَا: 


وَلَيْسَ هُنَاكَ مِنْ سَمَكةٍ 


تَسْتَحِقُّ الْتضَّحِيَّةَ مِنْ أَجْلِهَا.


********************************** 


(٣) أَتْعَبَنِي ولَا يَتْعَبُ! 


................... 


أرْهَقني هَذَا الْقَلَمُ 


يُرَاقِبُني وَيُرَافقُني 


وكَالظِلِّ يُلازُمُني! 


أبْتَعِدُ عَنْهُ 


وَلَا يَنْصْرَفُ عَنّي 


أَلَيْسَ لِي لِبُرْهَةٍ أَنْ أُفَارِقَهُ؟! 


ألَا يسْتكِينُ؟


ألَا يمَرضُ  


كَما مرِضَ صَاحِبُهُ؟ 


فكُلَّما أمِيلُ بنَظَرِي عَنهُ 


أجِدُهُ يَقْتَفي أثَرَي وَيكتِّبُني! 


ومَا أَنْ أُبَارِحَ مَكْتَبِيِ 


 أُرَاهُ يَتَأَرْجَحُ عَلَى الوَرَقِ


يَلْعَبُ...يُدَخِّنُ...يُفَكِّرُ وَيَكْتُبُ


ثُمَّ يُشعِلُ الْحَرَائِقَ!


أَتْعَبَنِي هَذَا الْقَلَمُ ولَا يَتْعَبُ!!.


********************************** 


(٤) إِيَّاكَ مِنّي


.................


فِي سِيدني 


التَّي لَمْ تَسْتأْسَرَني


وَلَا انْشَّبَ قَلْبِي بِحُبِّهَا


 جَمعتني صَداقةٌ حمِيمةٌ مَعَ السِّيجارةِ


عَلَى الرَّغْمِ مِنْ غَلَاءِ ثَمَنِهَا!


فَكَم نَفَثتُ مَنْ نفْسُها


وأنَا أسبِرُ أَغْوَارَ الكلِمَةِ...


فمِنْ فرطِ صِدْقها


تُبَلِّغُكَ عُلْبَتُها


قَبْلَ أنْ تُدَخّنَها


بِحَجْمِ مضَرَّتِها!


لَكِنّهَا؛


يَوَمًا قَالت لِي عَنْ نَفْسِهَا


إِيَّاكَ مِنّي.


وََمَا فَطَمَتني


وَلَا فَطمتُها


وَلَا تَخَلَّيتُ عَنْ أنفاسِهَا!


فَإِذَا أقْلَعَتُ عَنْهَا


أفْتَقِدُ غمائِمَ دُخَانِهَا


وَلَن تعودَ البِحَارُ صَالِحَةً


 مُسوَدّةً لِمُؤَلَّفاتي


أو مُلاَئِمَةً لاِرْتِشَافَ قَهْوَتي


وَلَا اسْتَطيبُ لَيلَهُا!.


فللكِتَابةِ (مَهْنَةُ السَّهَرِ)


لَيْلٌ بهيّمٌ


فاحِمُ العَتَمَةِ


لَا يضيئهُ سِوَى


بَدْرُ الشّواطىءِ


وموسيقَى جيوفاني (Giovanni Marradi)


مَعَ كُوبِ قَهْوَةٍ بِالعَسَلِ!.


بَيْدَ أَنَّ قَمَرَ الإلهامِ لَا يَكْتَمِلُ


إلاَّ بِالسِّيجارةِ والتَأَمَّلِ...


 لِذَا مَا فَتِئَ القَلَمُ يُدَخِّنُ


وَعُصَارَةُ الفِكْرِ هُوَ مَا يَكْتُبُ.



*****************************


(٥) مِرْآةُ اليَرَاعِ 


................... 


فِي مَقهًى أَدبيٍّ بِبِلاَدِ الورودِ 


تَفُوحُ مِنْهُ نسائِمُ دَجْلَةَ 


 وَعَبِقُ الفُراتِ 


جَلَسَتُ أَكْتُبُ فِي دَفْتَرٍ  مَدْبُوغٍ 


بِالتَّبغِ وَالقَهْوةِ وَرِمالِ الْبِحارِ...


عَلَى حِينِ غِرَّةٍ 


هَروَلَ اليَرَاعُ 


مِنْ بَيْنِ الإبْهامِ وَالسَّبَّابَةِ 


نَحْو المِرْآةِ 


وَأطالَ النَّظرَ فِيهَا 


لَا لِغَرْضٍ تجْمِيّليٍّ 


وَإِنَّمَا لِيحَدِّثَ المَرَايا 


بِمَا عجِزَ عَنْ البَوْحِ بِهِ للقِرْطَاسِ! 


******************************* 


(٦) ضَوْءٌ مِنْ سَحَبٍ سَوْداءَ


...........................



 هُوَذَا ضَوْءٌ لَاحَ


مِنْ بَيْنِ سُحُبٍ سوداءَ 


وكَأَنَّ الشَّمْسَ تُصِرُّ عَلَى الظُّهورِ! 


ولَمَّا رَأَت دَجْلَةُ الفُراتُ


 الشَّمْسَ بَازِغَةً بِحَياءٍ 


 أَبْرَقَت لِي مَا يُبَشَّرُ بِهِ: 


-إنَّ صِغارَ النَّوْارَسِ 


 لَمْ تَزَلْ تُغنِّي فِي الأجْوَاءِ 


 حِينَها تَيَقّنتُ 


أنَّ العِراقَ لَدَيْهِ مَا يَقُولُهُ للْحَيَاةِ!.


************************** 


(٧) وَمْضَةٌ 


................ 


فِي رِحلةِ النُّزوحِ 


خبَّأَتُ بَلَدِي فِي قَلْبِي 


لِئلّا يَمُوتَ فِيَّ شَيءٌ مِنْهُ 


ولَكِنَّ الطّريقَ الَّذي سَلَكْنَاهُ 


لَمْ يسَعْنَا معًا!. 


************************* 


(٨) غَريبٌ أمْرُهُ 


...................... 


أَرّقني ذَلِكَ الوَطَنُ 


وأَضْرَمَ سُهَادَهُ فِي عَيِنَيّ!


يَسِيرُ وَلَا يَصِلُ 


أقْتَرِبُ مِنْهُ وَلَا أَدنُو


فكُلَّمَا جِئْتُهُ بِالوَصْولِ 


كَافَأني بِالتَّبَاعُدِ وَالْجَفَاءِ! 


وَكُلَّمَا أَقْدَمَ عَلَى المَجِيءِ 


إِمّا يَتِيهُ  عَنِّي


أوْ يتباطأ  إِلَيَّ


فيَضِلُّ الطّرِيقَ إِلَى مَحلِّ هِجْرَتِي!!.


فمَا لِي وَمَا للوَطَنِ؟ وَمَا للوطنِ وَمَا لِي؟


حَقًّا غَريبٌ أمْرُ  هَذَا الْعِرَاقِ


لَمْ أَنَلْ مِنْهُ مَنَالاً!!. 


**************************** 


(٩) عَلَى مَهِلكِ أَيَّتُهَا الْحَيَاةُ


.............. 


 مَضَى نَهْرُ العُمرِ مُسْرِعًا 


فَي دِيَارٍ بِلاَ نَخْلٍ 


لَا أَهْلٌ فِيِهَا ولَا دَيَّارٌ


وَمَا كُنْتُ سِوَى شِراعٍ مُتَزَلِّجٍ 


فَوقَ أَمْوَاجهِ 


رَغْمَ أَنَّ ريحَ النّهْرِ


لَمْ تَكُنْ يَوْمًا  


صَديقًا صِّدِّيقًا للشِّرَاعِ. 


***********************


(١٠) قَمَرٌ تَوَكَّأَ عَلَى صَدرِي


..............................


حصَلَ ذَاتَ غُرُوبٍ مَاطِرٍ 


 أنِّي تَوَكَّأَتُ عَلَى صَدرِ المَهْجَرِ    


فسَقَطتْ مِنْ عَينيّ دَمْعَةٌ عَزِيزةٌ 


 كَطِينَةٍ سَقَطَتْ مِنْ كَفِّ فَخّارٍ 


 وإذْ بِقَمَرِ السّمَاءِ 


يُلوّحُ إِلَيَّ بِعَلَمٍ 


خُيِّلَ لِي 


مَعرِفتي بِأَلْوَانهِ الْمَعْهُودةِ!!.


ثَمَّ رَاحَ يسابقُ زَخّاتِ المَطَرِ 


 لِيُكَفكَفَ دَمْعَي! 


 شَكرتُهُ وَسألَتُهُ: 


لِمَاذَا؟!.


اِرتَمَى بِحضْني


ومِنْ ثُمَّ سالَ دَمْعُهُ فبَكَى!


وعَرَّفَني بَعْدَ حِينٍ


أنّهُ قَمَرٌ عِراقيٌّ


كَانَتِ غَيْمَةُ الْأَحْزَابِ 


كَفِيلةً بِتَهْجِيرهِ مِنْ وَطنٍ 


 كُنَّا نسّكُنهُ يَوْمًا معًا


لِيُقِيمَ فِي بِلاَدِ الكنغر!.


فَكَيْفَ لَا يَبكِي العِراقيُّ وطَنًا


هاجَرَ مِنْهُ أو تهجَّر؟!.



**************************** 


(١١) رَمادٌ وغَليونٌ


.....................


فِي لَيْلَةٍ مَا 


مَرَضَ العِراقُ


فَخَضَعَ إِلَى عَمَلِيَّةٍ جِرَاحِيَّةٍ


وَأَرَسَّوا الدِّيمقراطيَّةَ فِي جَسَدِهِ...


 لَكِنَّهُ بَعْدَ مُضِيّ


عقْدٍ وََنيّفٍ مِنَ الزَّمانِ


ما تَزَالُ شَهِيَّتُهُ مَسْدُودةً


عَلَى السَّلامِ!


فَلَمْ يَزَلْ يَحشُو غَليونَهُ


بِرَمادِ الحُرُوبِ


وَ يُدخّنُهَا عَلَى الرِّيقِ!!


************************


(١٢) أحْلاَمٌ فِي زِنْزَانةِ الْكَوَابِيس


........................


الوِسَادَةُ مَهدُ الأحَلامِ


وزِنْزَانةُ الْكَوَابِيسِ


هَيَ كُرسيُّ اِعْتِرافٍ


وكَاتِمةٌ لأسْرَارٍ فَلَتَت 


مِنْ فَمِ مَنْ توسّدها إِبّانَ النَّوْمِ!


إِنَّها نَاقُوسُ الرّقيبِ 


وصَوْتُ الضَّمِيرِ!


فَالوِسَادَةُ ذَلِكَ الصُّندوقُ الأَبْيَضُ القُطْنيُّ


إِذْ ذوت 


فضَّت بَكارةَ الصَّمتِ


وغدَت مُحاوِرًا


 لَا يُنمّقُ الْكَلاَمَ!.


******************************


(١٣) عَلَى مَدْرَجٍ للهُبُوطِ 


.......................................



مِنَ منْفًى هُولَنْدِيٍّ


وَضَعتُ رِسالةً بِحَافِظةٍ زُجاجيّةٍ


وَشَحَنَتُها إِلَى ساسَةِ بِلَادِ الرَّافِدَيْنِ


عِبْرَ مَرْفأ روتردام (Port of Rotterdam)


كَرّتِ الأعوامُ وفرّتْ


ولَمْ أتَلَقَّ رَدًّا!


فقُلتُ لِنَفْسِي:


رُبَّما اِبتَلَعَتهَا الأمواجُ


أَوْ هَشّمَتهَا أَذْيالُ الحِيّتانِ


 لَحْظَةَ تَحَرَّتْ دُرُوبَهَا!.


رغْمَ هَذَا 


لَمْ يَغْزُ الْيَأْسُ عَزمي


فأعدتُ الكَرَّةَ


وأَرْسَلَتُ مَكْتوبًا آخَرَ


وَكانَتْ واسِطةُ الاتِّصالِ


هَذِهِ الْمَرَّةَ هِيَ:اللهُ.


وَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ


لَا مِنْ سَمِيعٍ أو مُجِيبٍ!


 رُبَّما الرَّبُّ 


لَا يُجِيدُ لُغَتي!


أَخِيرًا رَدَّدَتُ فِي سِرِّي:


عَلاَمَ لَا تُجرِّبُ حَظّكَ بِالبَرِيدِ الجَوِّيِّ؟


وَهَكَذَا فَعَلتُ


وَلَمْ يَأتِ جَوَابٌ أَيْضًا!


فطائِرَةُ البَرِيدِ 


تَعَثَّرَ عَلَيْهِا العَثّورُ


عَلَى مَدْرَجٍ للهُبُوطِ 


فِي بَلدٍ تُقصَفُ مَطَاراتُهُ بِالجُمْلَةِ!!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق