بعد قرنين من الزمان من ظهور الأئمة الأربعة ـــــــ مؤسسو المذاهب الفقهية الكبرى مالك بن أنس ، الشافعي ، أبو حنيفة وابن حنبل وترسخ مذاهبهم واجتهاداتهم الفقهية في العالم الإسلامي المترامي الأطراف ــــ ظَهر فقيه وعالم في العقيدة والشريعة اسمه ابن حزم الأندلسي . عاش في الأندلس ؛ البلد المُتحضر ، الغني ، الجميل والبعيد عن مكة والمدينة موطنا كبار الصحابة والتابعين ..
وقد ظهر في عصر ملوك الطوائف ، أي في مرحلة عاصفة ،في أوج الصراعات السياسية والحربية بين الملوك الذّين اقتطعَ كل أمير أو قائد عسكري مدينة أو إقليم وادعى لنفسه الأحقية في الخلافة بعد زوال الحكم الأموي القوّي .
كان عصر ملوك الطوائف عاصفاً مليئاً بالنزاعات ، فوقف ابن حزم ضدهم ، وكان يُؤلب الفقهاء والعلماء ضدهم فعادوه وأرادوا النيل منه فاُدخل السجن مرات وأُحرقت كُتبه في اشبيلية بأمر من المُعتضد بن عباد..
واستمر مُطاردا متنقلاً من إقليم الى أخر حتى تُوفي بمسقط رأسه بِمنت لِيشم سنة 1064 م عن عمر يُناهز السبعين سنة .
ورغم أن المؤرخون يذكرون أن المذهب الظاهري كانت له أصول في المشرق إذ أنشأه الإمام المُجدد داوود الظاهري غير أن ابن حزم هو الذّي أخذ به وأصلّه وتوسع فيه ونشره بين الفقهاء وعامة الناس في قرطبة ، غرناطة ،ميورقة وبلاد الأندلس عامة .
وقد امتاز ابن حزم بالاطلاع الواسع على مذهب أهل الأندلس ؛ المذهب المالكي وغيره من المذاهب الأخرى ، وكان مُتعمقاً في العقيدة الإسلامية والتفسير والحديث الشريف والمنطق والتاريخ والشعر وفلسفة اليونان..
والمذّهب الظاهري في عمومه لا يُحبذ التأويل والرأي وإنما الاعتماد على ظاهر النص القرآني أو الحديث الشريف ولا حاجة للتأويل الذّي يخضعُ للرأي الذاتي أو الفهم الشخصي، وإذ اختلفت الإفهام تختلف الآراء ، فيحدثُ التباعد والتعصب و الفرقة السياسية ، ويُؤكد رجال التاريخ أنه لولا أن ابن حزم نشأ في أسرة غنية خَدمت بني أمية في أيامهم الأخيرة لكان لمذهبه الانتشار والذيوع ، لكن لا أحد من ملوك الطوائف كان يرتاح لفقيه وعالم يميل للأمويين ؛ فكان حظ مذهبه مثل حظ الطبري في المشرق..
ورغم ذلك كان له تلاميذ عبر العصور يأخذون بمذهبه أشهرهم محمّد بن علّي الشوكاني ، كما تأثر به من علماء المذاهب الأخرى الكثيرون فأخذوا عنه مثل ابن تيمية ، الذّهبي وابن القيم ..
وبقي من تراث ابن حزم الثرّي والمتنوع، الذي قارب الأربعمائة كتاب بين منسوخ، مطبوع ومفقود ومُترجم الى لغات العالم العديدة..
طوق الحمامة في الألفة والألاف حول الحب ومظاهره ، وهو كتاب طريف في نوعه ، يُقال بأنه أدقّ وأوسع ما كتب العرب في دراسة الحب وأسبابه ومظاهره وأطواره ، ويُقال أيضا بأن له كان الأثر الحاسم في تطور قصص الحب العذري في أوروبا ..
كتابه الموسوعي الفصل في المِلل والأهواء والنحل ، درس فيه وحلل الأديان والفرق والمذاهب وقارن بينها ، ويُعتبر أول ما كُتب في علم مقارنة الأديان ، وقد ترجم الى لغات عديدة وعُني به المستشرقون ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق