تصدرت تفاصيل مأساة مقتل الشاب أحمد موسى حجازي، ابن مدينة طمرة الجليلية، نشرات الأخبار، وأشغلت تداعياتها صفحات المتعاطين بوسائل التواصل الالكترونية؛ حيث تولّد مشهد قد يوحي وكأننا أمام حدث مفصلي هز أركان مجتمعنا العربي ولن يكون مصيره مثل مصير سائر عمليات القتل التي حصدت، في السنوات الأخيرة، أرواح مئات الأبرياء من أبناء مجتمعنا.
ذاكرة الناس قصيرة وغريزة الحياة عندهم، كانت وستبقى، أقوى من الألم وأثبت من الغضب؛ وإن أقسم أجدادنا الميامين بأن تبقى آمالنا وذاكرتنا "أقوى من النسيان" ، فعلينا، كما فعلوا، أن نحرس بيادرنا وأن نحمي دماء ورداتنا كي يبقى الفجر في قلوبنا باسمًا وأحمر. لا أعرف من سيكفل ذاك الغد الأزهر والآمن ولا كيف؛ فنحن، كما قلت مرارًا ، نعيش في زمن المحنة الكبرى حيث يكون الخوف فيه سيّدًا في المواقع وتكون المداهنة والتقية من الأشرار ضمانات ومآوي آمنة؛ فأيامنا سوداء مثل ليالينا وجميعها حلقات من شر وعجز وعدم.
ربما ساعد توقيت هذه الحادثة في أبراز بشاعتها وجعلها تبدو كأنها مميزة ومختلفة عن سابقاتها؛ فلقد وقعت في أجواء مشحونة بأخبار الانتخابات المقبلة وباستعار الخلافات بين رئيس الحركة الاسلامية، منصور عباس، وباقي شركائه في القائمة المشتركة؛ بينما كانت تحاول، في نفس الوقت، معظم الأحزاب الصهيونية اليمينية تأمين حصص لها من أصوات الناخبين العرب.
دار أحد محاور الخلاف بين منصور عباس وحركته الاسلامية من جهة وبين باقي مركبات القائمة المشتركة من جهة ثانية، حول شرعنة التعامل، التي دعا اليها في حينه النائب عباس، مع بنيامين نتنياهو، والى أي مدى يمكن الاعتماد عليه وعلى وعوده التي طفق يوزعها باسهال واضح في اطلالاته الصحفية، بالعمل مع حكومته المقبلة على مواجهة العنف المستشري داخل مجتمعاتنا العربية والقضاء على منظمات الاجرام والتصدي لظواهر القتل والاعتداءات على مختلف أنواعها؛ علمًا بأنه كان يرأس الحكومة الاسرائيلية، بصلاحيات شبه مطلقة، لعقدين من الزمن، ولم يفعل شيئًا خلالها في هذا المضمار ولم يمنعه أحد من ذلك. وبينما كانت وتائر هذا الخلاف تتصاعد داخل المعسكرات العربية كان بنيامين نتنياهو يسجل أهدافه في الشِباك العربية المخروقة، حتى انه قام بتدشين موقع الكتروني باللغة العربية لتمكينه من التواصل مباشرة مع الناخبين العرب.
لم يتوقع نتنياهو تفجّر المواجهة المسلحة في شوارع مدينة طمرة كما وثقتها الكاميرات ونقل تفاصيلها المواطنون الذين كانوا شهودًا عليها؛ لكنه يعلم اليوم ،من دون شك، أن الرصاص الذي شق أزيزه صمت المدينة، قد عرّى، في مفارقة غريبة، كل أكاذيبه وكشف عن واقع لا تعيشه طمرة فحسب، بل يعاني منه كل مواطن عربي صار يدرك أنه حين يغادر بيته فإنه قد يعود إليه في كفن.
ولكن مشكلتنا ليست في ما يعرفه نتنياهو وقادة اسرائيل، أو يدّعون بأنهم لا يعرفونه، بل مشكلتنا في ما نعرفه نحن ونتصرف وكأننا نجهله؛ فكثيرون منا على يقين بأن نتنياهو، وجميع من سبقوه في حكومات اسرائيل وأجهزهتها الأمنية، خاصة في وزارة الأمن الداخلي، يعرفون كل الحقائق بتفاصيلها الحساسة والدقيقة، لا سيما ما يتعلق بمصادر السلاح الذي يصل لمخازن منظمات الاجرام أو الموجود في بيوت الناس العاديين؛ وكثيرون مقتنعون انه لو نوى نتنياهو واجهزته الأمنية القضاء فعلًا على ظواهر القتل والعنف داخل المجتمع العربي، للاحقوا المسؤولين، زعماءَ وجنودًا، عن انتاجه، ولطاردوا ونظفوا شوارعنا ممن يعيثون فيها فسادًا ويملأونها بالموبقات وبالمخدرات، ولأعادوا لحياة أهلها السلم والأمن والطمأنينة؛ لكنهم لا يفعلون ذلك عن قصد بهدف تحويلنا الى مجتمع يعيش في غابة وحشية تحكمها فوضى السلاح وتسيطر على سكانها حالة من القلق السديمي العقيم، فيقتل أفرادها أو يغتصبون بعضهم بعضًا، على طريقة "دعوهم ينزفون" واتركونا نبني ممالكنا وعروسها: الدولة اليهودية.
فلنتفق اذن على أن مؤسسات الدولة التي يجب أن تكون، في الوضع السليم، كفيلة بمحاربة الجريمة وبملاحقة المجرمين وبالتصدي لظواهر العنف على أشكاله وبضمانة سلامة المواطنين وأمنهم المجتمعي والفردي، ليست معنية، في حالتنا، نحن المواطنين العرب، بالقيام بمسؤولياتها الطبيعية؛ بل على العكس، فوفقًا لعدة شواهد وبراهين، قد تكون معنية باذكاء نيران الجرائم أو ببعضها وبعدم العمل على محاصرة أو إيقاف ألسنتنا الحارقة والقاتلة.
ولنتفق أيضًا على أن الأوضاع الإجتماعية بيننا آخذة بالتدهور، وعلى أن آفات العنف والقتل تتفاقم ليس بسبب سوء تشخيصنا لمسبباتها ولا لأننا لا نعرف من هم المسؤولون عن حدوثها ومن يغذيها، بل على الرغم مما نعرفه.
ولنتفق أيضًا على أن المسؤولية المباشرة عن جرائم القتل وأعمال العنف المستشري في أوساطنا لا تقع كلها على ما يسمى بعصابات الاجرام المنظم، فبعضها يتغذى من "موروثنا " الاجتماعي البالي وبعضها يستفحل بسبب ضمور منظومة القيم الواقية وضياع ما كان يشكل كوابح هوياتية وطنية واخلاقية ناظمة لسلوكيات الأفراد والتي كانت أمامهم روادع صارمة لا يجوز تخطيها.
واذا اتفقنا على أن هذه المسلّمات صحيحة وأجمعنا عليها، واذا بقينا ملتزمين بمطلبنا الذي لا يمكن التنازل عنه: "لا للعنف ولا للقتل بيننا " من جهة، وبموقفنا المبرر سياسيًا "لا للشرطة الاسرائيلية" غير المعنية بالقضاء على الجريمة عندنا، من جهة ثانية، فسيبقى السؤال/ المعضلة مجلجلًا: من قادر على ايجاد الحل وانقاذنا من هذه الهاوية ؟ وما هو هذا الحل المأثرة ؟
لقد تطرقت في الماضي لهذه الاشكالية في محاولة مني الى استدراج نقاش يتعدّى مهمة توصيف الحالة او الاكتفاء بإطلاق المواقف العامة والتوقف عند تأثيم الشرطة الاسرائيلية والمطالبة بعدم التعاون معها، فسجلّها، هكذا كتبت، "حافل بالفشل وسلوكها خبيث وتاريخها ينضح قمعًا ورصاصًا، ومفاهيم تعاملها مع الجماهير العربية معطوبة ومبنية على عداوة متأصلة؛ وكل ذلك واضح ومثبت، لكنه غير كاف لتبرير قصور وعزوف القيادات العربية ومؤسسات المجتمع السياسية والمدنية وفشلهم باجتراح وسائل لكسر هذه القلائد الخانقة؛ فمن واجب القيادات المسؤولة ايجاد الحلول الضامنة للعيش السليم ولمواجهة والخروج الآمن من الجوائح والآفات التي يرزح تحت أعبائها المجتمع" .
ومضت السنون وقد ازدادت الاوضاع سوءًا؛ فمعظم المواطنين، مثل الشرطة، يعرفون الحقيقة، وأمسى جميع الفرقاء كأنهم يعيشون مع بعضهم في حالة من "الهدنة الخبيثة"؛ فالدولة تشعر بنوع من "الراحة" وهي تتعامل مع مواطنيها العرب بهذه الرعونة والأذى؛ وبالمقابل، تزداد الاصوات العربية الداعية الى عدم التعاون مع الحكومات الاسرائيلية وتستند في نداءاتها هذه إلى ممارسات الشرطة الوحشية والعنصرية ضد المواطنين العرب؛ ويبقى المستفيدون، على جميع الأحوال من الوضع القائم، سادة عالم الاجرام وآباء التخلف وأصحاب الخناجر وسيافو الزهر.
العيش في مجتمع تتنازعه حالتان عبثيتان تدفعان أفراده للانخراط في واقعهم الدموي، حتى انهم يتحولون تلقائيًا، بوعي أو بغيره، الى عناصر منتجة لذلك الواقع من خلال صمتهم أو نأيهم عنه او باستظلالهم داخل حناياه أو بالاستفادة من "قبْضاته" أو "قبَضاته".
وينادي بعض الغيورين من بيننا الى التخلي عن الحلول المكرورة والتقليدية والبدء في بناء مجتمع جديد، وذلك بالاعتماد على قوانا الذاتية ومن دون التعويل أو التوجه إلى الدولة ومؤسساتها؛ قد يكون في هذه الفكرة، علاوة على حسن النية، قطرة من دواء، لكنها لن تكون شافية، فمن قادرٌ على رسم أول الخطى وأين هم البنّاؤون الأكفاء الحقيقيون بيننا؟ هو السؤال المعضلة الباقي؛ فبناء مجتمع جديد في حين يعشّش الخوف في عظام وصدور معظم افراده وهم يهرولون وراء هدير دعاء واعد ويرقصون على ايقاع هتاف نابض، سيكون أمرًا أعز من رسم حلم ناموسة؛ ومهمة هندسة مجتمع كي يصير حصينًا، في واقع يقوده كثرة من هواة من السياسين وبعض من وعاظ الرؤساء والسلاطين ستكون أصعب من إدخال جمل في خرم إبرة.
انا لا اعرف كيف يبنى مجتمع جديد في بدايات تكوّن عصر انحطاط شامل؛ لكنني أعرف كيف ستكون، بعد أيام مدينة طمرة وباقي أخواتها الثاكلات: ستعود كما كانت قبل سقوط أحمد، مدينة جريحة وحزينة وحائرة أو ربما أسوأ. وأما الناس في مواقعنا فسيلوذون الى مخادعهم وقواقعهم، تمامًا كما تملي عليهم غريزة البقاء، وسيبقون، بمشيئة الخوف والحرص والمنفعة، أفرادًا ينتجون همومهم وأفراحهم ويبنون/يهدمون مجتمعهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق