مجموعة من الأفكار والأسئلة والمفارقات أثارتها الندوة التي عقدها مساء السبت 20/3/2021 منتدى "شرق وغرب" الثقافي في الإمارات ونادي "ليل" الثقافي في فرنسا من أجل إحياء ذكرى الشاعر مريد البرغوثي لمناقشة كتاب "رأيت رام الله"، وشارك فيها نخبة من الكتاب والأكاديميين، وتمت عبر تطبيق زوم.
أول تلك الإشكاليات هو اختصار شاعر بحجم مريد البرغوثي بمناقشة كتاب نثري، مع أنه لم يعرف عن مريد أنه ناثر أو مكثر من النثر عدا كتابيه "رأيت رام الله" و"ولدت هنا ولدت هناك"، حتى أنه لم يكن من كتاب مقالات الرأي ليكتب بشكل دوري في الصحف الكبرى والمجلات كما هو حال كثير من المبدعين العرب. ومن المفارقات التي أحدثتها الصدفة، وهي مفارقة لا تنفكّ تلاحق مريد البرغوثي حتى بعد رحيله أن يذهب به المنتدون إلى منطقة ليست منطقته، وإن ترأس في سنة من السنوات لجنة تحكيم جائزة البوكر للرواية العربية، ولو أراد المرء أن ينظر إلى هذا الحدث بعين الرضا، فلا ينظر إليه إلا من باب التكريم المعنوي، وليس لأنه روائي كبير، أو ذو بصمة نقدية في مجال الرواية، وهذه مفارقة إبداعية تضاف إلى رصيده الزاخر بالمفارقات.
لذلك، ولاعتبارات فنية تتعلق بالطاقة الإبداعية يعتبر مريد البرغوثي شاعرا وليس أيّ شاعر!سخّر كل حياته للشعر، فهو جدير بلقب شاعر، هذا اللقب الذي اكتسبه أول ما اكتسبه عندما تصادف أن نشر أول قصيدة له في الجريدة صبيحة الخامس من حزيران عام 1967 كما يذكر في كتابه "رأيت رام الله"، إنها مفارقة أخرى، بل لعلها أم المفارقات التي ظلت مواكبة لمسيرته الإبداعية، مفارقة قتلت إحساس الفرحة عنده، وكأن الشعر ارتبط لديه بالخسارات والهزيمة تلك المعاني التي تشيع في قصائده كأنها العصب، فلا تكاد تسلم قصيدة من قصائده على امتداد عطائه الشعري من نبرة الحزن إلى جانب نبرة السخرية السوداء المرة والمفارقة، إضافة إلى أن شعره قد انغمس بسبب هذا الحزن الوجودي العميق في اليومي والمعيش، وظهر في كثير من قصائده.
لقد امتاز شعر مريد أيضا في جزء منه بمزجه بين النوعين من الشعر، شعر الشطرين والشعر الحر على صعيد القصيدة الواحدة كما هو في ديوان "طال الشتات"، ما يعزز لديّ فكرة أن لا ارتباط بين الشكل والمضمون، وأنه ليس صحيحا أن الشعر الكلاسيكي الخليلي هو انحياز أصولي تراثي ديني، وأن الشعر الحر انحياز حداثي تقدمي، فقد وجد هذان الشكلان من الشعر عند كثير من شعراء الحداثة العربية أمثال: محمود درويش وسميح القاسم وأدونيس وسعيد عقل وأمل دنقل ومظفر النواب ونزار قباني وبدر شاكر السياب وغيرهم الكثير، وكنت قد ناقشت هذه المسألة مطولا في بحث سابق.
ولم يكن شعر مريد كله مطولات كذلك، بل إنه من أوائل الشعراء الذين كتبوا القصيدة القصيرة، وسبق أن وقفت عند هذه الظاهرة في شعره في كتابي "بلاغة الصنعة الشعرية"، حيث ناقشت ظواهر متعددة فنية في الشعر الحر من بينها حضور القصيدة الومضة في شعر الشعراء، ومنهم عدا مريد الشاعر سميح القاسم على سبيل المثال.
إضافة لكل تلك السمات الفنية التي طبعت شعر مريد البرغوثي يجد القارئ لشعره اللغة السهلة التي تتعمد الغرف من لغة اليومي والمعيش كما في قصيدة "غمزة" من ديوانه "رنة الإبرة"، أو كما في قصيدته عن الحب الذي يقرر فيها أن "الحب في الحياة غير الحب في القصائد"، ويضمّنها موقفا نقديا من شعر الغزل العربي حيث دائما تلك الصورة المثالية للحبيبة، فلا يوجد من لها سن مكسور أو شعر جعدي مثلاً. وكنت قد أشرت إلى هذه القصيدة في معرض دراستي للسخرية في شعره.
وعلى صعيد آخر متصل بالشعر وحضوره في حياة مريد البرغوثي، لا بد من أن يلتفت المرء إلى حضور ابنه الشاعر تميم البرغوثي، ومن المفارقات التي ربما لم تكن تؤلم الشاعر الأب أن ابنه تميما هو السبب في معرفة القراء له على نطاق واسع، وذلك عندما أعلن تميم- مفتخراً- نسبه وقريته، وأنه ابن لمريد وأن أمه رضوى عاشور في قصيدة له في برنامج أمير الشعراء.
لعل هذه النقطة بالذات تعيد إلى الذهن حالات مشابهة من المقارنة بين الأب وابنه شعريا أو فنيا كما وازن النقاد مثلا بين حسان بن ثابت وابنه عبد الرحمن، وكانت دائما ترجح الكفة لصالح حسان كونه شاعرا مخضرما وذا بصمة في الشعر العربي في جاهليته وإسلامه، والشيء نفسه يقال عن الموازنة بين تميم ومريد، فالموازنة النقدية الجادة بينهما ستجعل مريد شاعرا ذا موهبة فذة وقدرة عالية في التمكن الشعري على مستوى المعجم اللغوي والمعاني والأفكار والصورة الشعرية والانتماء للشعر، بل لقد لاحظ الجمهور الفرق بين الشاعرين عندما التقيا في أمسية شعرية، أقيمت في عمّان إحياءً لذكرى رضوى عاشور والإعلان عن كتابها الأخير الذي نشر بعد وفاتها "لكل المقهورين أجنحة".
لقد شكل هذا الثلاثي عائلة كلهم كانوا كتابا، ولكن لم يطغَ أحدهما على الآخر الطغيان الذي ينسى فيه الجمهور أحدهم على حساب الآخر، فمريد لم يؤثر في شعبية تميم، بل إن تميماً في جماهيريته السريعة كان ذا أثر إيجابي جدا على الأب، لكن إلى حد التجاور معا كنجمين مضاءين، ولم يكونا أبدا كفرسي رهان متنافسين، والشيء نفسه يقال عن علاقة رضوى بمريد، فعلى الرغم من أنهما زوجان، واستمر زواجهما إلى أن افترقا بالموت، لم يكن شائعا جدا بين القراء أن رضوى عاشور هي زوجة مريد البرغوثي، فكانت لها مساحتها الإبداعية التي تتحرك فيها بعيدا عن ارتباطها بمريد، فكونها ناقدة وروائية وقاصة لم تكن لتطغى في صورتها على مريد، ولا هو بشاعريته وحضوره كان عاملا سلبيا في التأثير على حضورها الإبداعي، عكس حالات كان للزوج الأديب أو الشاعر أثرا سلبيا في شهرة الزوجة كما هو الحال مع سنية صالح وملكة أبيض وخالدة سعيدة على سبيل المثال، فقد كانت أولئك الأديبات ظلالاً، ولم يكن يتمتعن بالشهرة ذاتها التي تمتع بها أزواجهن؛ محمد الماغوط، وسليمان العيسى، وأدونيس على الترتيب. عدا أن هناك حالات انتهى بها الأمر إلى الطلاق بسبب نوع من التنافسية بين الزوجين، كما تذرعت بذلك مرّة الكاتبة الكويتية ليلى العثمان ملمحة أن سبب طلاقها من الكاتب الفلسطيني وليد أبو بكر هو هذا التنافس الصامت بينهما ككاتبين.
ومن زاوية أخرى فإنه وكما طرح الدكتور عادل الأسطة في إحدى مقالاته عن مريد البرغوثي، وأعاده في ندوة شرق وغرب هذه، أن مريدا في كتابه "رأيت رام الله" قد تأثر برواية رضوى عاشور "الطنطورية" في الحديث عن الأخ الأكبر، وهذا يفتح مجالا للبحث في أثر الأزواج الكتّاب، أحدهما في الآخر، والتناص معه، أو محاورته، وليس المقصود هنا كتابة أحدهما عن الآخر كما كتبت خالدة سعيد عن أدونيس نقداً، ولا كما كتبت عبلة الرويني عن أمل دنقل بعد رحيله شيئا من سيرته الذاتية.
يبقى مريد البرغوثي شاعرا وشاعرا أولا وقبل كل صفة، وإن لم يأخذ حظه من المناقشة النقدية الشعرية في هذه الندوة، وإن فاز عام 1997 مناصفة مع يوسف إدريس بجائزة نجيب محفوظ في الإبداع الروائي على الرغم، وهذه مفارقة أخرى؛ أن الكتاب الفائز بالجائزة "رأيتُ رام الله" ليس رواية، فقد كان يكتب مريد جانبا من سيرته الذاتية وعلاقته برام الله وقريته دير غسانه، ولا أدري من أين جاءت صفة الرواية لتجنيس الكتاب، فقد قرأته في طبعته الأولى، وليس فيه ما يشير إلى أنه رواية، بل إنه يتحدث في ثنايا الكتاب عن عودته هو "مريد البرغوثي" العائد بعد اتفاقيات أوسلو وذهابه إلى قريته ويجسد بعض ما حدث معه فعلا، بمعنى آخر، فإنه بالمفهوم النقدي الروائي لم يكن يكتب نصا متخيلا، وإنما النص كله بشخصياته وأحداثه تحيل إلى الوقائع المشهودة في قريته أو الأماكن التي تحدث عنها. وربما رأيت في ذلك مفارقة أخرى، تضاف إلى المفارقات الأخرى، ليكون مريد البرغوثي شاعر المفارقات الحادة التي تشي إلى سخرية مريرة غلّفت حياته وشعره والنشاطات التي تحتفي به.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق