وَمِنَ الحِكَايَةِ بَعْضُهَا/ الأب يوسف جزراوي



فِي مِثْلِ هَذَا الْيَوْم

التّاسعُ مِنْ نَيْسَان

طوَّقَ حِزَامُ الْمَوْتِ عُنق بلدي

فَوَضعتُ أذنيّ 

عَلَى قَلْبِ مَدْيَنَتي

وَلَمْ أسمع نَبضها

**

وَحِينَ فَرَضَ الغَزَاةُ 

حَظْرًا للتَّجوُّلِ

عَلَى أحْيَاءِ عَاصِمَتي

لم أرَ إلّا المُدَّرعات

تُطْبَقُ جَفْن الطُّرُقاتِ!

**

وَحِينَ رأيتُ النّخلةَ

تبكي عَلَى صَدرِ الفُرَاتِ

عَرَفَتْ أَنَّهُ مَخَاض النّخيل

وأنَّ عددَ الكَوابيّس

قَدْ فاقَ الأحلام.

**

وَلَحْظَة اِقتلعوا الوردة مِنْ جذورِهَا

وكأنّهَا عَشِبة ضَارة

فِي حديقةِ الوطنِ

أدْرَكتُ أنِّ العِراقَ بدء

يلفظُ سكانه الأصليين

قبل أنْفَاسه الأخيرة!

**

وَلَّما أوْصَدوا أبوابَ البِيَعةِ

فِي وُجُوهِ أطفالِ رَعيّتي

سمعتُ المآذن تَرْثِي بِلَوْعَةٍ

أجراسًا نَسِيت آحادها...

**

وَحِينَ أَبْصَرتُ الاحْتِلاَل

يبيح بيع السّلاح 

جِهارًا نَهارًا فِي كُلِّ مكانٍ

تيقنتُ أنَّ القتلَ قَدْ شاع...

**

 وَعِنْدَمَا جَسّوا نوابضَ كَلِمَتي

وجَّهَ الدَّخلاءُ فُوَّهة أسْلِحَتِهم

صوبَ رأس قلمي

فاِسْتَشْهَدت أَزْرَارُ حُلَّة كَهَنُوتِي

إثر رصاصة طائشة أو مُتَعَمِّدة!

**

وَحِينَ وَجَدْتُ ساسة الصُّدْفة

اِنشطروا إِلَى شَطْرَيْنِ

 الْأَوَّلُ: حنّطَ الوطنَ المَصْلوب!

الثّاني: خَدَّرَ بَلدًا نالهُ الثَّرَى

وَ أَجْرَى لَهُ عَمَلِيَّة القَلْبِ المفتوح!!

عرفتُ أنَّ الوطنَ

غَدَا ككَذْبَةِ نَيْسَان!!

**

وَلَّما رأيتُ الطَّائِفيّةَ

غَرَست (الراءَ)

بَيْنَ (الحاءِ) و (الباءِ)

وَفَتَكت بِوَحْدَةِ شَعْبي المُتنوِّع فَتْكًا

اِنْقَطَت الكهْربَاءُ فِي رُوحي!

حِينَها رَكَلتُ باب الوطن

ورحلتُ عَلَى مَتْنِ سيارةِ أُجْرةٍ

 نوع GMC

أُخِبئ العِراق فِي قَلْبِي 

 فَالْقُلُوبِ عَلَى الْحُدُودِ

لاَ تَخْضَعُ للتَّفْتيشِ...!

**

رحلتُ فَارًّا بجَلَدِ وطني

إلى الحُدودِ السُوريّةِ

 وَالخَوَاءُ فِي جيبي

وَبَيْنَ أَصابِعِ رُوحي سِيجَارةٌ

َتنْفِثُ  رَائِحَة اِحترَاقي

 بَيْنَمَا صَدْري اِلتَظَى

بِجَمْرَةِ أَسَى الفِراَقِ!

**

مَضيتُ وَفِي ثيابي عَبِق الْفُرْن

الذَّي خَبَزت فيه أُمّي

رغيف عشاءنا الأخير

فَبَقيَ طَعْمُ مِلْح دموعها 

فِي فَمِي!!.

**

غادرتُ بِحُزنٍ آلَمَني 

اِلتَحَفَ ببكاءٍ وَشيكٍ

لكَنَّ الدَّمْع لَمْ يصمدْ طويلاً

فَفِي نقطةِ الْمَعْبَرِ

جَثْوتُ عَلَى رُكْبَتَي

لاطبَعُ قُبلَةً مُبَلَّلة بِالغُصّةِ

عَلَى جَبينِ الوطنِ...

 وَمَا إنْ وضعَ قَلْبِي 

أوّلى أقَدَامه فِي الغُربةِ 

سَقَطت عَنِّي السِّيدَارَةُ

وَتَاقَتِ الْعَيْنُ بِدَّمْعٍ بَغداديٍّ

لسعَ أَسْفَلْتَ الْشَّوارِعِ فِي القامشلي!

 بَلَى وَاللَّهِ بَلَى..

 لَقَدِ بكيتُ كَطَائرٍ

حَطَّ بِعشٍ غَيْرِ عشهِ..

وَلَيْسَ مِنَ المَعِيبِ

أنْ يَبْكِيَ غريبُ الدِّيارِ وطَنًا...

**

وَلمَّا مَضَتْ الأَياَّمُ 

وكأنّها الدّهْرُ

عَكَفتُ عَلَى رَدَمِ حُزني

 وَتَرْميمِ نَفْسِي بِالصَّبْرِ

فقُلتُ فِي سِرِّي:

لَا تَبكِ يَا أيُّهَا العراقي

إنّهَا مُجرّدُ غفوةٍ

عَلَى سَريرِ الاِغْتَرَبِ..

وَلَمْ يَدرْ فِي خَلَدي

أنّي سأغرَقُ بِنومٍ طويلٍ

إِلَى يَوْمِنَا هَذَا!!

**

هَكَذَا كَانَ مشهدُ النُّزُوحِ

وَلاَيَزَالُ ذَلِكَ الكَاهِنُ البغدادي

المعمّذ بماءِ الفُراتِ 

 يَحِنُّ إِلَى جذورهِ الضّاربةِ

في أَدِيمِ أرضٍ

كَانَت لَبِنةً  

للحَضَارَةِ وللشِّعراءِ وَالْعُلَمَاء..

رَغْمَ أَنَّ لَيْالّيها

 لَمْ تَعُدْ زهرةً وَقِنديلاً

عَلَى مَوَائِدَ السَّلامِ!!

**

 حِكَايَةُ نُزُوحٍ وَوَجِعٍ

أوْسَعُ مِنَ الْكَلِمَاتِ

عَنْ بِكْرِ البُلْدَانِ

لَهُ فِي سَرِيرَتَيّ مَودَّة

كَوَجْدِ الزّهرِ للنَّدى!

إِذْ طُوبَى لِمُغْتَرِبٍ

ظَلَّ قَلبِهُ ينبض بِحُبِّ بِلاَدهِ.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق