في قراءتي للمجموعة الشعرية ( حبٌ الرمان) للشاعرة أميرة عيسى والمجموعة الشعرية (خيال على حصان طائر) للشاعر محمد الديراني الصادرتان عام 2020 في سدني ، ألفتَ نظري الى ما يجمع الشاعرين من طموحات وانكسارات عكستهما نصوصهما الشعرية حيث يمكن أن نرصد ميلهما لكتابة القصيدة القصيرة متخذين منها مرتكزا بنائياً في هيكل القصيدة.
منذ الوهلة الأولى يطالعنا التعالق الواسع بين الحرية والخيال ؛ فالعنوان يضعنا أمام إزاحة أجناسية فبدءً من عنونة المجموعتين نجد هناك اتساع للدلالات عبر ذاكرتهما لاستعادة صورة الآخر عبر صور غنائية جميلة تتمسرح فيها أنا كل منهما وتمنح نصوصهما كثافة دلالية تتحصل في رغبة كل منهما في توسيع دلالاته الى مدى ما يصله الخيال والامساك بالآخر .
إن الولوج في أعماق المجموعتين بصرياً ، أو تخيلاً ، لابد وأن يكونِ عِبر العتبة الأولى ( العنوان والاهداء) التي هي في الأساس المثابة التي ترشدك إلى الجهة التي تنوي الوصول إليها ، فإذا ما عانقنا العتبة النصية الأولى (حبٌ الرمان ، خيال على حصان طائر ) وفي إهدائها للمجموعة نجد ثمة شواهد أكيدة على اجتماع عناصر الغنائية وتآلفها داخل النسيج الشعري لكل قصيدة .
تقول الشاعرة أميرة عيسى ( الى كل من يعشق الحرية ويسعى الى الانعتاق ) فتقول في قصيدتها ( حبٌ الرمان ) :
ومن بعيد ...
لاحت جزيرة خرافية
فيها حوريات ...
فرشنٌ شعورهنٌ على الرمال
ينشدان أغنيات ... العشق والهيام
العالم أصبح جزيرة أسطورية
الماء من حولها يتلألأ
وكأنه النور المسال ...
وهكذا في صفحة الغلاف :
أنا وأنت .. ورابعة .. والحلاج
نتصاعد كالمسيح ..
بقوة الانبلاج
ملائكة الحب .. تحلق حولنا
وبعطر الياسمين ..
تسقى حقولنا
كذلك يختتم الشاعر محمد الديراني إهداءه بـ ( إلى كل من يحب الشعر ويعشق الحرية ..) فيقول في قصيدته ( الحصان الطائر) :
كلما حدَتِ الريح السحاب
اعلمي ...
هناك جناحاي ... يهدئان ... لهفتي
وشغفي ... لشهد ... الرضاب
أمتطيت ... صهوة آلامي
لأنثر الفرح دون العذاب
فما وجدت ... سوى همومي
ومرت حياتي ... كالسراب
وهكذا في صفحة الغلاف :
أخاف من كل الأضواء
تدور حولي .. تغير شكل الأشياء
وتراقب كل حركاتي ... حتى قولي
تعصر من مخيلتي ... الألم
وما ينزفه القلم
فالملمح العريض للنصية الغنائية لدى كل منهما ، يتجسد في حضور الذات على شكل ( حركة الانا ) في النظام الطموحي ؛ فتنحاز قصائدهما الى ما يشبه الهاجس اليومي ، حيث يحضر الآخر بوصفه رمزا وتحضر (أنا) كل منهما بوصفها انعكاسا لصورة الآخر عبر سيل من الصور ، لذا تراهما يشتغلان على دلالة الذات بوصفها الفضاء الحضوري ، فتنبثق الذات من خلال الصورة ، وتنبثق الصورة من خلال ذاتهما .
لكن الوحدة النصية الآنفة ، أحيانا تصطدم فتتعالى الأمواج وتنكسر ومن ثم تنمو من جديد كما في قولهما:
ويتراءى لي طيفكَ وسط البحار
تتقاذفه ألف موجة وموجة
موجة ترميني في أحضانك
.....
وموجة أخرى تكبلني
سلاسل حديدية تخنقني
أميرة عيسى ( طيفك)
أنا حرُ ..
ولقد أسرني ألق جمالك
ولطالما همست لك
أنا هنا ... لبيك
تعالي فأنت كل وجداني
محمد الديراني ( لن أعلن انكساري)
نتلمس في هاتين القصيدتين اِستدعاءهما للصور الحسية والتي هي مجموع الجراح الدامية المخزونة في مناطق الحس والمحفوظة عن الآخر، حيث تعمل مخيَلَتهما على تحفيز الحوار مع الآخر الشخصي حينا، والآخر تجربة ومغامرة حينا آخر ، لذا فالمنظور الجمالي داخل مساحة البناء والتلقي مبنية على النداء ، فيتراءى أمام البناء المشهدي وقصدية التعبير عن ما تكنه الصورة بأفعال حسية تكتمل وفق نداء استدعاء الآخر لتحقيق الذات .
هذا يعني كلاهما يخاطبا الآخر للثورة على الواقع والتحرر من قيوده حيث شبهت الشاعرة أميرة المرأة بحبُّ الرمان حال استوائها وإحمرارها تنوي الخروج من سجنها والتحرر منه أما الشاعر محمد تراه يجمع خياله المحصور ليمتطي حصانا طائراً كي يطير الى عالم آخر بعيد عن القيود فيقولا :
أيتها الأنثى المنسية
ابتعدي ...
انهضي
كوني ثورةً
كوني صرخةً
أميرة عيسى ( ثورة أنثى)
حبك رعشة في قلبي
فلا تتركيني
ثوري أو تلوني
كما أردت
فكل ألوانك حبي
وغير حبك لا يغريني
محمد الديراني (اسمعيني)
مما دفع صورهما أن يكتسبا الحركة الأنوية معبرا عن هواجسهما بالتماهي بالآخر كي تؤدي وظيفتهما عبر نكهة الطموحات الساكنة في الشغف الذي يسكن كل منهما مستنداً الى قاموسهما الذكرياتي لتشكيل الصورة الشعرية ونمط بنائها وارتباطها بالخيال الذي هو من نتاج تجاربهما وقراءتهما للواقع فيغوص كل منهما خلف الذكريات ليصطاد ما في قلبه ويجعل منه صورا تساعده في نقل تجربته وإحساسه لايصاله الى المتلقي كقولهما :
وكانت ضمة حنين
حركت مشاعر خبأتُها منذ سنين
المسكُ والطيب اندمجا
وبعبق مسامِك امتزجا
فأغتسل جسدك بعطر الياسمين
أمير عيسى ( قبلة)
وحلمت أن أفرُد جناحي
وأطير وأشق بحار الأشواق
وعلمت
أن أميرة الحب
أميرة المدى
سوف تعبرُ بدفئها قبل تشرين...
محمد الديراني ( سألت الليل)
يشتغل كل منهما في العديد من قصائدهما على وظيفة ضمير المتكلم في إشتغالهما على الفضاء السردي في قصائدهما الغنائية مما يجعل تشكيل العناصر الشخصية في شعرهما أكثر حضورا ، وقدرة على توصيف تمثلاتهما فيتدفق من خلال نصهما ما يخزنه كل منهما من شظايا الألم والحنين والحب ، ويرسلا عبر خيوطهما أنينهما بكلمات موحية يعلو وينخفض الأيقاع معهما على درجة حضور ( أنا / أنت) فتكثر الأفعال المضارعة في نصوصهما كونهما من العناصر المهمة في القصيدة الغنائية كقولهما :
ليتني ... كنت زراً
في عُروة قميصك
أرافقك أينما كنت
وأذهب ... في نزهة
ألامس جسدك
أنام على صدرك
أذوب ... أتوغل ... أقطف ... أتذوق ....
أميرة عيسى (ليتني)
حبك رعشة في قلبي
فلا تتركيني
ثوري أو تلوني
كما أردت
فكل ألوانك حبي
وغير حبك لا يغريني
وأعلمي أني أحب وأفنى
فأحبيني
محمد الديراني ( اسمعيني)
مما نجد أن السرد رافق قصائدهما مما حفز الانفعالات لديهما كي يعوضا عن الحركة والزمن في القصيدة من خلال التفجير العاطفي للمشاعر التي تحيط بهما كي يشيرا الى القارئ بأنهما على عتبة نص غنائي لا قصصي ، لقد وظفا في قصائدهما كثير من الألفاظ التي هيمنتا على تجربتهما الشعرية الوجدانية لعكس إرهاصات أحلامهما بدلالاتهما وصورهما لكي تتكشف الذات عن طاقات تغذي الصورة بما يجب من التفاعل والتلاقي كي توحي للمتلقي استدراك ما فاته من أبعاد الجمال حين يكون الشاعر في مواجهة جدلية وتفاعلية بين دال الذات ودال الموضوع . ومن هنا، تصير علاقة المتخيل بالواقع علاقة جمالية .
ولعل هذه الانفعالية الواضحة، حملت كل منهما على اختيار مفرداته القادرة على استيعاب طاقاته الانفعالية، بما يثير المتلقي، لما تحمله من شحنات توترية ، فنجدهم في مواجهته مع الذات كقولهما :
أقفلت حقائبي ، أغلقت بابي
ورحلتُ ...
قلبي مكسور ... روحي محطمة
عصفورة تائهة
عصفورة ... كانت تحلم
كانت ترقص ...
وترسم في الخيال
ألف لقاءٍ ... ولقاء
أميرة عيسى (خيبة)
لمَ الرحيلُ ...؟
وقلبي لا ينبض إلا أنت
وروحي لا تعشق إلا أنت
أود أن أرتشفك قبلة ... قبلة
... ثم أموت
محمد الديراني ( لم الرحيل)
ختاما نقول :
كلا الشاعرين كان لهما طقوسهما الخاصة في كتابة القصيدة من خلال اتكائهما على الوفرة النفسية والتي من خلالها يحاول كل منهم ان يمسك بلحظة التوهج الشعري للوصول الى الموضوعية الشعرية لكتابة النص في محصلة التجربة الذاتية مكونا سلسلة جمعية متكاملة يخرج منها الشاعر في العادة بكتابة قصيدته وهي تحمل هاجس الانا …لان القصيدة الغنائية تنفجر داخل الذات اولا ثم تخرج من أعماق الشاعر وكلاهما كانت شخصيتهما طاغية على النص لتظهر (الأنا ) لدى كل منهم بقوة كونها تعتبر ذاتيته لأنه من خلالها سيمتلك بعداً انسانياً مفعما بخصائص متعددة كالفرح والحزن والأمل والغرابة ....
أن فعالية النص الشعري في مجموعتيهما يكمن في مخزون الطاقات الدلالية التي تتجلى وتتمظهر في مخزون تشكيلاتها والتي تؤسس للذات الشاعرة ، كلاهما كان
الاِحساس يلعب الدور الأول من حيث الزمن في صياغة قصائدهما وقد أجادا صياغة المفردات والصور الشعرية والتعابير لتغدو العلاقات الاسلوبية بين الدال والمدلول ، علاقات بنائية تجاورية .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق