ماذا وراء انسحاب بيونغيانغ من أولمبياد طوكيو؟/ د. عبدالله المدني


المعروف أن أول مشاركة لكوريا الشمالية في الدورات الأولمبية الصيفية كانت في دورة 1972 التي استضافتها ميونيخ، بينما بدأت مشاركاتها في الدورات الشتوية في عام 1964 من خلال الدورة التي استضافتها مدينة إنسبروك النمساوية. ومذاك لم تغب عن الدورات الأولمبية ــ بما فيها دورة 1984 الصيفية التي أقيمت في لوس أنجيلوس، اي في عقر دار عدوتها الأمريكية اللدودة ــ إلا مرة واحدة وذلك حينما قاطعت دورة سيئول الصيفية عام 1988 بسبب احتدام الخلافات بينها وبين جارتها الجنوبية، وهو ما تبدل بشكل دراماتيكي مثير في النسخة 23 من الدورة الشتوية في مدينة "بيونغ تشانغ" الكورية الجنوبية التي أطلق عليها "أولمبياد السلام"، حينما شارك رياضيو الكوريتين في الدورة تحت علم موحد بعد أن أرسلت بيونغيانغ وفدا رياضيا بقيادة شقيقة زعيمها "كيم يو جونغ" التي صارت آنذاك أول عضو من العائلة الحاكمة في بيونغيانغ يزور الشطر الجنوبي منذ انتهاء الحرب الكورية سنة 1953.

والمؤكد أن كوريا الشمالية استهدفت من وراء تلك المشاركات الرياضية تحقيق وهج إعلامي والتلويح للعالم بأنها دولة طبيعية ترعى الرياضيين وتؤهلهم لمنافسة الأقطار الأخرى والفوز بالميداليات، ومن هنا كان قرارها في الأسبوع الأول من الشهر الجاري بمقاطعة دورة أولمبياد طوكيو، المقرر افتتاحها في يوليو القادم، مفاجأة للكثيرين.

وعلى الرغم من التبرير الذي ساقته بيونغيانغ لقرارها وهو خوفها على رياضييها من الإصابة بكوفيد 19، إلا أن هناك ما يوحي بأسباب أخرى أتى المراقبون على ذكر بعضها، ومنها تشجيع دول أخرى على المقاطعة لذات السبب كي تفشل الدورة ولا تحقق عدوتها اليابانية الفوائد الاقتصادية المتوقعة، ومنها منع كوريا الجنوبية من استغلال المناسبة لخلق حوار سياسي جديد بين الكوريتين او لتدشين حوار بين بيونغيانغ والغرب.

من وجهة نظرنا، يمكن إضافة سبب آخر هو خوف النظام الستاليني الحاكم في بيونغيانغ من احتمال انتهاز رياضييها فرصة تواجدهم في طوكيو لطلب اللجوء السياسي في الخارج هربا مما يعانونه في الداخل من مشاكل جسيمة تضاعفت مع الأزمة الوبائية الراهنة في العالم، خصوصا بعدما شهدت السنوات الأخيرة 3 حالات لهروب دبلوماسيين كوريين شماليين رفيعي المستوى في سفارات بلادهم في الكويت وروما ولندن إلى كوريا الجنوبية وطلبهم اللجوء هناك. فكل التقارير الاستخباراتية والدبلوماسية حول ما يجري في هذه البلاد المعزولة يجمع على أن جائحة كورونا، معطوفة على العقوبات الدولية المشددة المفروضة على بيونغيانغ تسببت في شل جميع أوجه التجارة عبر الحدود، ونقص حاد في العملات الصعبة والسلع الأساسية، وتوقف مصانع البلاد المتهالكة عن العمل بسبب شح الوقود والطاقة وقطع الغيار، وكشفت عن نظام صحي بائس غير قادر على التعامل كما يجب مع انتشار الفيروس الصيني المميت. 

وبعبارة أخرى تقول هذه التقارير أن كوريا الشمالية تعاني من وضع صعب للغاية، ما أدى إلى نشوء شعور خفي مناهض للنظام. ولعل ما يؤكد هذا القول هو أن "الزعيم المبجل" كيم جونغ أون أطلق خلال إجتماع لكافة خلايا حزب العمال الكوري الحاكم عــُقد في السابع من أبريل الجاري نصائح على الطريقة السوفياتية القديمة لزيادة الإنتاج ومقاومة نوازع الإستياء والتغلب على تحديات كبيرة غير مسبوقة من أجل مواجهة ما وصفه حرفيا بـ "أسوأ وضع على الإطلاق". وتصريحه هذا يبدو متوافقا مع مقررات الحزب الحاكم في يناير الماضي التي دعت إلى العودة الصارمة لسياسة التخطيط المركزي وإلغاء خطوات سابقة بطيئة وجزئية نحو سياسة السوق، كانت قد اتخذت بــُعيد الانفتاح الخجول على الشطر الجنوبي.

وهناك ثمة أمر آخر كشفت عنه التقارير الدبلوماسية الموثوقة وهو لجؤ سلطات بيونغيانغ مؤخرا إلى معالجة الأوضاع المتردية في البلاد من خلال عمليات قوامها خفض فترة التجنيد من عشر سنوات إلى سبع سنوات توفيرا للحصص الغذائية، وتوجيه الجنود للخدمة في المناجم والمصانع وفق أوامر عسكرية غير قابل للنقاش أو المطالب. إلى ذلك كشف أحد التقارير الصادرة عن السفارة الروسية في بيونغيانغ أن أعداد عمال الإغاثة الأجانب العاملين في كوريا الشمالية بدأت في التناقص بعدما قرر بعضهم العودة من حيث أتى بسبب النقص الحاد في بعض السلع الضرورية مثل الأدوية والصابون ومعجون الأسنان وبطاريات أجهزة الترانزستور المستخدمة للإستماع إلى نشرات الأخبار، وهي سلع كانت تأتي من الصين وتوقفت بسبب إغلاق الحدود البينية على أثر انتشار الفيروس الوبائي.

أما لجهة وباء كوفيد 19 فإن إدعاءات النظام بخلو البلاد من الإصابات، والحالة بهذا الضعف والتهالك، أمر لايستقيم بحسب العديد من المراقبين الذين أكدوا فزعه من انتشار الوباء، خصوصا في ظل نقص الأدوية، بل وأيضا مستشفيات العلاج المناسبة. صحيح أن كوريا الجنوبية ومنظمة الصحة العالمية عرضتا تقديم اللقاحات وإرسال الكوادر الطبية، لكن بيونغيانغ اشترطت عدم ربط اللقاحات بدخول موظفين أجانب معها. وصحيح أن بيونغيانغ سارعت إلى بناء مستشفى كبير جديد بسرعة قياسية، إلا أنها اكتفت بالبناء دون تأمين المعدات والأجهزة الضرورية لتشغيله، طبقا لتقرير لجنة خبراء الأمم المتحدة.

د. عبدالله المدني

* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي

تاريخ المادة: أبريل 2021 م



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق