لا شكّ في أن ما يجري على العرب يجري على محمد صلى الله عليه وسلم فيما يتصل بالشعر، وقد كان عليه الصلاة والسلام يطرب للشعر، ويستنشد الشعراء، وكان ذا ذائقة فنية عالية في فهم دقائق المعاني الشعرية، وقد حفلت الكتب النقدية بالتوجيهات النبوية التي ترى رأيها في الشعراء وما قالوه. ولن يضيف الباحث شيئا جديدا فيما يتصل بهذا الموضوع إطلاقاً، إذ هو مبسوط في الكتب النقدية والأدبية وكتب الأخبار والسير، وأعاده المعاصرون ولم يضيفوا لذلك أي جديد.
إذاً لقد كان محمدٌ واحدا من العرب، فهو كان ابن امرأة تأكل القديد في مكة، كما وصف نفسه (ص)، ولذلك لم يقبل الأسطرة أو التعامل معه كأنه فوق العادة، خارق، لا يُضاهى، "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم"، بل هو "الأسوة الحسنة" التي يُتمثل بها ويسار على نهجها، لأنها سيرة واقعية ممكنة التطبيق من الناس.
إن هذه المقدمة ضرورية في فهم المنطلق في التعامل مع الرسول الكريم على أرض الواقع وفي الشعر، فلم يكن يختلف عن أصحابه وعن الناس في شيء، والأدلة كثيرة، وليس هذا محل بيانها، ومن أراد الاستزادة فليذهب وليقرأ في كتب التاريخ والسيرة والأحاديث الشريفة. وعليه فقد مدحه الشعراء، وهجوه، ورثوه عند موته عليه أفضل الصلاة والسلام. كأي زعيم أو قائد أو ملك في ذلك الوقت.
وهنا يجب ألا تختلط المفاهيم بين "الرثاء" وبين "المدح"، وبين المديح النبوي، فكل ما قيل في حياة الرسول الكريم من ذكر مناقبه وصفاته الحميدة وذكر نسبه الطيب وعلو شأنه هو مدح، وقد مُدح الرسول بما مُدح به أي زعيم قبليّ قرشي أو تغلبيّ. وهذا الغرض من أغراض الشعر فيما يتصل بالشعر المحمدي هو شعر مدح فيه كل المضامين والأفكار التي تجدها في مدح الزعماء الجاهليين ما عدا بعض المضامين الإضافية التي يفرضها الدين الجديد والموقع الخاص لمحمد كونه نبيا مرسلا له هيبته في نفوس أتباعه ومن يصدقونه أيضا ولم يتبعوه، ولم يضعه أي شاعر في مقام أعلى من مقام "البشرية" التي نص عليها القرآن الكريم "إنما أنا بشر مثلكم". ولذلك فإن خصومه وأعداءه رأوا فيه عكس ما رأى فيه أتباعه، فهجوه، وقد ذكر حسان بن ثابت في معرض حديثه عن الرسول الكريم في همزيته المشهور هذا الهجاء عندما قال مخاطباً أحد شعراء الجاهلية: "هجوتَ محمداً فأجبت عنه".
أما الرثاء فقد كان به الرسول خليقا، فهو بكاء بتوجع والقلب يعتصره الألم والحزن الشديد، وقد زاد من وتيرة هذا الألم ما كان للرسول من مكانة عظيمة في نفوس أصحابه، ولذلك جاء رثاؤهم له مُبكيا حزيناً يختزن مشاعر حارة ومؤلمة، وهذا هو المنطق العربي الشعري المستقر في شعر الجاهلية من أول الشعر حتى الآن، فالتوجع على الميت وذكر صفاته الحسنة هو "رثاء"، وليس مديحا أو مدحاً بالمفهوم النقدي حسب التقاليد العربية الشعرية، فالأساليب هي نفسها التي يُرثى بها أي زعيم توفي، سواء أكان زعيما قبليا أم دينيا لا فرق، فالمهم في المسألة أمران: المضامين والعاطفة.
ومع تطور الحركة الشعرية العربية ولد فن جديد شعريّ لم يكن معروفا أيام الصحابة ولا أيام التابعين (الخلافة الراشدة، والأمويون وأوائل العباسيين)، هذا الفن أطلق عليه "المديح النبوي" لأن شعراؤه سموا قصائدهم مديحا خاصا بالنبي الكريم، فهذا النوع من القصائد ليس رثاء بالتأكيد لأنهم لم يكونوا متوجعين لفقد النبي، ولأنهم كذلك تحدثوا بأفكار جديدة على المدح التقليدي والرثاء، وأهمها التوسل بالنبي وشخصه، والارتفاع به إلى مقام يقرب من "الأسطورة" وطلب المعونة منه، وتجاوزوا- مجازيا أو توهُّما- كون النبي بشرا لم يعد موجودا في حياتهم، فكانوا يعتقدون بالأحلام والمنامات، ويجرونها مجرى الواقع المعيش، فكانت حالتهم قريبة من حالة الوجد الصوفي أو الهلوسة البعيدة عن الحقيقة. هذا النوع من الشعر جعل شعراءه يدخلون دائرة المساءلة الشرعية، هل يجوز ما قالوه أم لا؟ وصار محل جدل فقهي، ومن العلماء من رأى أن ذلك غير جائز. بعيدا عما رأه الدارسون من "أن النبي حيّ في أفكاره" لذلك يجب أن يكون مديحا وليس رثاء، وهو تعليل سقيم لا يرتقي إلى الفلسفة الخاصة التي يستند إليها هؤلاء الشعراء عندما كتبوا تلك القصائد.
ولا يصحّ بأي حال من الأحوال أن نقول إن قصائد الشعراء والصحابة التي قيلت عند وفاته "مديح" أو "مدح"، فهذا من باب التعدي على المفاهيم النقدية، وخلط الحابل بالنابل، فكيف يُسقط مفهوم متأخر ولد في العصر المملوكي على شعر متقدم وجد في القرن الهجري الأول؟ عدا أن كل الكتب الأدبية القديمة التي تورد أشعار هؤلاء الشعراء تذكر أنهم كانوا "يرثون" الرسول ويبكونه ويتوجعون لفقده، فقد ورد في سيرة ابن هشام في آخر الجزء الرابع قصيدة حسان بن ثابت "بطيبة رسم للرسول ومعهد"، وينص على أن حساناً- رضى الله عنه- كان يرثي الرسول ويبكيه. ولم يشر المحقق أيضا أنها "مديح نبوي". فأي تهريج هذا الذي يحصل عندما نصف هذه القصيدة أو غيرها بأنها "مديح نبوي"؟ إنها رثاء، ورثاء فقط، ولا أظن أن قولنا إنها قصيدة رثاء تنقص من قدر الرسول الكريم أو أنها تعيبه، بل لا يرثى إلا العظماء والقادة للشعور بحجم الخسارة التي مني بها الناس من بعدهم.
وتتميماً للفائدة في موضوع المديح النبوي، أود أن ألفت النظر إلى مسألة مهمة جدا، وهي أن موضوع مدح القادة والزعماء والعظماء والمفكرين واستذكارهم بعد فترة من موتهم لتأكيد نهجهم هو مديح أيضاُ، وليس رثاء، فالعاطفة المسيطرة على النص والمضامين والهدف من النص هي التي تجعله مديحا وليس رثاء، فقصيدة الجواهري "قف بالمعرة" مثلا في ذكرى مرور ألف عام على وفاة أبي العلاء المعري هي مديح، لأنها تشبه قصائد المديح النبوي في مضامينها وأهدافها ومنطلقاتها الفكرية، وكما يحدث مثلا في المناسبات الوطنية للدول في مدح زعمائها المؤسسين الذين كانت لهم سيرة حسنة وإنجازات عظيمة، فلو أراد شاعر اليوم أن يكتب قصيدة في عمر بن الخطاب مشيرا إلى عدله وسعة أفقه ومنهجه في الحكم فهو يمدح، وكذلك القول في قصيدة أخرى في الإشادة بخالد بن الوليد أو محمد الفاتح أو الشهداء أو ذوي البطولات المعاصرة الذين رحلوا عن هذه الحياة وبقيت سيرهم وإنجازاتهم شاهدة عليهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق