كما قال، المبدع فنياً وانسانياً، الصديق مرسال خليفة في موقفه الرائع مما يجري في فلسطين: "أنا اللبناني الفلسطيني العربي أدين..." وأنا أيضاً ادين، وبأشد العبارات، الوحشية والاجرام المستمرّين بحق الشعب الفلسطيني من قبل دولة اسرائيل العنصرية، المدعومة من أعتى قوى القهر والاستعمار في العالم. وأتضامن بدون حدود مع الشعب الفلسطيني. وأحيي جميع ألأحرار الذين انتفضوا بالملايين حول العالم لتأييد حقهم بحياة حرة كريمة. ولكن هل أستطيع أن أنقل هذا الدعم الى القيادات الفلسطينية؟ وهل ان الصواريخ المنطلقة من غزة ساعدت أو تساعد الشعب الفلسطيني في تسجيل المزيد من النقاط لصالحه في عملية نضاله الطويلة والرائعة، ليس بوجه المحتل وحده، بل أيضاً بوجه المتعاونين والمطبعين والمستسلمين لاسرائيل ابتداء من غزة ورام الله وليس انتهاء بآخر شبر في مشيخات الغاز والنفط مروراَ بأنظمة الذل العربي المتناسلة.
الشعب الفلسطيني لا يضاهيه أي شعب مقاوم في العالم. لم يتعرض أي شعب في التاريخ لما تعرّض ويتعرض له هذا الشعب. فقضية فلسطين ليست احتلال قوة أجنبية كما في الجزائر ولبنان. وليست عملية تحرر من نظام دكتاتوري مدعوم من قوة استغلال خارجية كما في كوبا. وليست بلاداً مقسومة نصفين، واحد مرتهن نظامه، ومحمي من أعتى قوى استعمارية في العالم كما في فيتنام. وليست معركة فصل عنصري كما في افريقيا الجنوبية... انها كل ما تقدّم اضافة الى انها أيضاً معركة ضد قاعدة استعمارية متقدمة لنهب خيرات المنطقة ومنع تحررها كما انها معركة ضد اقتلاع شعب من أرضه وثقافته وتاريخه... قضية فلسطين لا يمكن ان يحملها ويدافع عنها الا شعب بمستوى هذا الشعب وأصالته وتجذّره ووعيه وقدرته على التحمل. ولكن، وللأسف، فمعظم القيادات الفلسطينية لم تكن على مستوى ما قدّمه ويقدّمه هذا الشعب. وسأكتفي بمثلين: انتفاضة أطفال الحجارة وانتفاضة القدس الأخيرة.
ثورة أطفال الحجارة: اندلعت سنة 1987 وعمّت جميع أراضي غزة والضفة والقدس ومعظم أراضي 1948. وحسب احصائية مركز المعلومات الاسرائيلي لحقوق الانسان "بتسليم"، فقد استشهد 1162 فلسطينياً بينهم 241 طفلاً و 90 ألف جريح وتدمير 1228 منزلاً فلسطينياً بالطبع، واقتلاع 140 ألف شجرة. فحقد الصهيوني يشمل الحجر والشجر أيضاً. كما قُتل خلالها 160 اسرائيلياً أغلبهم من الجنود. وتقول احصائية لمركز الأسرى للدراسات ( مركز فلسطيني مستقل) ان جيش الاحتلال اعتقل خلال الانتفاضة نحو 60 ألف فلسطيني بينهم أعداد كبيرة من فلسطينيي 1948.
طبعاً كان وراء الانتفاضة قيادات فلسطينية كبيرة بدعم وتوجيه من منظمة التحرير الفلسطينية. هذه الانتفاضة ابتدأت بالتراجع ابتداء من عام 1991 خلال المفاوضات السرية بين منظمة التحرير واسرائيل. وتوقفت تماماً سنة 1993 مع توقيع اتفاقية اوسلو.
اختلفت أهداف الانتفاضة بين شعب خاضها باللحم الحي لتحرير كامل فلسطين، وقيادة خاضتها بهدف توقيع اتفاقية "سلام". والأنكى ان بعض أبطال اتفاقية اوسلو، التي تبيّن ان نتائجها كانت، ولا تزال، كارثية بالنسبة لفلسطين وشعبها، لا زالوا يقودون شعبهم من حائط مسدود الى آخر.
الانتفاضة حازت على دعم كل الشعوب العربية وكل أحرار العالم الذين مارسوا شتى الضغوطات على حكوماتهم للوقوف مع شعب فلسطين. وكادت الانتفاضة أن تركِّع اسرائيل، لو لم تسرع اتفاقية اوسلو الى نجدتها، فتوقفت مع توقيع الاتفاقية وتنفست اسرائيل الصعداء وعادت الى سياسة القضم والضم والقتل والسحل.
والبارحة انتفض فلسطينيو القدس خلافا لأجندات قيادات غزّة ورام الله. انطلقت الشرارة من حي الشيخ جراح ومن باحة الأقصى وعمّت كل فلسطين. وقف مع المقدسيين كل أحرار فلسطين والعالم. انتقلت الشرارة الى الداخل الفلسطيني. فلسطينيو 1948، الذي اعتقد الكثيرون انهم تدجّنوا، انتفضوا كما دائماً. لم تقتصر مواجهاتهم على الشرطة بل تعدّتها ليصطدموا مع مجموعات من المستوطنين. ظهرت المقالات لكتّاب اسرائليين في الصحف الاسرائلية تتحدث عن حتمية افول المشروع الصهيوني. الذعر استوطن عقول وقلوب الكثيرين من المستوطين وعاودوا التفكير بجمع ما أمكن من أغراضهم التي اغتصبوها والعودة من حيث أتوا. اسرائيل، بممارساتها الوحشية كما العادة، كانت محط انتقادات كثيفة من الداخل والخارج. وقفت شبه عزلاء في معركة تسويق ممارساتها. أصبحت محاصرة في زاوية... في هذا الجو وصلت صواريخ غزّة. وانقلب المشهد.
في معارك الصواريخ وعبر الحدود اسرائيل لا تجارى. والقوى الداعمة لاسرائيل لن تقف مكتوفة اليدين اذا تعرض "أمن اسرائيل" للخطر. وتجد دائماً من يدافع عنها في "حماية الأبرياء". ومهما خسرت من سلاح فالترسانة الامريكية جاهزة للتعويض، وجاهزة لبناء جسر جوي كما حصل في حرب 1973. أما اذا كانت معركتها في الداخل، مع الشعب المفترض بها أن تحميه بموجب كل المعاهدات الدولية، واذا كانت المعركة طويلة الأمد، فمن يتجرّأ ويقف معها؟
طبعاً نريد غزة قوية. ونريدها، كما نريد رام الله، ان تقف مع شعبها وتدعم صموده في الداخل. ولكن ذلك لن يتحقق من خلال اطلاق رشقات صواريخ كل عدة سنوات مرة. فتحرير فلسطين لن يتم بصواريخ غزة أو بصواريخ جنوب لبنان. تحرير فلسطين يتم من خلال سياسة موحدة يشارك بصياغتها كل ممثلي الشعب الفلسطيني. فوحدة الشعب أهم عامل من عوامل النصر. والعامل الثاني التحرر من وهم اتفاقات السلام ومعاهدات التطبيع. والثالث الدعم التام والمطلق لصمود فلسطينيي الداخل في انتفاضة مستمرة حتى جلاء آخر مستوطن عن أرض فلسطين.
فلا صواريخ غزة، ولا صمت رام الله، قادران على ايقاف هذا الشعب الفريد من حيث المهمات الملقاة على عاتقه، من الوصول الى تحرير كامل التراب الفلسطيني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق