يوماً بعدَ يومٍ أرى بوضوحٍ مرعب كيفَ يتفشَّى الغباءُ الكوني في الكثيرِ من بقاعِ الدُّنيا. أشعرُ بحسبِ ما أرى على أرضِ الواقعِ أنَّ تطوُّرات هذا الزّمان تسيرُ نحوَ شفيرِ الجحيمِ، نحوَ أسفلِ السّافلين. كما أشعرُ أنّ الإنسانَ في حالةِ تقهقرٍ نحوَ الخلفِ، نحوَ الهاوية السَّحيقة، وكأنّهُ لم يمر بكلِّ حضاراتِ الإنسانِ عبرَ تاريخ المجتمع البشري الطَّويل، أو مرَّ بكلِّ هذه الحضارات الإنسانيّة ولم يستفِدْ إلّا من قشورِ الحضارات. إذ أنّنا لو تتبّعنا حضارةَ الإنسانِ في كلِّ أنحاءِ العالم، نجدُ حضاراتٍ مدهشةً عاشها وابتكرها وما يزالُ يبتكرُ مخترعات ورؤية حضاريّة خلّاقة، لكنّنا نجدُ على أرضِ الواقعِ رغمَ وجودِ وانتشارِ هذه الحضارات، مايزالُ الإنسانُ يسلكُ سلوكاً متحجِّراً ووحشيَّاً ولا ينمُّ عن أي تحضُّر فكري وفلسفي وأخلاقي وديني وعلمي. أراهُ وكأنّهُ في عصرِ الظّلمات، لأنّهُ يستخدمُ طاقاته السَّلبيّة بعنجهيّةٍ ووحشيّةٍ وكأنّهُ من فصيلةِ الوحوشِ المفترسة، بل أكثر من الوحوشِ افتراساً لبني جنسِهِ دونَ أن يرمشَ لهُ جفن، وأتوقَّفُ هنا عندَ برنامجي الَّذي انطلقتُ منهُ في 1. 1. 2013 عندما أسَّستُ مجلّةَ السَّلام الدَّوليّة، لنشرِ وترويج ثقافة السَّلام والوئام في دنيا الشَّرقِ ابتداءً من سوريا بلدي ومسقط رأسي مروراً بالعراق ولبنان والعالم العربي وما يجاورُهُ، وانتهاءً بكلِّ بلدانِ العالم، لإرساءِ لغةِ الوئامِ والسَّلامِ بينَ البشرِ عبرَ الإبداعِ وتبادلِ المعرفة والعلوم الإنسانيّة وخلقِ رؤية إنسانيّة سلاميّة وئاميّة بين البشرِ كأسلوبِ حياة وبداية جديدة لحياةِ إنسان هذا الزّمان، لكنِّي وجدتُ على الأرضِ عكسَ ما راودني وما جسَّدتُهُ عبر توجُّهاتي وكأنِّي أخاطبُ "طرشان ومجانين" هذا الزّمان، حتّى أنّني أعتبرُ المجانين أكثر تعقُّلاً ووعياً وفهماً، لأنَّ المجانين على الأقل هم مجموعة مرضى ويحتاجون للمعالجة بطريقةٍ أو بأخرى، وأمّا السِّياسيُّون العقلاء، وهم في قمّةِ عقولهم يخرّبون البلادَ ويخلقون صراعات ويشنُّون حروباً ويفتحون جبهات غريبة وعجيبة فيما بينهم وفيما بين المحيطين بهم والمتصارعين معهم ويقتلون من بعضهم بعضاً بأفتكِ الأسحلة وكأنّ البشرَ الَّذين يقتلونهم مجموعة "صيصان" وطيور للصيد، يقتلونهم دونَ أن يرمشَ لهم جفن، وكل هذا يقودُني إلى نقطةٍ محرقيّة دامغة، لا بدَّ من الوقوفِ عندها ونتساءلُ: إلى متى سيبقى العالمُ يسيرُ نحوَ بوّاباتِ الجحيمِ، ونرى القوى العظمى وعقلاء هذا العالم يتفرّجونَ وكأنّهم يشاهدون فيلم سيرك أو يحضرون فيلماً سينمائيّاً ولا يشاهدونَ دمارَ العالم والبشريّة في حالةِ خرابٍ ما بعدَهُ خرابٍ؟!
قلتُ مراراً وما أزال أقولُ، لا تعجبُني سياسات هذا العالم، ابتداءً من سياساتِ أميريكا وسائر الدُّول العظمى مروراً بسياساتِ أوروبا وسياساتِ العالم العربي جملةً وتفصيلاً، ولا سياساتِ اسرائيل ولا سياسات الصِّين وروسيا واليابان وسياسات أغلب دول العالم، وعدم إعجابي تتفاوتُ نسبتُهُ من دولةٍ إلى أخرى، فهناكَ دول تبقى على الحيادِ ولا تحرِّك ساكناً، وهناك دول تزيدُ من الصِّراعاتِ وهناك دول تصنعُ الأسلحة وتبيعها للمتصارعين جميعاً، وهناك دول تعيشُ على نشوبِ الحروبِ وهناك دول استغلاليّة وهناك حكّام سلطويون وديكتاتوريّون وهناك أبرياء يذهبون بين الأقدامِ وهم ضحايا الغباءِ الكوني، رغمَ أنَّ الكونَ في أوجِ تقدُّمِهِ تكنولوجيّاً وفكريّاً وعلميَّاً وفي سائرِ مجالاتِ الحياة، ولكن بكلِّ أسف يتمُّ استخدام تقنياتِ العلمِ والتّكنولوجيا لدمارِ البشريّة عبرَ الحروبِ وصناعةِ أفتك الأسلحة، وسبقَ وخصَّصتُ ملفَّاً خاصَّاً في مجلّةِ السّلامِ الدَّوليّة يتضمّنُ حواراً حولَ السَّلامِ العالمي، أشدِّدُ عبر حواري على إغلاقِ معاملِ السِّلاحِ والتَّركيزِ على إحلالِ السَّلامِ والوئامِ بينَ الدُّولِ والقارَّاتِ وبينَ الأديانِ والمذاهبِ والعقائدِ والسِّياساتِ وخلقِ جوٍّ من الوئامِ بينَ الإنسانِ والإنسانِ وعلى البشرِ أن يغيِّروا سياساتهم، وينهجون نهجاً يقودُهم إلى الحياةِ وليسَ الموتِ! لماذا يستعجلون على موتِ البشرِ، لِمَ يستعجلون على الموتِ؟ .. سيموتون عاجلاً أم آجلاً، الموتُ قادم إلى كلِّ البشرِ، ولكن لماذا لا يخطِّطُ الإنسانُ أن يعيشَ بسلامٍ ووئامٍ ويعيشُ عمرَهُ الطّبيعي بكلِّ هدوءٍ وسعادةٍ وهناءٍ ويرحلُ بعيداً عن لغةِ الحروبِ والقتلِ في عمرِ الزُّهورِ والشّبابِ؟ الحياةُ جميلةٌ بأن نعيشَها بكلِّ جمالِها وحبورِها وسعادتِها وتفاصيلِها وعبر كل مراحلِ العمرِ، وأمّا الصِّراعات الّتي نشبتْ عبر التَّاريخ البشري برمّته هي صراعات مجانين ووحوش، وإلى متى سيبقى الإنسان متوحِّشاً ويسيرُ في غيِّهِ، وكأنَّهُ في حالةِ منافسة لأكثر الوحوشِ افتراساً؟ بدأتُ أشكُّ أنَّ الإنسانَ أصله إنسان منذُ البدءِ، يبدو لي في الكثيرِ من الأحيانِ أنَّ الإنسانَ كانَ أكثرَ من قردٍ، كانَ وحشاً شرساً، شرهاً، قميئاً، قبيحاً، غرائزيَّاً، لا يمتُّ نهائيّاً إلى إنسانيّةِ الإنسانِ بحسبِ ما جاءَ تعريف الإنسان في الأديانِ والفلسفاتِ والفكرِ الإنساني عبر التّاريخِ البشري، فأكادُ لا أصدِّقَ أنَّ الإنسانَ الَّذي أراهُ الآن وبحسب ما قدَّمَهُ من شرورٍ عبر تاريخه الطَّويل، وهو من جذورٍ إنسانيّة بشريّة كما وصفتْهُ الكتبُ المقدّسة والفلسفات، بأنّ الإنسانَ يألفُ المؤانسة وهو كائن سامي ونبيل وخلّاق وعلى صورةِ الله! لا يبدو لي هكذا نهائيّاً، إنّي أراهُ على النّقيضِ من هذه الصّفاتِ، فهو بحسبِ ما يرتكبُ من جرائم وما يقومُ به من حروب وصراعات وويلات، أقرب بكثير من الوحوشِ المفترسة من أيِّ حيوانٍ مفترسٍ على وجهِ الدُّنيا، لهذا لكي يعودَ الإنسان إلى إنسانيَّته بحسبِ ما جاءَ في الكتبِ المقدَّسة وفي الفلسفات، عليهِ أن يكونَ إنساناً بكلِّ معنى الكلمة وينهجُ منهجاً إنسانيّاً خلّاقاً ويقفُ ضدَّ كل ما هو تدميري وضدّ كل أفعالِ الخرابِ والقتلِ والدّمارِ والافتراسِ ويعيدُ بناء نفسه من جديد كي يقودَ العالمَ إلى برِّ الأمان ويخطِّطُ عبرَ كل برامجِهِ ومناهجِهِ وتوجّهاتِهِ أن يعطيَ لكلّ إنسان حقّهُ في كلِّ بقاعِ الدُّنيا، كي يعيشَ الإنسانُ في وئامٍ وسلامٍ وهناءٍ ويرحلُ عن وجهِ الدُّنيا وهو في أوجِ سموِّهِ وبهائِهِ وعطائِهِ الإنساني الخلّاق!
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري سويدي مقيم في ستوكهولم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق