قد يبدو غريبًا أن أقوم بنشر هذه الرسالة وبتوجيهها إلى قادة جهاز "الشاباك" الاسرائيلي؛ إذ ليس مرغوبًا ولا مقبولًا أن يخاطب مواطن عربي، مثلي، جهازًا أمنيًا؛ وإن فعل فلا يجوز أن تكون لغته طبيعية ومحترمة، لا سيما في هذه الأوقات التي تشهد فيها مجتمعاتنا العربية، في معظم المدن والقرى، هجمة اعتقالات وملاحقات خطيرة، تنفذها، بأساليب قمعية مرفوضة، عناصر الشرطة بدعم من جهاز المخابرات نفسه، وبالتعاون الكامل معه.
لست ساذجًا كما قد يتهمني البعض ولا حالِمًا كما سيظن آخرون؛ لكنني سأحاول، من خلال هذه الرسالة، أن أحكّ مرآة النهايات قبل رحلة التفتيش عن بدايات جديدة تتعلق بمضمون سؤالي الواضح والبسيط الذي أوجهه بصيغة الاستنكار ولا أنتظر الاجابة، فهي، على، ما أظن، واضحة كالعتمة:
من برأيكم يشكل الخطر الأكبر على مصير دولتكم اسرائيل، التي تأسس جهازكم، في حينه، من أجل حماية أمنها وتأمين السلامة لمواطنيها، وضمان مستقبلها واستقرارها؟ أهم قادة واعضاء المجموعات اليهودية الدموية التي تطارد العرب في الحارات وفي الشوارع وتحرّض على قتلهم علنًا من دون رادع ولا ملاحقة؛ وتعلن ، كذلك، عن نيتها بالقضاء على النظام السياسي القائم من أجل اقامة المملكة اليهودية الجديدة؟ أم هم مواطنو الدولة العرب ومن يمثلهم من أعضاء الكنيست وقيادات المجتمعات المدنية المحلية ؟
وبعد،
وإن لم يكن هذا هدف رسالتي الأساسي، ولكن كما يُتوقع مني، سأبدأ بالتأكيد على أنّ حملات الترهيب والملاحقات والاعتقالات لهذه الاعداد الكبيرة من الشباب لن تحقق أهدافها المرجوّة، ولن تثبّط من عزائمهم ، بل أنها ستزيد من اصرار أغلبية المواطنين العرب ومن قناعاتهم بضرورة عدم الخوف ورفض الاستسلام والركوع؛ خاصة بعد اتضاح هويات معظم المجموعات اليهودية اليمينية المتطرفة التي وقفت وراء غزو الأحياء العربية في المدن المختلطة، وبعد انكشاف أهدافها الرامية الى تهجير المواطنين، أو، على الأقل، الى دبّ الذعر في صدورهم وتدجينهم.
واعلموا، انني لن أتطرق إلى تفاصيل أحداث الشهر الفائت، رغم أهميتها، ولن أراجع تداعياتها ولا ما أفضت اليه من نتائج أولية على جميع الجبهات؛ لكنني سأذكّركم بمن عادوكم وهاجموكم علنًا قبل بضعة أعوام، وبالتحديد بعد الجريمة التي وقعت في القرية الفلسطينية "دوما"; وما كان يقضّ، في ذات الوقت، مضاجع مجتمعاتنا العربية، التي كان أهلها ينامون على أصوات الرصاص ويفيقون كي يحصوا خسائرهم في الأرواح وفي الأموال.
لقد عشنا، قبل اندلاع المواجهات الأخيرة، حالة عبثية من عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، فقدت في أعقابها أكثرية المواطنين العرب العاديين الثقة في مؤسسات الدولة، وفي طليعتها جهاز الشرطة الاسرائيلية، التي باتت متهمة بالشراكة مع مفاعيل العنف الناشطة في مواقعنا، أو المتغاضية عنها أو المتواطئة، في بعض المواقع والحالات، مع عصابات الاجرام المنظم، التي أخذ دورها المهيمن يتعاظم باسم الدولة وبالنيابة عنها. كانت مشاعر الذل واليأس مسيطرة، لكنها، أدت، في نفس الوقت، الى زيادة في درجات الغليان الباطني، الذي صار جاهزًا للانفجار في أي لحظة مواتية.
وكانت اللحظة وكان الانفجار .
لم تغب عنكم، في جهاز المخابرات العامة، حقيقة التفاعلات التي كانت جارية داخل المجتمع العربي؛ واعتقد أنكم توصلتم، بحسّ أمني صادق، إلى أنّ الاوضاع الحالية آيلة للانهيار التام، الذي قد يبدأ داخل القرى والمدن العربية، لكنه سيتعداها، حتمًا، ليصل الى جميع أنحاء الدولة.
لقد استفاق عدد كبير من المتخصصين والخبراء في الشؤون الأمنية والناشطين حاليًا في معاهد الدراسات الأمنية الكثيرة في الدولة، واستشعروا فداحة الخطر القائم؛ فكتبوا جهارًا ودعوا ساسة الدولة الى ضرورة تعريف حالة العنف المستشرية داخل المجتمع العربي، على أنها آفة دولة وانها تشكل حالة خطر وجودي على الأمن وعلى سلامة جميع مواطنيها، وليس على العرب فحسب. بينما ذهب بعضهم الى أبعد من ذلك وطالبوا بتغير جذري في السياسات الرسمية وبالتوقف عن تعريف العرب كطوابير خامسة وكأعداء الدولة ومعاملتهم كمواطنين شرعيين ومتساويين.
لم يقتصر نداء هؤلاء الخبراء على تلك الدعوة الموجهة لصانعي القرار السياسيين، بل سنجد بينهم من دعا جهازكم، جهاز "الشاباك"، الى تولي مهمة محاربة الجريمة المستفحلة داخل المجتمعات العربية، وذلك وفق سياسات ومسارات مهنية محددة المهام والمعالم، ومسقوفة من ناحية زمنية؛ كما فعل، مثلًا ، الدكتور أفنر بارنيع - وهو خبير أمني وأكاديمي كان قد خدم في السابق كمسؤول كبير في جهاز الشاباك - حين كتب مقالًا تحت عنوان: " انها خطوة متطرفة، لكن هكذا تقتلع الجريمة من المجتمع العربي" ، نشره، في موقع واي-نيت، يوم 2021/1/19 ، ودعا فيه جهاز الشاباك الى تولي مهمة محاربة الجريمة في المجتمع العربي، لأن جهاز شرطة اسرائيل، حسب رأيه، قاصر عن اداء هذه المهمة، وغير مهيّأ، في هذه الظروف، من الناحيتين، المهنية والميدانية، لتوفير الحماية الكافية للمواطنين العرب.
أعرف أن الكثيرين من بين المواطنين العرب واليهود، سيعترضون لأسباب وجيهة على هذا المقترح، وهذا موضوع يستحق المتابعة والنقاش طبعًا في ظروف أخرى؛ ولكن ما همّني في هذا السياق كان، أولًا: حقيقة اعتراف الكثيرين من أصحاب الخبرة الأمنية بان قضية استفحال الجريمة بين المواطنين العرب لم تعد مسألة تخص العرب وحدهم، بل هي قضية أمن الدولة. وثانيًا: اقرار هؤلاء الخبراء بأن جهاز شرطة اسرائيل لم يعد هو الجهة المناسبة القادرة والمؤهلة للقيام بمهمة محاربة الجريمة وحماية المجتمع.
لم يكن التوصل إلى هاتين النتيجتين اللافتتين، بعد هذه السنوات الطويلة من معاناة المواطنين العرب، مفهومًا بشكل ضمني؛ لكنه قد يكون مؤشرًا، أو هكذا تمنيت، على حدوث بعض المتغيرات في عدد من المفاهيم العنصرية الرسمية المؤسسة، وفي تفكير خبراء الأمن وبين بعض النخب القيادية المؤثرة.
لقد تدخل جهازكم وقاد في العام 2015 عملية التحقيق مع المشتبهين في تنفيذ عملية "دوما" الارهابية؛ ونجحتم بالكشف عن القتلة المستوطنين المتورطين في جريمة حرق وقتل أفراد عائلة "الدوابشة". ومع نشر نتائج التحقيق انقضت عليكم قوى اليمين المتطرفة ووصفتكم بالارهابيين؛ مما اضطركم، للمرة الاولى على ما أذكر، الى نشر بيان صارم قمتم من خلاله بتفنيد الادعاءات ضدكم، ووصفتم الارهابيين اليهود ومن وراءهم بمجموعات يهودية خطيرة تعمل من أجل تدمير النظام السياسي القائم وبناء مملكة اليهود الجديدة.
لم يهتم الرأي العام العربي المحلي لتفاصيل تلك المعركة التي دارت رحاها على المكشوف؛ فكتبتُ عن ذلك واعتبرتها جولة حاسمة في حرب تشكيل موازين القوى داخل المؤسسة الاسرائيلية المستمرة حتى أيامنا هذه.
لقد مضت السنون وما زالت المعارك على تلك الجبهة محتدمة، الا ان القوى اليمينية الفاشية والعنصرية المتطرفة أصبحت أقوى وسجلت مزيدًا من النقاط والتقدم في سعيها للإجهاز على جهازكم، بصيغته الحالية القائمة، وبكونه آخر عناصر النظام السياسي الاسرائيلي القديم.
قد يكون التذكير ببعض ما كتبتُ بعد عملية "دوما" الارهابية، مفيدًا في هذه المرحلة الحساسة، فحينها خاطبت أبناء شعبي بعتب، وقلت أن الساحة الاسرائيلية "قد شهدت في الأسابيع الماضية واحدة من أبرز المعارك الشرسة المكشوفة، والتي سيكون لنهايتها، برأيي، تأثير مصيري على وجه نظام الحكم في اسرائيل. فالهجوم السافر والشرس الذي جاهرت به قوى اليمين على جهاز المخابرات الاسرائيلي وانفلات بعض فئات المستعمرين ووصفهم غير المسبوق، للوحدة الخاصة بمتابعة المواطنين اليهود في الشاباك، بأنها وحدة إرهابية، يدلل بشكل لا يقبل التشكيك أو التأويل، أن تلك القوى اليمينية، ماضية في حملاتها للتحكم في أكثر ما يمكن من المواقع واحتلال ما يمكن احتلاله على مستوى السلطات الأربع في الدولة"، وأضفت: "إنها مرحلة تستوجب منا، نحن العرب، التوقف واعادة النظر حتى في بعض المسلمات؛ فلا يعقل أن تهبّ هذه العواصف والنيران بيننا ولا يلتفت اليها أحد.. "
ما زالت تلك التساؤلات والأسئلة صحيحة في أيامنا، لا بل قد تكون الحاجة لمواجهتها وللإجابة عليها ملحّة أكثر من أي وقت مضى؛ فنحن ما زلنا بحاجة إلى وجبات من الجرأة والمبادرة أو إلى صحوة، لنقوم، كل من موقعه، بفحص وتقييم ما يجري بيننا وبينهم بشكل مسؤول وواضح، والتحقق فيما اذا ما كان هو ما سيكون، وهل ما زلنا، كمواطنين عرب، هاجس جهاز الشاباك الأول، وعدو الدولة الاخطر والأكيد في نظرهم؟
هكذا كتبت لأبناء شعبي قبل ستة أعوام؛ وحتى لو كنا مقتنعين بأن الجواب على ذلك هو بنعم، لا يعقل أن نستمر بطيّ نهاراتنا بالتمنّي، وبتوسّد ذراعات الهمّ في الأماسي.
أمّا اليوم، ماذا عساني أن أقول وعن أي حلم سأتحدث، وقد قرأنا عن شراكة جهازكم في عمليات جهاز الشرطة وبتنفيذ سياساتها ، علمًا بانكم وصفتموها ، قبل رمشة، بالقاصرة وغير المؤهلة ؟ أو ليست هي الشرطة ذاتها التي ستذود عناصرها عن مملكة اسرائيل القادمة، وستدوس، بضراوة وبعدائية سافرة، على شبابنا في جميع القرى والمدن، وعلى كل من سيعترض طريقها ؟
حتى المواجهة القادمة، باحترام، جواد بولس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق