الرسالة التاسعة والأربعون: هل سيغضبُ منّي الناشرون؟/ فراس حج محمد



الاثنين: 31/5/2021

أسعدت أوقاتا أيتها الرائعة

منذ يومين وأن أهمّ بكتابة هذه الرسالة، وها أنا أوفي بوعد نفسي لك لكي أكتب. أكتب لك من مكتبي، لا أحد معي في الغرفة غيرك. صدقي ذلك، ولا تأخذيه على سبيل المجاز أو التخيل الشاعري. شربت منذ الصباح وحتى الآن كوبا من الشاي وفنجاناً من القهوة، وكأساً من شراب "الزعتمانة". غريب هذا المشروب لكنه ذو طعم جيد، إنه اكتشاف ثقافي بفعل اختلاط القرى والبيئات في أماكن العمل!

أبلغك أولاً أن كتاب "استعادة غسان كنفاني" في طريقه إلى النشر قريباً جداً، الغلاف أصبح شبه جاهز، لا أريد أن أخبرك عما في الكتاب من أفكارـ أترك لك قراءته، والاستمتاع به فور صدوره، أتمنى أن يكون ممتعاَ بالفعل، سأتكفل بإحضار نسخة لك. لن أعدم الوسيلة.

هذه الأيام منشغل جدا في أمور الوظيفة، لا شيء جديد على صعيد الكتابة. القراءة أيضاً غدت ذات مهمّات وظيفية بعيدا عن المتعة أو التزود بالأفكار ومحاورتها. أقرأ مسودات كتب للأصدقاء، ستصدر قريباً. القراءة تحت هذا الظرف هي عمل خاوٍ من المتعة. أقرأ لأسدي خدمة للكتاب لا أكثر، هنا القراءة تكون ذات أهداف لا تعود عليّ بالنفع إطلاقاً. لا أسعى إلى النفعية على كل حال، ولكنها القراءة التي تدور في باب تحقيق النفع للغير، هذا النوع من القراءة يلزمه الجلَد والصبر على مشقات كثيرة. لا تستطيع أن تشيح بنظرك عن الكتاب أو عما فيه، أنت مجبر أن تقرأ وتدقق، وتفحص وتنتبه لكل شيء، للجملة، وللكلمة، وللنقطة والفاصلة. عليك أن تكون "ملك يمين" للكاتب، يفعل بك الأعاجيب وأنت بكل لطف تبتسم، وتتابع القراءة دون اعتراض. كم هو مؤلم هذا النوع من القراءة، لاسيما إن كانت تلك الكتب متعبة، وتحتاج إلى كثير من التحرير وفيها الكثير من الأخطاء. أو أنها تخالف قناعاتك ومجبر على إتمامها وأنت ساكت ومؤدب.

لا أريد أن أجد نفسي بعد فترة وإذ بي أتحول إلى مجرد "مدقق لغوي"، وليس محررا أدبيا، لأن الكتّاب يخافون من عبارة "حرر فلان الكتاب"، لكنهم لا يخشون من قولهم: دقق فلان الكتاب لغوياً، بل إنهم يفتخرون بذلك، بمعنى أنهم أصل والمدقق خادم تحت الطلب. لذلك أراجع الكتب للأصدقاء فقط، مع شرط إضافيّ وضروريّ ألا يشيروا إلى أنني قمت بالتدقيق. مع أنني أيضا لا أحب مهنة المحرر الأدبي، فهي تبعدني عن التأليف والكتابة، وتجعلني أيضا تابعا، وظلاَ، وأقوم بها أيضا خدمة للأصدقاء ليس أكثر. 

على هامش إحدى الاتصالات الهاتفية مع أحد هؤلاء الكتاب الذين أعمل حاليا على مراجعة كتابه، تحدثنا عن الناشرين، وربما تعرفين رأيي في هذا الموضوع، فقد كتبت لك فيه كثيرا، وكتبت مقالات أيضا حوله ونشرتها. فالناشرون أنواع على أي حال، ولكن أريد أن أقول لك ما توصلت إليه حول تعامل الناشرين مع الكتاب، هذا ما لمسته خلال حواري مع ناشرين، ومنهم ناشرو كتبي. ناشرو كتبي لم يكونوا كلهم على درجة واحدة من الصدق، بعضهم كان كاذباَ، وبعضهم كان لصّاَ، وبعضهم كان مستغلا وانتهازيا، وبعضهم كان مجرد تاجر تافه. بالتأكيد كان هناك ناشرون جيّدون، فقد تعاملت مع كثير من الناشرين، ولكن من هؤلاء أريد أن أبين لك نوعا واحدا، وهو أسوأ أنواع الناشرين. 

هذا النوع يقسّم الكتاب إلى ثلاثة أنواع: قسم يتعامل معهم على أنهم "بنك" لدار النشر والناشر، لتحقيق مصالح الدار في الشهرة والانتشار، ولن تكون هذه الشهرة من نصيب هذا الصنف من الكتاب للأسف، فليس لي حظّ من الشهرة عن طريقهم، أما مهمتنا الوحيدة أن ندفع لدار النشر مبالغ طائلة أكثر مما يكلف الكتاب مرتين أو ثلاثاً. 

الآن لك أن تتصوري التهافت على النشر من هؤلاء الكتاب، وأنا واحد منهم بكل تأكيد، فأنا من فئة "ادفع تطبع". كتبنا التي ندفع مقابلها مبالغ كبيرة، لا يروج لها على صفحات الناشرين الفيسبوكية، ولا يحملونها معهم إلى معارض الكتب، يطبعونها، ثم بعد فترة يتلفونها، حتى لا تشكل عبئا في مخازن الدار. كل ما يستفيده الكاتب من هؤلاء هو حصته التي أخذها من دار النشر، مئة كتاب على أكثر تقدير، وهذه تذهب هدايا كما تعلمين، ودار النشر تتعامل معنا كنكرات لا تضر ولا تنفع، حتى والناشر يعدد إنجازاته لا يذكر كتبنا من ضمن كتبه، على الرغم من أننا نحن وبفضل ما ندفع يقف على رجليه في المعارض، وهو يقدم نفسه خادما لغيرنا بأموالنا. فما ندفعه للناشرين وهو كبير بمقابل التكاليف الفعلية، سيستثمره خدمة للقسمين الآخرين.

لعك الآن تعرفين من هما القسمان الآخران، لقد كنتِ من القسم الثاني، من يطبع ولا يدفع، ولكن لا تدفع له دار النشر، يعني بالعامية "لا إلك ولا عليك"، والقسم الثالث هو من تدفع له الدار مسبقاً، وتدفع له مبالغ كبيرة، هذه المبالغ ستحصل مما يدفعه الفريق الأول، ومما يباع من كتب الفريق الثاني الذي لا يأخذ شيئاً، وليس له إلا أن يطبع له، وله حصة من الكتب أما نسبة الأرباح، فلم يحدث أن فعلها ناشر واتصل بكاتب وقال له: تفضل عندنا لنعطيك نصيبك. يسرقون حصته المقررة في العقود المبرمة، بحجة عدم البيع وأن العالم العربي لا يقرأ. 

إن الناشرين يستشرسون في عمل الدعاية للفريقين الثاني والثالث، ويهملون تماما كتّاب الصنف الأول "ادفع تطبع"، فترى كتب هؤلاء تتصدر الإعلانات والصور والترويج وعمل الاقتباسات، والسفر إلى المعارض وعمل حفلات التوقيع، لأن الناشر هنا مهمته التجارة والربح، فلذلك تراه في مواسم معارض الكتب، لا يكون إلا تاجرا انتهازيا ولصاً ليس أكثر. يسرق جهود الكتاب من الفريق الأول والثاني لصالح الفريق الثالث، ولصالح نفسه، فهو في النهاية كالقمل يعتاش على رؤوس الكتاب وما أنتجته عبقرياتهم.

أعرف أنها حالة مرَضية، وقلبي موجوع منها، وكما قلت لصديقي على الهاتف، وقد أعجبه المثل لدرجة أن عمل على كتابته "قلبي من الحامض لاوي"، بالفعل يصيبني هذا الموضوع بالقرف، ولكن لا أدري لماذا أصر على النشر والكتابة وأنا أعرف أنني سأقع كل مرة تحت طائلة الاستغلال الصريح.

هل لديك حلّ لحالتي المرَضية هذه؟ آمل ذلك، أعرف أنني ثرثرت كثيراً، لكنني أشعر بالراحة الآن، وقد وجدت من يسمعني ويقرأني، لعلّ عندك بعض حلٍّ أو مواساة مما أنا فيه. فلا أستطيع ألّا أنشر كتابا ألفته، ولم أجد ناشرا أخلاقيّا يحميني ويقدر ما أنا فيه. ولذلك سأظلّ ضحية للناشرين ما حييت إلا إذا كففت يدي عن هذه الصنعة وكسّرت كل أدوات الكتابة، أو أن تحدث معجزة ؛كأنْ أفوز بجائزة!

يا له من حلّ سحري! أن أفوز بجائزة، ساعتئذ ستجدين الناشرين الذين أتلفوا كتبي ووضعوها في حاويات النفايات الكبيرة، يبحثون عن نسخة مهملة هنا أو هناك ليعيدوا نشرها. هل يحدث وأفوز بجائزة لأتخلص من هذا المرض؟ 

هل سيغضب مني الناشرون بسبب هذا الذي يجول في نفوس كثير من الكتاب الموجوعين الذين صاروا يلجأون إلى طباعة عدد محدود من النسخ إرضاء لشهواتهم المريضة واتقاء لشر الناشرين وتلاعبهم. ويعيشون وَهْم نشر كتاب جديد. بالضبط كما فعلتها مع عدة كتب، نزولا عند منطق واقعية الأشياء، فليس لي من كتابي سوى مئة نسخة، ونسخ دار النشر لا تصل إلى القراء، بحكم أنها ستتلف بعد مدة، إذاً علي التسليم والاكتفاء بطباعة مئة نسخة فقط من أي كتاب، وهذه هي استراتيجيتي القادمة لطباعة ما تبقى من كتبي المخطوطة.

أتمنى أن تجعلي هذه الأمنية واقفة على الحدين؛ "بين الجد واللعب"، فكل كتاب الفريق الثالث كانوا فريقا أول أو ثانيا، ولم ينقذهم من عبث الناشرين وتلاعبهم إلا فوزهم بالجوائز. أتمنى أن أقرأ لك ردا حول الموضوع، لعلي أرى الأمور ببصيرة أخرى غير بصيرتي وبحدس آخر غير حدسي الذي أصدقه إلى الآن حول مسائل كثيرة، ليس النشر إلا واحدا منها. 

أراك بخير، ولعلنا نلتقي قريباَ، ولتسعديني بالكتابة ريثما تكون الفرصة سانحة للقاء، فأنا مشتاق لكل شيء فيك من "ساسك لراسك" وأنت أجمل النساء وسيدة الكاتبات.

قبلة حارة لشفتيك الرقيقتين المنقوعتين بالعسل اللذيذ.

****
الرسالة الخمسون
لا يفلح كاتب يتندر على قارئه

الأربعاء: 2/6/2021
أسعد الله كل أوقاتك، للمرة الثانية أكتب لك من مكتبي، ثمّة ما يجعلني أشعر بالقرب منك أكثر وأنا في مكتبي، لا يقطع خلوتي بك إلا بعض الزائرين، من الزملاء العابرين أو المراسلين الذين يغدقون علينا أحياناً، وحسب المزاج، كاسات من الشاي والقهوة والزهورات. على كلّ إنه لأمر جيد أن يستمر هذا الوضع. 
نحن الآن على أبواب عطلة صيفية قصيرة، وأقصر من أي عام مضى، تبدأ من مساء يوم 15/6 وتنتهي صباح يوم 1/8/2021، هذا يعني من ناحية وظيفية الاستعداد لإنهاء العام الدراسي، وإكمال المهمات الإشرافية فيما يخصّ زيارات المعلمين، والشروع في أنكد حلقة من حلقات العمل، وهي تقويم المعلمين وتقييمهم، لتبدأ بعدها أعمال الثانوية العامة، لا أستطيع المشاركة في أعمال التصحيح كلها، فحسب التعليمات كل من له قريب مباشر لا يعمل في هذا الموسم. إذاً سيكون أمامي وقت طويل أقضيه في المكتب، لا عمل حقيقاً للمشرفين في العطلة الصيفية. في العادة أقضيه بالقراءة بعد إقفال كل ما يجب عليّ لإنهاء العمل من إحصائيات وتقارير ومتابعة نتائج الطلاب.
من أسوأ المواقف التي مررت بها في العطلة الصيفية وها هي العطلة الخامسة التي لا أشترك فيها في أعما ال الثانوية العامة، هو أن المسؤول المباشر يكره أن يرى أحدنا يقرأ في كتاب، إنها تولد لديه حقدا ما، أو غيرة، لا أدري. إنه يفضل أن ينشغل الموظفون على اليوتيوب وعلى الفسيبوك أفضل لديه من أن يحضر كتابا ويقرأ فيه. إلى الآن لا أدري لماذا؟ أحاول أن أفهم هذا التصرف ولكنني لا أجد تفسيرا، مهما كانت نوعية المسؤول وادعائه أنه مثقف ويقرأ الكتب. إلا أنه لا يحبذ لك أن تقرأ. إنه على العموم يفهم كلمة "المثقف" فهما خاطئا جداً.
الفراغ قاتل، ويولد الملل، لكنني لا أملّ بسبب هاذين النهرين المتجددين:  القراءة أو الكتابة. أنا بطبيعتي أحب هذا كله، ولا أملّ منه. عطلة المدارس الصيفية فرصة كبيرة لمراجعة ما تم خلال هذا العام، من إخلالات ومن منغصات ومن سوء فهم، بينك وبين الزملاء وبينك وبين نفسك. 
عدا هذا لقد أعددت للعطلة القادمة برنامجاً جيداً، سأعمل عليه بحب وصبر ومثابرة، سأتجه فيه نحو بناء كتب جديدة ومراجعتها، ثمة مخطوطات كثيرة في جعبتي، أشعر أنني أسابق الزمن من أجل إتمامها. أفكر فيها طوال الوقت؛ هب أنني متّ فجأة من يقوم بإتمام هذه المهمة؟
ليس لديّ أبناء وبنات مهيأون للقيام بهذا، أولادي مشاغلهم مختلفة، لا يحبونني كاتباً على ما أظن، لم يقرؤوا لي، ولم يناقشني أحدهم يوما بما كتبت أو عبّر عن إعجابه بي أو الافتخار بي كوني كاتباً. ابني الصغير، طفل ذو عشر سنوات عندما امتلك هاتفاً ذكيا اكتشف اكتشافا مذهلاً: "بابا إنت مشهور؟"، ضحكت عندما سألني السؤال، كيف يفكر بهذا وما الذي دفعه ليقول ذلك. وبعد حوار قصير، حتى لا أفسد عليه ولا يفسد على نفسه ألعابه. عرفت أنه صادف لي صورا على جوجل!
إنه اكتشاف أفرحني، ابني يعرف للمرة الأولى، صدفة، أنني مشهور! أو هكذا يتصور أن كل من له صور على جوجل سيكون مشهورا حتماً. شرحت له المسألة، وأن الشهرة ليست كما تظنّ، ولا أدري هل أدركها أم لا. منذ ذلك الحين إلى الآن لم يراجعني بشهرتي المزعومة. كيف يرى ابني الصغير "عصوم" أنني كاتب أو شاعر أو حتى مشرف تربوي، فأنا لا أزور مدرسته التي هو فيها، لا بصفتي وليّ أمر، ولا بصفتي الوظيفية. فوضعه في المدرسة جيد، سلوكاً وتعليمياً، وأظنه لا يكره المدرسة الكره الذي يجعله ينفر منها ولا ينهض مبكّرا صباحا، يستعدّ ليوم الدراسي كما ينبغي. إنه نشيط جدا، وينهض باكراً ويتناول فطوره ويستعد استعداداَ كاملاَ.
على كلّ سرقني هذا الحديث مما كنت أرغب في الحديث فيه. سأؤجل الحديث في ذلك الأمر لمرّة قادمة، حتى لا أفسد هذه الرسالة بإطالتها. أسعدني جدا أنك تقرئين الرسائل، وتردين عليها. هذا له أثر كبير جدا عليّ، ولا أخفيك سراً أنني أكون منتظراً رسالتك بلهفة حتى أقرأ الجانب المقابل من لغتي وفكري بلغتك وفكرك.
دمت ودام وهج قلبك المحب، وإلى لقاء قريب.
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق