حزب الله يحاصر المقاومة/ جورج الهاشم



المقاومة الاسلامية ممثلة بحزب الله محاصرة بخياراتها هذه الأيام. هي مستهدفة من جهات عدة داخلية وخارجية. انحرف مسارها من مقاومة للاحتلال الاسرائيلي الى داعمة لأنظمة القهر والتخلف والاستبداد والفساد والمذهبية والعشائرية في المنطقة. هذا لايعني ان المحور المقابل هو عكس ذلك. فالمحوران المتخاصمان، وهذا يشمل كامل المنطقة، يتقاسمان بالتساوي هذه "الانجازات" اللعينة التي أوصلتنا الى أسفل قائمة دول التخلف والفساد في العالم. والمشكلة انهم يتفاخرون بهذه "الانجازات". وأكثر من حشر هذه المقاومة وحاصرها هو الذي يحتكر أبوّتها ويعتقد انه يدافع عنها أي حزب الله نفسه.                         

لن أعود الى ثمانينيات القرن الماضي وأستعرض اساليب وظروف تأسيس وصعود المقاومة الاسلامية تحت العباءة الايرانية ومحاصرة المقاومة الوطنية وإخراجها من دائرة الفعل المقاوم. ولن أتوقّف عند التشكيك بنوايا الحزب الحقيقية من وراء استفراده بالمقاومة، و"محاربة" مقاومين كانوا قبله على الساحة وأثبتوا جدارتهم، من خلال تضحياتهم، باجبار العدو على الانسحاب من مناطق واسعة كان قد احتلّها. وباصراره على "اسلامية" المقاومة، عزلها منذ البداية عن عمقها الداخلي. ورغم ذلك كانت غالبية اللبنانيين تسارع الى احتضانها عند أي اعتداء اسرائيلي عليها.                                         

ففي العام 2000 توَّج اللبنانيون والعرب وأحرار العالم  نصرالله بطلاً لا يضاهيه أي بطل عربي اذ حقّقت المقاومة في عهده، ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، انسحاباً اسرائيليا دون قيد أو شرط من أراض عربية احتلّتها بالقوة، وأصبحت المقاومة، قاهرة الجيش الذي لا يُقهر، فخر اللبنانيين والعرب. وارتفعت أسهمها في كل لبنان كما في الخارج.                                                                  

وفي حرب تمّوز 2006 ، ورغم الدمار الهائل الذي تسبَّب به العدوان الاسرائيلي والذي طال كل لبنان، فتح اللبنانيون بيوتهم في كل المناطق لحماية اخوانهم الجنوبيين الذين هجّرتهم البربرية الاسرائيلية من بيوتهم بعد ان سوَّتها بالأرض. وارتفعت صوَر نصرالله في جميع العواصم العربية كأحد أبطال التحرر العالمي في وجه الغطرسة الاسرا- أميريكية. وسارعت الدول العربية، وخاصة النفطية، وبعض دول العالم – تحت ضغط الشارع -  الى مدّ لبنان بالمساعدات لاعادة اعمار ما هدّمته اسرائيل.               

حتى 2000 و 2006، عندما كانت المقاومة الاسلامية، مقاومة فعليّة للاحتلال الاسرائيلي، احتضنها  بعض اللبنانيين وقبل بها البعض الآخر وارتضت بها الدول العربية، ولو أن معظمها مرغماً بفضل دعم شعوبها الجارف لها، وأيَّدها أحرار العالم وتمتّع سلاحها برمزية خاصة فرضت احترامه على الجميع ودخلت في الخطاب الرسمي اللبناي "جيش وشعب ومقاومة". فهل حافظت المقاومة على هذه الصورة؟ وكيف كافأت من احتضنها وأيدها وقبل بها؟                                                                                                        

   منذ سنة 2008 رسَّخَ حزب الله تحجيم المقاومة عبر تنسيبها  وحشرها في خانات الانقسام الاهلي. وتحديدا في 7 أيار حين غيَّرَ وجهة السلاح من الحدود الجنوبية مع دولة الاحتلال الى الداخل اللبناني والى صدور أبناء شعبه الذين احتصنوه. ومع سقوط عشرات القتلى والجرحى، سقط الاجماع اللبناني حولها، وسقطت الهالة عنها وكسبت خصوماً  وأعداء كثيرين مستجدين، الى جانب من كان يتربص بها، لترتفع الأصوات بالمطالبة بنزع سلاحها. فكيف تريد للبنانيين وُجِّهَ هذا السلاح الى صدورهم  أن يستمرّوا بالدفاع عنه وحمايته وتأمين الشرعية له؟                                                       

وعندما ثار الشعب السوري على نظامه القمعي الاستبدادي القابع على صدورهم منذ عقود، أسرع نصرالله لدعم حليفه الأسد، فوجَّه سلاح المقاومة الى صدور السوريين، وضد رغبة غالبية وازنة من اللبنانيين الذين ذاقوا الأمرَّين من النظام الأسدي، مما زاد في عزلة المقاومة داخلياً وخارجياً.                       

التزم نصرالله علنا بالمحور الايراني: أعلن انه يأتمر بأوامر القيادة الايرانية، انه جندي في جيش الخامنئي، أعلن للعالم كله "أن إمامنا وقائدنا وسيدنا" هو خامنئي. صارح الجميع أنه يتموَّل من ايران. وهدَّد دولاً خليجية كما هدّد أميركا اذا شنّت حرباً على ايران. وأصبح ذراعا ايرانية في العراق واليمن والبحرين وسوريا ولبنان على الأقل... فبأي صفة يريد نصرالله أن يجرَّ لبنان وراء قيادة ملالي ايران؟ بداية أقول ان العقوبات التي تفرضها أميركا على ايران، وعلى غيرها من الدول، هي عقوبات مجرمة. ولايران الحق في امتلاك السلاح النووي طالما ان اسرائيل هي الوحيدة في المنطقة التي تمتلك هذا السلاح. وهنا لا يختلف حزب الله عن معظم الأحزاب اللبنانية التي تتموَّل من الخارج وتنفِّذ أجندات خارجية. هذا الالتزام بالمحور الايراني عزل المقاومة أكثرعن معظم شعبها في الداخل وعن العالم العربي وكثير من دول العالم.                                                                             

وأتت القشّة التي قصمت ظهر البعير: ثورة 17 تشرين. حكام فاسدون أذاقوا شعبهم الذل والعار. منعوا عنه المدرسة والدواء والكهرباء. لوّثوا ماءه وأرضه وهواءه. سرقوا أملاكه البحرية والنهرية وكل مشاريعه الحيوية. ركّبوا ديونا باهظة عليه. ثم سطوا على ودائعه وعلى لقمة عيشه. فخرج بتظاهرات حاشدة شارك فيها الكثير من جمهور الحزب لأن حالتهم ليست أحسن من حال باقي اللبنانيين. خرجوا مطالبين بالاصلاح  وتغيير هذه الطبقة السياسية تحت راية العلم اللبناني وحده. فمن تصدّى لهم؟ حزب الله  وشركاؤه في السلطة. سارع باعلان نفسه حامياً أساسياً لنظام الفساد مهدداً بأنه لن يسمح بسقوطه. لم يبقَ تهديده كلاماً بل ترجمه بالعصي وقضبان الحديد والموتوسيكلات والضرب واطلاق النار. لم يكن وحده في هذه المهمة بل شاركه فيها حرس مجلس النواب وشبّيحة حركة أمل وميليشيات قوى السلطة وأجهزتها القمعية. حتى تجرَّأَ الثنائي الشيعي على جمهوره المقاوم وأسراه المحررين من سجون الاحتلال فاعتدى عليهم في صور والنبطية وكفررمان وبعلبك وباقي مناطق سيطرته.                       

عملياً الذي حمى منظومة الفساد من السقوط هو الثنائي الشيعي. وان كنا نفهم حماس  حركة أمل ورئيسها    للدفاع عن هذا النظام  لأنه ركن أساسي فيه وربما الأهم. فهو الذي رافق كل العهود من الطائف حتى الآن. فهو رئيس مجلس النواب المفترض فيه ان يكون مراقبا لتصرفات الحكومات المتعاقبة، ومحاسباً لها عن أي تقصير، ومشرّعا لسد أي ثغرة قانونية. ولأنه لم يراقب ولم يحاسب ولم يشرِّع، فإن الاتهامات عن اثراء غير مشروع  تحيط به  وبحاشيته كما بسائر الاطراف دون استثناء  باعتبارهم شركاء في نظام الفساد الذي يدافعون عنه. ولكن أين مصلحة المقاومة في التصدي لشعبها الجائع والموجوع والمهان؟ خاصة ان حزب الله أعلن أكثر من مرة أنه سيحارب الفساد. وان معركة تحرير لبنان من الفساد أصعب من تحريره من اسرائيل. وعيَّن نائباً ليتابع الملفات التي أودعها القضاء. ليوهم اللبنانيين انه جادٌ بمحاربة الفساد فيزيح المشكلة عن كاهله ويضعها على كاهل القضاء الذي لا يتابع. نعم القضاء لا يتابع لأن القضاة يعينهم الحزب وبري وحلفاؤهما وجميع شركائهما في حكومات الوحدة الوطنية التي أصبحت الواجهة لمنظومة الفساد. وليس من مصلحتهم جميعاً ان يكون للبنان قضاء مستقل لألف سبب وسبب. لذلك  يرفضون عملياً الفصل الجدّي للسلطات وخاصة استقلالية القضاء ليستتب لهم النهب والسرقة والهدر دون حسيب أو رقيب.       

حزب الله، المحتمي بسلاح المقاومة، يستعمل هذا السلاح في الخارج دفاعاً عن سياسات ايران. ويتّهم كل من ينتقده بالعمالة. ليته يحدد لنا مفهومه للعمالة. وهل ينطبق هذا المفهوم عليه؟ وهل أصبحت الوطنية تعني تنفيذ أوامر مرجعيته في إيران  ولو كانت ضد مصالح الشعب اللبناني؟ والحزب يستعمل هذا السلاح في الداخل لاحكام سيطرته ولحماية نظام الفساد من السقوط في وجه معظم اللبنانيين وفي وجه بعض جمهوره. كما يستعمله لحماية المتهمين والخارجين على القانون. هناك عشرات المطلوبين الذين لا يمثلون أمام القضاء لأن الحزب قرّر، دون محاكمة، انهم أبرياء. آخرهم سليم عيّاش المتّهم باغتيال الحريري من قبل المحكمة الدولية. وبدل أن يسلمه ليدافع عن براءته ان كان فعلاً بريئاً، يرفع صورته بشكل استفزازي لمشاعر فريق كبير من اللبنانيين. وكأنه يقول للجميع: لا قضاء فوق قضائي. ولا دولة فوق دولتي.                  

المقاومة محاصرة ولكن ليس من أميركا أو اسرائيل، فهذا تحصيل حاصل. هي محاصرة اليوم بسبب سياسات حزب الله نفسه. فعندما كانت قبل 2006 مقاومة بوجه اسرائيل وحدها كان احتضانها  وتأييدها قويين ينبسطان  على معظم الداخل اللبناني ويمتدّان بعيداً في  العمق العربي وفي أهم عواصم القرار فيه. ولم يتجرّأ أحد وقتها على المطالبة بنزع سلاحها. ولكن هذا السلاح فقد شرعيته داخلياً بسبب توجّهه الى صدور اللبنانيين  منذ 2008 ووقوفه سداً منيعاً دفاعاً عن نظام الفساد منذ 17 تشرين 2019 وحتى الان. وفقد شرعيته عربياً عندما وضعَ نفسه في خدمة المشروع الايراني في المنطقة وفي خدمة محور الممانعة الذي لم نرَ من ممانعته الا الكلام.            

المقاومة تقف اليوم على مفترق طرق خطير. اما  ان تستمر في خدمة مشروع طائفي شيعي ايراني عنوانه ولاية الفقيه الذي جاهر نصرالله مراراً انه هدفه، مقابل أو بالتوازي والتحالف، رغم التعارض الظاهري، مع مشروع سني طائفي اخواني عنوانه الخلافة الاسلامية. أو تعود الى عمقها اللبناني وتلتحم بشعبها وتنخرط في مشروع بناء وطن لجميع أبنائه دعماً لنضال الكثير من اللبنانيين وكثير ممن نزلوا الى الساحات في 17 تشرين.                        


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق