الثلاثاء: 14/6/2021
أسعدت أوقاتاً، أرجو أن تكوني بخير، وأن تتقبلي هذا العزاء الخجول الذي جاء متأخراً. لن أكون "شيخاً" ولا "واعظاً"، فالموت لا بد منه، طال العمر أم قصر، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فمن عاش اليوم، سيموت غدا أو بعد غدٍ. فلست أثق في هذه الحياة مطلقاً، فلا تتأسفي، وعلينا أن نستمرّ، فالحياة مع كل ما فيها من غموض، تستحق أن تعاش.
في الحقيقة، يا عزيزتي، لا أحب أن أكتب عن الموت، بل إنني أنساه وأتناساه على الرغم من أنني أراه يومياً من حولي، في جيراني وأهل بلدتي ومعارفي، لم أعد أحفل بالموت لا من قريب ولا من بعيد، فليأت في أي وقت، وليأخذ من شاء، فمن كانت آخرته التراب فله التراب وحسب، فلا معنى لأن نفكر كثيرا بتفاصيل الحياة، وهمومها، كل حي منا، يؤدي دورا مرسوم له، وعندما ينتهي دوره، ينزل عن خشبة المسرح، ويأتي غيره من الممثلين، فلا بقاء إلا للخشبة، أما الممثلون فكلهم راحلون.
وما دمت أتحدث عن الموت، فها هو سعدي يوسف قد مات. أنا لا أحب سعدي يوسف إطلاقاً، لا شاعراً ولا إنساناً ولا مثقفاً. كان منذ سنوات صديقا على الفيسبوك، أنا من بادرت بإضافته بطبيعة الحال، كان جلفاً، مغروراً، يريد أن يقرأه الآخرون، ولا يحفل بغيره، كلنا بالنسبة إليه كائنات تعتاش على مخلفات أفكاره التي لم تعد تنفع. حذفته من قائمة الأصدقاء، لأنني أكره الغرور، وأكره العنجهية. وهذه العنجهية ليست تخصه وحده، بل كل من نقول عنهم إنهم "كبار" هم في الحقيقة متعالون، درويش كان مثله وأكثر، لم أحب من هؤلاء إلا سميح القاسم، كان دائما الحضور مع الناس ومع الشباب، تستطيع أن تتحدث معه وتبادله الأفكار، يقرأ لك، ويشجعك. لم ألتق سميحا، لكنني أحببته من سيرته على لسان معارفه، ولم ألتق أيضا بمحمود درويش، لكنني كرهت فيه عنجهيته من خلال معارفه، أحب درويش شاعرا ولغة، وأكرهه شخصا، كالمتنبي تماماً، أكرهه لتعاليه، وأحبه لتغنيه الشعري الجمالي الباهر.
حدثني يا عزيزتي أحد الناشرين أن شاعرا مرموقاً لم يتقبل هديته وكانت كتابا شعريا لشاعر شاب، تصفح الشاعر المرموق الكتاب، ورماه أرضه، وقال: هذا ليس شعرا. لاحظي العنجهية والغرور، لم يحترم الناشر أولا، ولم يحترم الكتاب ككتاب ثانياً، ولم يتعامل بلطف ثالثاً. هذا الصنف من الشعراء لو كان يقول قرآنا معجزا لا أعترف بشاعريته. الشاعر أخلاق وسلوك راقٍ أولا قبل أن يكون فنان لغة. سعدي كان من هؤلاء إضافة إلى أن سعدي تطور إلى رتبة "شاعر رديء" في آخر حياته الشعرية، صار يهذي. لم يعد شاعرا جديرا بالقراءة، لولا أن "شلته" من الشعراء أمثاله يصفقون له ويمدحونه. بالإضافة إلى أنني كرهت هذا الشخص لأمر مهم بالنسبة لي، ليس لأنه شيوعي أو يساريّ، فأنا أحب الشيوعيين واليساريين، وأحترم مناقشاتهم العقلية وإن اختلفت معهم. سعدي بذيء وليس مفكراً، أهان بكلام يقول عنه مؤبنوه أنه "شعر" شخصية عائشة زوجة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، لقد قلّ أدبه كثيرا، ولم يناقش المسألة فكريا أو عقديا، وإنما قال كلاما مبتذلا في حقها وحق الرسول الكريم. إنه سيء بدرجة السفاهة والسفالة.
لا تظني أنني أحمل أفكار إرهابية منغلقة، لكنني أحب محمدا حبا جما والله، وأكره كل من يرميه بسوء، أو أن يتحدث عنه بحديث غير منطقي وغير موزون وأمقت كل من شتمه وسبه، المفكرون العظماء حتى من الملحدين والشيوعيين، لا يشتمون ولا يبتذلون في القول إنما يسردون الحديث بالبرهان كما يعتقدون، وهؤلاء أحب أن أقرأهم، لأنهم ينمّون عقلي، ويدربونني على سعة الأفق، والاختلاف بحبٍّ مع الآخرين، فالعالم ليس شكلا واحدا وليس فكرا واحداً. أعد حاليا كتابا حول ظاهرة "شارلي أبيدو" وتفاهة المثقفين والحكام العرب الذين تغنوا بالمستعمرين، ووقفوا إلى جانب الصحيفة وفرنسا الاستعمارية القذرة.
ماذا وجد محمود درويش الذي لا شيء يعجبه في سعدي يوسف ليعجب بشعره، وليكتب له قصيدة ويهديه إياها، أظن أن درويش فعل هذا، لم أعد أتذكر هذا النص ولعله التبس عليّ وخانتني الذاكرة، لعله كتب له كما كتب لسليم بركات وللسياب ولغيرهم. أرجو أن تفيديني، لم أعثر على القصيدة، وربما وقعت في الخطأ وأنا لا أدري.
في كل الأحوال، لا أجد كبير حاجة للحديث كثيرا عن الأموات، والزمن كفيل بإثبات شعرهم ومواقفهم، لكنني مستغرب فقط من تسلق ظاهرة "الشاعر الكبير"، فقد تحولت حوائط الأصدقاء الفيسبوكية إلى ملطمة "تتشعبط" على أنفاس الموت.
العزيزة الغالية، أرجو أن تتجاوزي ما أنت فيه، أكاد أشعر بذلك الضيق الذي يكتنف روحك، ولو كنت أعلم ما هي ظروفك لهاتفتك. اكتبي لي أرجوك لأطمئنّ. قلبي وروحي معك. سلام.
**
الرسالة الثامنة والخمسون
كلما كتبتِ لي أزداد شوقا للكتابة
الخميس: 17/6/2021
شاعرتي الجميلة:
أسعدت أوقاتاً، وأرجو أن تكوني بخير، ما زلت أفتقد وجودك، وأشتاق لرؤيتك، فكلما طلع النهار أتذكرك، هذه حالة يبدو أنها ستستمر طويلاًـ لا بأس سنظل على أمل، لعلنا وعسانا نلتقي يوماَ.
ها نحن نستعدّ لعقد فعاليات ثقافية بمناسبة الذكرى الرابعة والخمسين لنكسة حزيران المشؤومة، ياه! كم من مناسبات مشؤومة في حياة الشعب الفلسطيني، منذ بلفور اللعين وحتى الآن، يعجز الإنسان عن حصرها. إننا شعب مبتلى بالمصائب. على كلٍّ سيكون هناك أمسية شعرية يوم السبت 19/6/2021، سأكون مشاركا فيها عريفا لها، ولكِ أن تتخيلي كيف يكون شاعرٌ عريف حفلٍ للشعراء. سيشارك شاعران وشاعرتان، آمل أن تكون ناجحة. يوم السبت القادم سيكون حافلاً منذ الصباح وحتى ما بعد العصر. وسيكون هناك أكثر حوالي (50) فناناً تشكيليا من الناصرة وأخواتها، مشاركين في رسم أحداث النكبتين المشؤومتين، يبدأون بعرض لوحاتهم منذ الحادية عشرة صباحاً.
من أخباري الخاصة الإيجابية؛ أنه ربما سيصدر لي ديوان شعر قريبا جدا، وهو ديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وربما شاركت أيضاً بمؤتمر الرواية القادم الذي ستقيمه وزارة الثقافة في ذكرى استشهاد غسان كنفاني الشهر القادم. الأمور بشكل عام تبدو جيدة جداً، أعمل على ديوان جديد بعنوان "قصائد إلى صوفي". هذه آخر الأفكار والاحتمالات المستقبلية، ماذا عنكِ؟ أرجو أن تكوني قد تجاوزت الحالة، ورجعت إلى ممارسة الحياة والكتابة بشيء من الرضا والتسليم.
اقترب موعد إطلاق كتابي "نسوة في المدينة" سيكون في مدينة الخليل يوم السبت 26/6/2021، بتنظيم من نادي الندوة الثقافي، أرجو أن تتمكني من الحضور، فها أنا أدعوك برغبة شديدة أن تكون مشاركة معي، بل يكفيني أن تكوني موجودة بيننا، سأكون سعيدا وأكثر. وربما كان اللقاء المرتقب في مكان لم يكن في الحسبان.
أعددت لإطلاق الكتاب كتابا آخرـ أهم ما فيه شهادات إبداعية حول الكتاب والقراءات النقدية. يا لغباء أحد محرري المواقع الإخبارية؛ عدّل اسم الكتاب. تخيلي الفصاحة والكياسة والفراسة واللماحية، غيّر اسم الكتاب وحرره من جديد. غبيّ بكل تأكيد، يصبح اسم الكتاب "لا شيء يساوي الحرية" بدلا عن "لا شيء يعدِل أن تكون حرا". إنها حالة تذكرني بتلاعب الصحف والمواقع الإلكترونية عندما كنت أرسل المقالات، فيقومون بتعديل بعض العناوين؛ ربما رغبة منهم في عنوان لافت كما برر لي أحد هؤلاء. لكن تغيير اسم كتاب مطبوع إلى اسم آخر يودي بالكتاب وحضوره الإعلامي، أظنها ترقى لتكون جريمة أدبية، إنه تلاعب يخلو من حسن النوايا، إنه جهل مطبق.
أعتقد أنك واجهت مثل هذه المواقف في حياتك الأدبية، قد يحدث في حالة الترجمة كثيراً، فيتم تغيير عناوين الكتب في رحلتها من لغة إلى لغة أخرى. إنها الخيانة غير المحمودة في عالم الترجمة.
سررت برسالتك الأخيرة كثيراً، فكلما كتبتِ لي أزداد شوقا للكتابة، أحب ذلك منك، وتشعرني بأهمية أن أواظب على مراسلتك، لأن كل رسالة اكتبها تحمل في طياتها رداً محتملا إلى درجة اليقين. لا شيء أجمل عندي من أن تكتبي لي. لا تجعليني أنتظر طويلاً، رحمة بهذا القلب الذي يحبك دون حدّ.
بانتظارك متى وأين لا أدري. وحدك والظروف من يقرر هذا.
قبلاتي الحارّة لمبسمك اللطيف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق