لكل كاتب أسلوبه الخاص الذي يعرف به، وربما من أجل ذلك كانت مقولة الكاتب هو الأسلوب نفسه؛ بمعنى الأسلوب نابع من التكوين الشخصي المتعدد المصادر للكاتب، فلا يصح أن يوجد كاتبان بأسلوب واحد، وإن انتميا إلى مدرسة واحدة، فالعقاد يختلف عن المازني كما يختلفان عن عبد الرحمن شكري، وكلهم ديوانيون، كما اختلف جبران خليل جبران عن مخيائيل نعيمة وهما ينتميان إلى الرابطة القلمية، أديبان مهجريان لبنانيان، وهكذا مع كل الكتّاب، والكاتب منجد صالح استطاع أن يرسّخ له أسلوبا مختلفا عن كل الكتاب الفلسطينيين، حتى أنني أزعم، وهنا الزعم ليس قرينا للكذب، بل هو أقرب إلى الحقيقة أنه لا كاتب فلسطيني يشبه في أسلوبه أسلوب منجد صالح على حد معرفتي، وأنا القارئ النهم، والمتابع لأجيال متعددة من الكتاب.
يعزّز الكاتب منجد صالح هذا الأسلوب في كل ما يكتب من مقالات ومن نصوص سردية، ترى في كتابه الجديد "إيسولينا وعجة بالفلفل الأسود"، هذه المنتخبات الأدبية، الأسلوب ذاته المفتوح على ثقافة واسعة استقاها من عمله سفيرا لفلسطين وعمله الدبلوماسي لمدة تزيد عن ستة وثلاثين عاماً، ترى فيها الثقافة العربية القديمة والثقافة الحداثية، ترى فيها الغرب وأمريكا، وترى فيها المسلمين والمسيحيين، ترى فيها كوبا والمكسيك، كما ترى فيها بيت أمر وصوريف وبيت لحم ورام الله والقدس ونابلس وسلفيت ومخيم بلاطة، وترى فيها أكلات غربية كما ترى أكلات فلسطينية والزيت الفلسطيني.
تقرأ وتتابع بسرد سلس وبلغة معجونة ومستلة من هذه الثقافات، إذ ترى المثل الشعبي الفلسطيني ومفردات الحياة العامة الفلسطينية المستخدمة في مجالات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية متعايشة بانسجام نصيّ مع مفردات عربية أصيلة وتناصات تراثية أدبية شعرية ونثرية ودينية معززة بلغة عصرية مكتسبة من تلك البلاد التي عاش فيها وعايشها حتى امتلك هذه التجربة الممتدة التي كان من شأنها أن تصنع هذا الكاتب ليكون له أسلوب خاص، من الصعب تقليده، لأن الكتابة هي بنت التجربة والكاتب منجد صالح ينهلُ من تجربته التي عاشها، ويصنع نماذجه السردية من تلك التجارب والأشخاص الذين التقاهم وعاش معهم، هذه الخبرة التي أفصح عنها في قصة "المناضل الفلسطيني المهذب"؛ فتبرز "خبرة المرء وتجاربه في هذه الدنيا ومعرفته بخبايا الجنس البشري وعلم السسيولوجيا، بعد أن لف وزار ثلاثة أرباع دول وأصقاع هذه المعمورة"، هذه الخبرة التي لم تنقطع بل ما زالت تتنامى مع تنامي العمر كما قال، فهو ما زال مستعدا للتعلم ممن حوله، وليس غريبا، فلولا هذه الاكتشافات البشرية العلائقية المجتمعية لا يستطيع الإنسان أن يكتب ما هو جديد وحيوي ودافع للقراءة. فتجدد الحياة يعني نها ما زالت مفتوحة على نماذج وتجارب إنسانية لا حصر لها.
لعل هذا المقتبس المشار إليه في الفقرة السابقة يؤسس جيّدا لفهم هذه النصوص التي ضمها الكتاب الجديد لسعادة السفير منجد صالح، وأعطاها اسم واحدة من قصص الكتاب وهي "إيسولينا وعجة بالفلفل الأسود".
تتألف هذه المجموعة من عدة نصوص وهي: "نهفات السائق أبي"، و"الصديقان الطيّبان"، و"وردة الجزائريّة والفتى مجيد"، و"المُسافر لا يعود"، و"بائع البطّيخ"، و"إيسولينا وعجّة بالفلفل الأسود"، و"الصيّدلاني الماهر"، و"المناضل الفلسطيني المهذّب"، و"الصديقان اللدودان" و "يولي البديعة". وقد تأطرت تحت اسم "قصص"، ولا أظن أن هذا التجنيس ينطبق عليها تماما إلا بالإطار العام الذي تلتقي حوله في الحدث والمكان والزمان والشخوص، لذلك فهي نصوص سردية انفلتت من عقال التجنيس القديم الذي نص عليه النقاد قديما للقصة القصيرة أو للقصة عموماً، وهذا ما أسلفت الحديث فيه عندما تناولت عمله الأول "ضاحية قرطاج"، وهذه ليست محمدة أو مفسدة، وإنما هي تؤشر إلى ترسيخ أسلوب الكاتب الذي لا يغادره، وهي إحدى ملامح هذا الأسلوب.
لقد عمل منجد صالح، هذا الكاتب الممتلئ لغة وأحاديث وقصصاً، على إزالة ذلك الخطّ الفاصل بين المقالة والقصة، وما بين القصة والرواية، بل إنه يكتب بصدق وفنية وحرية تجعله غير مقيد بكل تلك المواضعات التي نص عليها النقاد قديما، وهذا بطبيعة الحال يربك الناقد الجامد الواقف على حدود النصوص ومعه مسطرة يقيس بها نصوص الكتّاب، متناسيا أن لكل كاتب الحق في صياغة نصوصه بقوالبه الخاصة، وأن يكتب أفكاره متحررا من كل شيء إلا من الكتابة ذاتها التي تفرض ظروفها وشكلها ولغتها فرضا متناغما مع ذات الكاتب وآفاقه الروحية والاجتماعية والثقافية لتكون علامة دالة على أسلوبه.
إن الكاتب الجيد هو ذلك الكاتب المفاجئ في أسلوبه ولغته وطريقة تناوله للموضوعات، وهذا ما عمل عليه الكاتب منجد صالح في مجموعته "إيسولينا". ترى الجدية موازية للسخرية المرة أو للفكاهة وإثارة الضحك، وصناعة النكتة الموقفية التي تترك على شفتي القارئ بسمة لطرافة تلك المواقف، لكنها لم تكن كلها طريفة أو ساخرة وفكاهية، فثمة جدية وألم وحزن لمصير بعض تلك الشخصيات التي عانت من الخذلان كالدكتور جبران، وشادي ونادر ويولي، إنها نماذج مقهورة تتعرض للخذلان، لذلك فإن السرد فيها كان مؤلماً يبحث في التفاصيل، وما وراء التفاصيل، يتفحص الكاتب كل شيء حتى الوجوه والأجسام والمكان والعلاقة البينية للأشخاص، إنه يمنح السرد لغة واصفة تستطيع أن تكون آلة تصوير تنقل المشاهد بتمامها، كما حدث فعلا مع تصويره مشهد اغتصاب يولي، فلم يلهث الكاتب وراء المشهد ويستعجله، بل جعله ينضج باللغة وبالسرد التفصيلي حتى إذا وصل القارئ إلى مشهد الاغتصاب، كان قد تعبّأ بمشاعر سلبية تجاه المغتصب ومتضامنا مع الضحية، تلك المرأة التي لم تقف سلسلة انتكاساتها عند الاغتصاب، بل في زواجها، وطردها من عملها، والاعتداء عليها من الشرطة، ومن إهانة صديقها الأخير لها. إن القارئ هنا يشعر بمدى الفاجعة الإنسانية التي يلم بها نتيجة هذا المصير الأسود الذي لف حياة هذه المرأة، لقد كافأتها الحياة أو بشر الحياة بغير ما تستحق. ربما كانت هذه المرأة نموذجاً إنسانياً تجسده قصة "يولي البديعة" له أمثلة كثيرة في عالم النساء شرقا وغربا، حيث المرأة المناضلة من أجل الحياة، ولكنها تجد الطامعين بها وبجسدها في المرصاد، فلم تستسلم على الرغم من جرحها وتتابع حياتها.
هذا النموذج الذي استقاه الكاتب منجد صالح من المكسيك يقابله أيضا نموذج نسائي آخر بظروف أخرى، نموذج قادم من كوبا من العاصمة هافانا حيث ماريا ديل روساريو الطبيبة المطلقة التي تتعرف على فريد، ويصبحان صديقين وعاشقين ليقضيا ليلة ممتعة في "فندق تريتون" في الغرفة 2009 ليصور السارد تلك اللحظة الرومانسية التي يشتهيها عشاق كثيرون: "والتقت الشفاة مع الشفاة، الملتهبة، العطشى، المشتاقة، وتجاورت، وتعارفت، وتعانقت وتعاركت، وسالت، وانتثرت عصارة الفراولة والكرز". وصولا إلى تعبيره عن الالتحام الكامل بين فريد وماريا بقوله: "وتلاحقت أمواج الماليكون، وتلاطمت، وتراجعت، وتلاطمت ثانية، وتراجعت، وثالثة ورابعة وخامسة، تارة بقوة، وتارة أخرى بلطف وحنان. ولو مر سيف بيننا لم نكن نعرف هل أجرى دمي أم دمك".
لعل في هذا المقطع اللافت للنظر في كيفية صياغته بجمل قصيرة لا تتعدى اللفظ الواحد في أغلبها، يدل على تلك اللحظة وكيف اختار لها الكاتب لغة موحية شفافة بلاغية فيها من الكناية ما يجعلها لطيفة مفهومة دون أن يذهب إلى اللغة الصريحة المباشرة، فاللحظة لحظة حب وحميميمة وعشق ورغبة، بعكس المشهد النقيض مشهد الاغتصاب في قصة "يولي البديعة" الذي امتلأ بعبارات وألفاظ تشير إلى عنف اللحظة ولا إنسانيتها لتدفع كما قلت إلى اتخاذ موقف حيالها. فهذان المشهدان على الرغم من أن مآلهما الواقعي متشابه إلا أن ظروفهما مغايرة نفسيا، ولذا فقد اقتضى التغيير في اللغة، وهذا ما يطلق عليه الصدق الفني أو بتعبير الجاحظ في تعريفه للبلاغة: "موافقة الكلام لمقتضى الحال".
لم تكن تلك هي كل النماذج الإنسانية التي كتب عنها منجد صالح، بل كتب أيضا عن الإنسان الفلسطيني المسحوق، المخذول، والمناضل والمعتقل، وقرأ تبدلات الحال والأحوال حسب الظروف، وانتقد كثيرا من المظاهر السلبية في المجتمع الفلسطيني، تخلي الأخ عن أخيه، ومماطلة المحاكم بإصدار الأحكام، وتحكم الزوجة بزوجها، وتخليها عنه، والعلاقة بين الأصدقاء، واغتناء الإنسان وافتقاره، وتعرضه للخديعة من أصدقائه وأقربائه وأنسبائه، والانتهازية، وعدم المبالاة، والتفكير السطحي والاهتمام بالتفاهات، وما إلى ذلك من أمراض اجتماعية.
تعلقت هذه النصوص بأذيال المقال مرة وجنحت إليه، ومرة جنحت نحو القصص وتمردت على أساليب كتابتها، امتدت الأزمان في بعض تلك القصص إلى أكثر من أربعين عاما كما في قصة "الصيدلاني الماهر"، عدا ما في تلك النصوص من قفزات في الزمان، للوصول إلى بؤرة الأحداث التي يريدها السارد، إنه في نهاية المطاف أسلوب منجد صالح الذي يستخدمه في مقالاته المنشورة في المواقع الإلكترونية، وهو عينه الذي بتى عليه كتاب "ضاحية قرطاج"، وإنه لن يبدل أو يغيّر، وليس بوسعه أن يفعل ذلك، فما الكاتب إلا الأسلوب نفسه، شاء النقاد ذلك أم أبوا، وليبحثوا عن طريقة مناسبة لقراءة كل أدب يخرج عن تلك القيود، فتلك هي مهمتهم، كما أن مهمة الكاتب أن يكتب بحرية مطلقة دون الخضوع لأي شرط، فالإبداع لا حدّ له، وإن تقيّد بأي قيد فإنه سيكون ميتا أو كسيحا أو أعمى أو مصابا بعلة ما نتيجة فقدان أهم شرط من شروط حيويته وحياته، إلا وهو "الحرية المطلقة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق