باخرة المازوت الايرانية/ جورج الهاشم



لم تصل بعد وانقسم البلد حولها. قسم اعتبرها "قراراً استراتيجياً يوازي قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس" لأنها خرقت الحصار الاقتصادي على لبنان (؟!) وقسم اعتبرها خرقاً للسيادة (؟!) اللبنانية لأن الدولة اللبنانية ليست هي صاحبة القرار. وعلى هامش الموقفين نبتت مواقف كثيرة، وضاعت الحقيقة كما يحصل دائما في لبنان.                              

لن أنحاز الى أيٍ من المواقف المعلنة لأن في كلٍ منها غلافاً من الحقيقة يغطّي الكثير من الأكاذيب. وحتى اشعار آخر لم أرَ فيها فكّاً لحصار اقتصادي ولا خرقاً لسيادة مخروقة، ومنذ عقود، من كل الفرقاء. انها، وبكل بساطة، ستزيد الأمر تعقيداً ولن تحلّ المشكلة. والأسباب كثيرة سأذكر منها اثنين:                                                                              

الأول: المشكلة ليست في عدم وصول المحروقات. ففي الشهر الماضي وصل الى لبنان أكبر كمية تصل في شهر واحد هذه السنة ( تصريح لرياض سلامة لم يكذّبه أحد). معظمها لم يصل الى المستهلك اللبناني. قسم خبّأه المحتكِرون المحميون وهو الأقل. وقسم هُرِّب، كما العادة، الى سوريا من قبل المحميين من أحزاب السلطة كلِّها، وهو القسم الأكبر. بعض المخبَّأ صادره الجيش، وأكثر المخبّأ لا "يُسمح" للجيش بالوصول اليه. فماذا سيتغيَّر لو وصلت مئة باخرة ايرانية إذا بقِيَ فريق التوزيع على حاله؟ وإذا بقي المحتكِر والمهرِّب محمياً؟            

والثاني: لا يمكن أن يُبنى وطن بقرارات فردية، حتى ولو كانت صائبة في بعض الأحيان. وهذه مشكلة كل الأنظمة القمعية في المنطقة. وهي مشكلة كل امتداداتها في الداخل. فلو ان المازوت الايراني سيخفِّف الأزمة موضعياً فهو لا شك سيزيد من نار الانقسام والشرذمة. فلا السعودية ولا أميركا، ولا امتداداتهما في الداخل، ستتركان الساحة النفطية في لبنان ليهيمن عليها الايراني. اللهم الا اذا كان هناك اتفاق ضمني على تكريس تقاسم النفوذ في لبنان. ولنفترض أن أحد الفرقاء الآخرين استورد المازوت أو البنزين من مصدره، ولكلٍ مصدره ومرجعه، عندها يتكرّس مع الوقت نفط شيعيّ للشيعة، ونفط سنيّ للسنة، ونفط مارونيّ للموارنة، ونفط درزيّ للدروز... ولقد سمعنا من حجج المدافعين عن الباخرة الايرانية قولهم: "اذا كانوا قادرين على احضار المازوت من حلفائهم فليفعلوا وليريّحوا اللبنانيين من طوابير الذل". فعندما نعززالمناطق الجغرافية شبه  المغلقة حالياً على قوى سياسية / طائفية دون غيرها، بتكريس اقتصاد مغلق لهذه القوى، فماذا يبقى لإعلان التقسيم رسمياً؟           

المشكلة الأساسية هي في النظام المذهبي التحاصصي الميليشياوي المافياوي. واذا لم يتغيَّر هذا النظام ليتحوَّل الى نظام المواطنة والعدالة فلن تنفع رقعة مازوت من هنا، أو رقعة دواء من هناك، في ثوب لم يعد ينفع معه الترقيع. وكلّهم وقفوا، وبأساليب مختلفة، دون تغيير هذا النظام أو تطويره. والمشكلة الثانية ليست في طوابير الذل الطويلة التي يمكن ان تقصر أو تطول بتدبير ترقيعي من هنا أو هناك، وهي فعلاً مذلّة، بل هي في الطابور الأطول والأكثر اذلالاً، والذي يعمل كل واحد منهم على تطويله وتأبيد ذله وهو طابور القطيع. ولكل واحد منهم  قطيعه. فالقطيع محروم من أبسط متطلبات الحياة ومع ذلك يصفِّق لزعيمه الذي، بالتكافل والتضامن مع باقي الزعماء، أوصله الى الوقوف ذليلاً في هذه الطوابير. وحتى نخرج من طوابير القطعان فلا يحلم أحد ببناء وطن.                                                   

فبغياب المواطنة والعدالة، وبسيطرة الأحزاب الطائفية من خلال قطعانها وميليشياتها ومافياتها ومن خلال توزيع موارد الدولة على الأتباع والأنصار، وبغياب قوى معارضة حقيقية بقيادة موحدة وبرنامج واحد، تبقى باخرة مازوت من هنا، صفقة دواء من هناك، وعود شيّا المتجدِّدَة من هنالك، بطاقة تمويلية من مجلس نواب فقد شرعيته من زمان، خناقات مذهبية تتاجر بحقوق الطوائف لأعادة شد العصبية، تصبح كلها حقنات مخدِّرة "للجماهير الغفورة" تستعملها أحزاب السلطة لإعادة انتاج  نفسها في انتخابات نيابية اذا حصلت. وحتى إشعار آخر لا وطن في الأفق.

هناك تعليق واحد:

  1. تحليل منطقي ومحايد، ولكنه لن يلقى آذاناً صاغية مع الأسف الشديد. فلبنان طوائف للأسف الشديد

    ردحذف