سنديانتي ! يا أخت العرار وجارة النرجس/ يوسف ناصر

  


             لقيتها طفلة صغيرة، ولم تزل في مهدها ناحلة الجسد هزيلة القَوام تغفو في سرير من الحصى، وتدّثر بفراش من التراب، وتسند رأسها إلى وسادة خشناء من الحجارة، وكانت الريح حملت بذرتها من بعيد وألقت بها في هذا المكان النائي قرب شجرة زيتون قديمة من غرس أبي، وقد بان الشيب في فَوْديها وابيضّت به ذوائبها . فرحَتْ ، وهشّتْ، وعادت روحها إليها حين رأتني ، لكنّها لحظة اقتربت منها تقبّضت، وقد ظنّت بي شرًّا ! تبسّمتُ وتلطّفتُ لها، حنوت عليها ولامست شعر رأسها، وكان قد املاسّ تحت قطر الندى، فأفرخ روعها واطمأنّتْ  ! شكت لي أن ليلًا ضريرًا يمرّ فوقها كلّ يوم في ذهابه وعند إيابه ويطؤُها بقدميه فتصرخ .! وكم مرّة هوت الريح عليها من فوق وقد رماها صياد بسهمه، فألقت على جسدها وشاحًا ثقيلًا من برد وصقيع .!  مدّت يديها إليّ فحملتها بين ذراعيّ وغرستها في حديقة منزلي، أرعاها، وأتعهّدها بالحرث والسقي، وقد أخذت تكبر يومًا بعد يوم، ولم يمضِ عامان حتّى غدت بين أشجار المنزل غادة حسناء ترتدي ثوبًا أخضر هفهافًا، وتزدان بقامة فارعة تشرئبّ برأسها إلى العلاء، وتدلّ على شموخ وإباء، وعزم وجلَد..! وكم كانت سعادتها أنّ الطّير تأتي وتقف على كتفيها كلّ صباح، تمكث قليلًا ثم تغادرها لتأتي بعدها فراشات تتلفّع بخيوط زاهية منوّعة الألوان خاطتها يد الشمس، منقّطة برضاب الندى، تأتي إليها ترفرف فوقها لحظات وتسافر.! 

          سألتني ذات مرة لــِمَ تُغدق عليّ بهذا العطف والحنان دون كلّ جاراتي من الشجرات المثمرات! وأنا لا أثمر ممّا تأكل.! قلت : بل أنت أكثر شجراتي ثمرًا ، ما نظرت إليك إلاّ رأيت قطوف المواعظ دانيةً من أغصانك ، وعناقيد الحِكَم يانعةً تتدلّى على فروعك، وثمرات الأخلاق زاهيةً تتهدّل تحت أفنانك ، وما أُحَيْلاكِ تستقبلين بها أضيافي معي كلّ يوم..! أنت لا تبدّلين ثوبًا بثوب ! بل يبقى لونك واحدًا لا يتغيّر، ولا ترائين، ترعَين حقّ وطنك هنا عليك، إذ تقيمين طويلًا في حديقة هذا المنزل ولا ترحلين! كان هنا من الشجرات أكبر منك سنًا ودّعن ورحلن حين لم يصبرن على عوادي الدهر وعثرات الأيّام! أمّا أنت فباقية لا تتزعزعين أمام ريب الفصول، لا يبدّلك شتاء ولا يغيّرك خريف...! لهذا أحبّك وأُجلّك، لأنك حكاية الثبات وقصّة البقاء فوق الوطن منذ قديم الحقب، وكم أُكبر فيك ما حباك الله من وقار وسكينة وشمم ..! لستِ قصبة ضعيفة يستخفّك الطرب حين تناغيك الريح برشفة من خمرتها ويدبّ دبيبها في مفاصلك، فتتأوّدين وتتمايلين، ويغيب رشدك على شدو البلبل وعندلة الهزار..! 

.                  أنت سليلة أمّة خضراء كانت كسَتْ جبال بلادي  ووهادها قبل أن يكسوها الشوك والعوسج..! يا ابنة الجليل! ويا أخت العرار وشقيقة النرجس! ماذا بقي لنا من الأوطان غير أنّها غدت في نعوش نتحلّق حولها، ونبكيها، ونحثو التراب على وجوهنا لفقدانها، ونسير وراءها كلّ يوم في الجنازات..! أيّتها الحسناء الفاتنة! ليت كلّ أبناء الوطن من سلالتك سنديان يكسونه ثوبًا أخضر! لقد هجروه وهم فيه ! حزّوا عنقه بالسيف فما سفكوا إلا دماءهم! شربوا دمه فعطشوا ! وأكلوا لحمه فجاعوا !  ما رأيتك مرّة تنحنين أمام عاصفة، ولا ترتعدين من صاعقة، ولا تقوى عليك السيول الجارفة، ولا تنكسرين تحت جبال الثلوج .. بل تبقين معنا في القمم قممًا في عشق الأوطان. ويا بُشراك ! إنّ ذاكرة الجبال تشهد على فضلك وحنينك إلى رفقائك وأحبّائك من أجدادنا النائمين تحت أضلعنا، أولئك الذين عصروا الصخر بأيديهم فانبثق النور وأضاؤوا به أكواخهم يوم عنّاهم العطش والجوع في تلك العهود الغابرة .

               أحبّك لأنّني أحبّ الأطفال على أنواعهم وألوانهم وأعراقهم ودياناتهم، أحبّ الحُلم رضيعًا يُخفي في سريره عاصفة رعناء لا يردّها اللجام حتى تدقّ سنابكها فوق القمم.! 

               أحبّ الكلمة الخالدة بذرة صغيرة، وحبّة خردل ضعيفة تنمو وتكبر في رحِم القلم، فتسقط من لسانه على الأرض دوحة سلام ومحبّة وعدل وإخاء بين الناس والشعوب، وتكون أغصانها تاجًا على رأس الدنيا ليأكل الناس من ثمراتها ولا يجوعون.!  

                 أشتهي المحبّة في صدور الناس قبسًا ضئيلًا لا تطفئه ريح ، ويغدو به كلّ قلب شمسًا وهّاجة تُبدد بنورها ظلمة الصدور من حقد وحسد وقتل في هذا العالم.  

           أحب الحياة طفلة طاهرة تكبر أمًّا تحنو على أبنائها، وما انفكّت طفولتها تصاحبها، وتقيم معها في قلبها وعقلها، وبراءتها ترافقها، وتُنفِّض غبار العصور عن ثيابها، وتُلقي السيف من يدها، وتمنع الدمع عن وجنتيها، وتجمع فراخها تحت جناحيها على المحبّة والعدل والسلام في هذا العالم.  

             يا ابنة الجليل!  لقد هجرتِ البشرية طفولتها منذ آماد بعيدة، وقد استحال العالم مغارة عميقة ومظلمة تزدحم الشياطين والأبالسة وأجناد الشرّ الروحيّة في ردهاتها الواسعة! ليت هذا العالم يعود طفلاً طاهرًا وتستحيل مغارته مذودًا يأتي إليها المجوس من أقاصي الأرض ويحملون إليه الذهب واللّبان والمرّ، وهنالك يبشر الملائكة الرعاة بمجيء ملك السلام من جديد، ليبعث المحبّة دمًا يجري في عروق الناس، ويعيدهم أطفالًا أبرياء رغم كلّ هيرودس في هذا العالم..!   

                          كفرسميع

يوسف ناصر أديب فلسطينيّ معروف ومحاضر للغة العربيّة.

  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق