الليبرالية وتفكيك الثقافة/ عباس علي مراد



الإنسان العادي لا يريد أكثر من أن يحيا حياة كريمة مرتكزة على عدّة ركائز ذات أبعاد ثقافية سواء كانت تخصّ الجوانب الإقتصادية والإجتماعية والتربوية والفنية.

هناك أشياء يتوارثها الإنسان عن أسلافه ويحافظ عليها ويطوّرها بما يتناسب مع القيم وتطوّر الحياة وتقدّمها.

يلعب الفن والتعليم دوراً محورياً في الحفاظ على هوية الجماعات البشرية ويحصّنها ضد الإنحطاط في علاقاتها الأسرية والإجتماعية بالإضافة إلى تثبيت الموروث الذي يشكل اللبنة الأساسية وخط الدفاع الأول ضد مخاطر الإندثار.

هذا المفهوم وبعده الثقافي لم يرق لليبرابية بشقيها، المحافظ والتقدمي حيث أن الأول يحاول ومن خلال الشرعية الفردية للترويج لقيم السوق وتسليع (من سلعه) وجعل القيمة المادية تتقدم على ما عداها. أما الجانب الآخر لليبرالية أي التقدّمي فيعمل على تفكيك الروابط الإجتماعية والأسرية بأبعادها الثقافية لتعزيز النزعة الفردية.

في كتابه لماذا فشلت الليبرالية ل باتريك دينين ترجمة يعقوب عبد الرحمن، يبحر في عالم الليبرالية منذ نشأتها وهجمتها الشرسة على الثقافة بكل أشكالها من أجل فرض مفهوم واحد هو مفهوم الليبرالية التي جهدت لطلاق المرء وأنسلاخه وابتعاده عن مفهوم الماضي والمستقبل وحصر الهمّ الإنساني في الحاضر وتغييب البعدين الزمني والمكاني وهذا ما تجلّى في العولمة التي أطاحت بالأبعاد الوطنية والقومية وجعلت المواطن كرحّالة.

فرضت الليبرالية قيوداً حتى على المواطن الرحّال على الرغم من أنها طرحت شعار ما عرف بالتعددية الثقافية رغم أنها عملت بكل ما اوتيت من خديعة وتسويق وقوة من أجل سيادة ثقافة واحدة هي ثقافة الربح بغض النظر عن الجوانب الأخلاقية، فاتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء الذين ازدادوا جشعاً وشراسة في طلب المزيد، وما الأزمة المالية العالمية عام 2008 الا دليل حسّي على ما تقّدم.

هذا على الجانب المادي، أما ثقافياً فقد شنّت الليبرالية حرباً ضروساً على الثقافة والعلوم الإنسانية وشجعت على نزعات النكران فلم ينجو من حملة التضييق والتدمير أي فن من الفنون والآداب والموسيقى والعمارة والتاريخ والدين، لإدراكها أن تغييب الثقافة يقضي على الأعراف وكل ما له صلة بالإشكال والعمليات الطبيعية التي تستمد قوتها وثباتها من الثقافة الجيدة والهادفة التي تراكم التجربة والذاكرة المحليتين والتاريخيتين.

واستثمرت الليبرالية في التكنولوجيا لشق طريقها بإسم المنفعة والكفاءة التي قال عنها ويندل بيري بأن لها منطقها الخاص الذي يميل إلى تدمير ممارسات وتقاليد المجتمع، وفي نفس السياق تضيف شيري توركل أستاذة التكنولوجيا في معهد ماساتشوستس في كتابها " في عزلة مع الأخرين" أدلة على أن استخدامنا الواسع لوسائل التواصل الإجتماعي الحديثة لا يخلق جديداً بقدر ما تحل محل مجتمعات العالم الحقيقي التي تضطلع بتدميرها وتقول توركل أن جذر كلمة مجتمع يعني حرفياً "أن يعطي بعضنا بعضاً" وهو ما يتطلب القرب المادي والمسؤوليات المشتركة.

إذن، نحن أمام تحديات جمة تبدأ من التدمير المنظم للتعليم والثقافة والأعراف الإجتماعية التي تمارسها الليبرالية لتكريس مشروعها الذي يفضي إلى المزيد من النزوع نحو الفردية والتشظي وتشكيل شعب غير مفكّر على حساب قيم الحرية والعدالة والمساواة رغم ترويجها لأشكال من التحرر مشكوك فيها إلى حد كبير كما تقول نانسي فريزر.

السؤال الذي يطرح نفسه كيف يمكن مواجهة هذه التحديات الخطيرة؟

طبعاً الأمر ليس ميؤوس منه لكنه يتطلب جهداً وعملاً مشتركاً يرتكز على المشورة لإعادة بعث الثقافة الإنسانية بكل أبعادها الفنية والإجتماعية والأدبية ونشر التوعية والإضاءة على مشروع الليبرالية التي ما زالت ترفع الشعارات البراقة لكنها تهدف إلى بناء العكس تماماً وهذا ما تجلى في إخفاقها الإقتصادي والإجتماعي والأسري والتربوي والتي استطاعت التغطية عليها من خلال فرض السيطرة الإدارية والتفويض القانوني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق