كِلاَنَا سجينٌ في قفص.!/ يوسف ناصر

               


   .. 

                 "إلى كلّ عندليب يقضي حياته سجينًا في قفص.! "              

                                                                                                        

             .. غرّدْ أيّها العندليب ولا تبالِ.! فكلانا سجينٌ في قفص..  أنت في واحد، أمّا أنا ،لا تسَلْني، ففي قفص دونه قفصٌ إلى أن تنتهي بي الأقفاص  إلى واحد أبديّ يجمع رفاتي تحت التراب..! أوَ ليس كذلك أيّها الحرف الأريج، والقلم المِعطار !   

             تؤنسني بشدوك، وتُفرّحني، وتدخل، والدنيا نهار، إلى ليلي تضيئني، وعلى ضفاف شدوك تستلقي روحي، وتستريح من وعثاء السفر المضني ساعة عودتي من بلاد الأفكار والأحلام البعيدة ..!  ومنذ وقفتُ أسمعك، عُدتُ إلى الوراء نادمًا، أجمع أيامي الماضية كلّها أكوامَ حطب أحرقها، إذ قضيتها  أصغي فيها للأغربة التي كانت تقف كلّ مساء عند نوافذ القلب، وتنعق في أعماقي.!

             تمثَّلِ الحياةَ أيّها القدّيس الصّغير ما أجملها، لو أنّها استحالت ربوةً تخرس فيها كلّ الأصوات إلاّ صوتك هنا.. مع نفح الزّهرة فوق الرّبا هناك، وسلام الحمامة على الغصون، وبراءة الفراشة بين الأزهار، ووداعة الفجر على التلال، ولطف الأنسام فوق القمم ..! غنّ ِولا تبالِ ، واهنأ بما حباك الله من عطيّة عظيمة،لو ُوضِعَتْ أقلام الأدباء كلّها في يد واحدة منذ وُلِد القلم ، لمَا استطاعت أن تخطّ جرْس تعابيرك، وموسيقا ألفاظك، وبلاغة معانيك فوق أسطر الوتر .!

           غنِّ ولا تسكُتَنْ .! فلا تكون القلوب نقيّة إلاّ بحنين الوتر، وأنين النغم، ورنين اللّحن..! إنّ الصّوت العذب يسمعه البركان فيخرس.. ويصل أذن الزلزال فيسكت.. ويبلغ سمع الريح من بعيد فترقص فوق رؤوس التلال..! وأنت تعلم أيّها الموسيقار العظيم، أنّ نفوس النّاس في هذا العالم في ضنك شديد، وضيق مُمِضّ، وقد رهَقَها طول السير في الحرّ الحارق بين الجوع والعطش.. فتاقت إلى الراحة والسّكينة، بل أصبحنا في عالم يموت الحُرّ فيه من " الحِفـاظ المـرّ *" عطشًا، ولا يجد نغبة واحدة من شراب هذه الدنيا تشفي غلّته، ، ولو أنّ نهرًا عظيمًا من ترياق يصبّ في فمه، أو بحيرة من كوثر تتلاطم  أمواجها تحت الصّدر  ، وتفيض فوّارةً فوق الجوانح !!  

          انعَمْ بسجنكَ وتهلَّلْ.! إنّ للأقفاص فضلاً عميمًا على أصحاب المواهب، والمفطورين على الإبداع كشاعر مثلك، حين تُطيّر منها أصواتهم، وتستنهض قرائحهم ، وإلاّ فمِنْ أين للبذرة أن تنمو دوحةً ظليلةً إن لم ُتسجَن تحت التراب! ومِنْ أين لثورات المستضعفين في الأرض أن تنهض إن لم تُحبَس العزائم في صدور الأحرار! ومن أين لعبق الزهرة أن يتضوّع إن لم تهزّها الأنسام النديّة !                                            

                ُقلْ لي أيّها الغرّيد.! مَن أولئك الفتيات الطّريرات اللّواتي يتزاحمنَ على نوافذ سجنك، وينفخن من أفواههنّ رذاذًا بين قضبانك، ويكشفن بأيديهنّ عن رياشك الجميل، ويلامسن المروج الخضراء فوق جناحيك، بعد أن املاسَّت أوراقها بالنّدى الوسنان ؟ ألسْنَ النسماتِ الرقيقات، فتيات الصباح، وبنات البساتين، وعذارى الحدائق!! يجئن إليك كلّ صباح ومساء، ليرقصن بين قضبانك!!  ومَن ذلك الغلام الغرير الذي كلّما أتاك باكرًا ، وغسل جناحيك بالنّور، هزّتك النشوة، وطوَّح بك الطّرب ؟ ألا يكون ذلك  الفجرَ البديع، الذي يُلقي فوق بُردتك رداءً أرجوانيًّا من نسج الشمس، وسقيط الطّل ؟ فانعَمْ بسجنك وتمتّعْ، ما دامت الأنسام ترفّ بأجنحتها حولك ، والفجر يطلبك، والأسماع ترتادك،  والموضع يرتفع بك إلى عرش المجد والكمال..! 

                يا صاحبي في وحدتي أنت، وأنيسي.! كم كنتُ أودّ أن تكون حرًّا طليقًا، تهتف فوق فروع الصّفصاف الوريف، وعلى أفنان الخابور الوريق، تجاوب النّهر الثّرثار، وتتردّد بين الكروم والبساتين..تمرح بين عصائب الحمائم الهُتَّف على الجداول، والغصون المُـيَّد في الخمائل، غير أنّك في مقصورتك الصغيرة هذه، أنت أحسن منك لو كنت في أعظم قصور الدنيا، وأجمل بروج الأرض ..! بل افخَرْ بأنّك، هنا، لستَ أسير شهواتك، وسجين غرائزك كالكثيرين من الطلقاء  هناك في أرجاء العالم..! 

            ألا ترى قفصك نعمة عليك، يحجز عنك هذا العالم، بما عند أهله من الطمع، والدّجل، والرّياء، والقتل، والعنصريّة، وسائر الأسقام القاتلة !! ليتك عرفتَ، وأنت في سجنك هذا، ما يكابده أخوتك من السجناء في هذا العالم، وكم جحيم كلّ يوم يقاسون ، لكنتَ نظمتَ أبلغ مرثاة لأولئك المدفونين أحياءً تحت الأرض في الصحارى النائية، مِنْ كلّ مَنْ قطعوا رأس وطنه  بين يديه، وافترشوه، وأقاموا الولائم فوق ضلوعه، يأكلون، ويشربون، ويطربون على نغم الأنين الصاعق، وخرير الدّم الموّار ؛ بعدما أوثقوا صاحبه، وسجنوه، وقيّدوه مع صوته بالسّلاسل والزنزانات، حيّـًا مدفونـًا في أسفل طبقات الظلم من تحت أعماق التراب.! أمّا أنت،وإن كانت سجون الأحرار واحدة، فحظّك من الظلم أفظع ،إذ إنّك محكوم عليك بذنب موهبتك العظيمة، وبنعمة صوتك الرخيم ..! فماذا تقول في عالم  وَبِـيء ، يستمرئ الظلم، وتعُود فيه المواهب على أصحابها ذنوبًا، وحسناتهم سيئاتٍ عند الأوغاد من الناس ممّن  عطس الشيطان عطسة قويّة مرّة، فملأت سلالته أرجاء المسكونة منذ نشأة العالم ..!

         يبدو، أيّها العندليب، أنّك قرأت تاريخ البشريّة، أعني تاريخ السيف، وقصص الدّم، وحكايات المذابح، وروايات النهب، وأخبار الاستضعاف، ومظالم الاستعمار، وأقفاص الاحتلال، فاشمأزّت نفسك أن تعيش طليقًا بين المروج ، بل رحتَ تربأ بنفسك أن تكون من طينة أبناء هذا العالم.! كذلك لم تشأ أن تكون ضحيّة من ضحايا مأسـاة المعرفـة في هذا الكون، فاخترت أن تكون أبلَـهَ بين الكائنات، حين عرفتَ  أنّه "كلّما ازددتَ علمًا ازددتَ حزنًا "..وقد أنسْتَ بسجنك يوم رأيتَ كلّ جماعة من بني البشر تعيش في صَدَفتها، وكلّ طائفة تحيا داخل شَرنقتها، وقد اختزنتْ فيها عقولها، ومعتقداتها، وتقاليدها، وتأبى على طبائع أبنائها أنْ يخرجوا منها يومًا.! فتحيّة لك ،وكلّ تجِلَّة لنُبلك، إذ آثرتَ السجن على أن تحيا في عالم كثير الأصداف والشرانق .!

           أيّها المعلّم العظيم ! عجيب أنت بين الكائنات، لقد حجزوك عن أهلك، وأحبّتك، ووطنك ، حيث كان يميس بك الغصن، ويتأوّد الأملود، فوق فواغي الزهر، وبواسق الدوح ، وما سمعتك مرّة واحدة تبكي إلفك، أو تندب فوق أطلال وطنك ، بل أراك دائمًا تعلو فوق نكبتك، تطوف بمزمارك في أرجاء حجرتك، وقد جعلتَ سجنك قصرًا يعبق بالترانيم العطرة، ويضجّ بالمزامير الحلوة ، ويزدان بأناشيدك الخضراء عند كل صباح ومغيب..! وأعظم من هذا، أنّي أراك في وحدتك تيّاهًا تختال بقَوامك الجميل، نهّاضًا قبل طلوع الفجر تُذبّب بذَنَبك، وتهزّ أعطافك مرّة، وتنـزو فوق أرجوحتك مرّة أخرى نزواتِ مرحٍ وتغنّي !! فيا لك واعظًا وبشيرًا حُقّ لجموع اليائسين من النّاس أن يأتوا إليك ، كي يتعلموا صبرك وجلَدك، وكيف على واحدهم أن يلاقي الحياة على حالٍ  دموعه فيها تنهلّ من أجفانه، وهو يغنّي..!

             أنت غنيّ بما وهبك الله من أجراس معلّقة في حنجرتك، لم تُوهَبْ لطائر سواك، وحين يناديك الصباح ، تستفيق أوتارك من نومها على عجل،  وتدقّ أجراسك دقّات قليلة ثم تسكت، وما هي إلاّ لحظة ، يطير الصوت من لسانك إلى الفضاء في دفعة عجيبة، حين يشاهده سمعي يرنّق ثمّ يحلّق عاليًا،، يجنح تارة إلى اليمين، وتارة إلى الشمال، ثم ينقضّ سريعًا إلى أعماق الأودية، ليعلو بعد ذلك ويرفرف فوق الجبال، ثم يهوي إلى الوراء مرّة، وإلى الأمام مرّة أخرى، وأخيرًا يهدأ، ويستقيم في طَلَقاتِ نغمٍ متتابعة، وطَرَقاتِ لحنٍ متوالية، حتّى يستحيل طنّاتِ فرحٍ، وعنّاتِ شكوًى ، فيها يُغيِّب الطرب وعيَك فتُسجّـِعُ وتُرجّـِعُ، وتُعدِّدُ وتُردِّدُ، وتحوِّمُ وتدوِّمُ ،وفجأة يعود الصّوت على مهل إليك، ليحطّ في لسانك وتسكت! ولتخفي رأسك بعد ذلك تحت جناحك الخضيب، وتحكّ بمنقارك جؤجؤَك الصغير، وتعبث بثوبك الأنيق ،وأخيرًا ترفع رأسك إلى العلاء بكبرياء وشمم، لا تلتفت حولك، ولا يعنيك مَن سمعك على المنبر .! 

           أيّها الشّاعر العظيم ، ألقِ قيثارتك قليلاً من يدك، وأرْعِني سمعَك : إنّك  كلّما نطقتَ اعذوذب صوتك في سمعي، وزاد حسنًا ورونقًا، وحرَّض عليّ لواعجي النائمة في أعماقي..! إنّ مطوّلتك الغرّاء التي تنشدني بعضًا من مقاطعها كلّ يوم، قد اجتمعت العصور الطويلة على نظمها، وكَتْب حروفها، وتنقيح جملها، أيّامَ أمسكتْ بأقلامها، وخطّتْ كلماتها على لسانك زمنًا طويلاً..  وتلك، بعد أن لاكتها الدهور الطويلة في أوتارك ، خرجتْ إلى الدّنيا بهذه الصياغة الباهرة التي لا يكفّ كمالها وجمالها، أبد الدهر، يتنافسان فيك على المجد والخلود..! بلى، إنّ ذا سُنّةُ الكلمة السَّنيِّة، ومعيارُ الأدب الخالد الذي يصاحبه المجد السرمديّ دائمًا بفضل الموهبة أوّلاً، ثمّ ببذل الجهد، والتعب، وطول المعاناة من أجل توليد المعاني من أرحام القرائح. مثَلُها مثَلُ الثمرة اليانعة التي لا بدّ للفصول الطويلة أن تُعِدّها من قبلُ بجود المطر ولمس الريح ولطف الندى، حتّى يتفقّأ نَوْرها ويطلع برعومها، وتنمو على مهل، وتكبر قليلاً قليلاً، ثم تصمحها الشمس بالجفاف الطّويل والحرّ الحارق ، حتّى تنضج أخيرًا وتحلو للآكلين ..!

              يا سيّد المنابر، وخطيب الجداول، إنيّ أبجّل آلهة الكلام، وأرباب القلم أينما كانوا ، لكنْ ماذا نفعل، وعقولنا قبل أوطاننا، أصبحت مباحة أمام الغزاة والفاتحين، وقد غافَلَنا في هذا العصر، قبل طلوع الفجر، زحفٌ عظيم من كلّ مِهذار من النّاس ثرثار، وهذه المرّة كان الغزاة  من أنفسنا،  خرجوا إلينا من تحت جلودنا، وقد غطَّوا الأرض بكثرتهم، وصمّوا الآذان بما يتبعهم من صنوج وطبول، إذ جاسوا الأسواق، وشغلوا الأبواق ، وأمّوا القنوات وعمّوا النّدوات .! تلقى واحدهم بين الفينة والفينة يطلع عليك بمطوّلة بعدها مطوّلة ، ومقصَّرة دونها مقصَّرة من شعر ونثر، حتّى سدّوا الطرقات والمنافذ بالغثاء والقذاء في وجه المارّين الآتين من بعيد يطلبون الأصالة والعراقة في الأدب..! وإذ كنتُ ،أيّها الغرّيد، واقفًا على الطريق بين الزحام، حائرًا فيما أرى وأسمع ،سكتُّ، وفكّرتُ، وتأمّلتُ، حتى أدركتُ أخيرًا حكمة الخالق في أنّ الله يبعث خَشاش الطير فوق الأنهار كي يمجّدك ،حين يُظهر حُسنك بقبح غيرك، ويدلّ على كمالك بنقص سواك في هذا العالم..!! وليبيّن أنّ مِن النّاس مَن نزلوا من أرحام أمّهاتهم كُتّابًا باستحقاق ،وقد جاؤوا  إلى العالم لكي يكتبوا، ومنهم مَن جاؤوا يكتبون لكي يكونوا كُتّابًا !! وأنت تعلم، أيّها الغرّيد، أنّ كلّ شيء يمكن للمرء أن يناله على الأرض إلاّ المواهب.. إنّها لا ُتعطَى من السماء إلاّ للمختارين من بني البشر من أجل قيام العالم . ولله ما أعظم نباهتها ، وما أشدّ حرصها على قداستها، يوم تراها تعاجل وتفتضح زور من يدّعيها ، وتُعرِّي مَن يرتديها، ساعة تدينهم من ألسنتهم.. وتشهد عليهم بحروفهم ، أمام منبر الزمان الذي كما يسمع  يحكم ، وحكمه عادل في مملكة الأدب!!  أيّها الغرّيد ،كذلك عافت نفوسنا كلّ قلم دجّالٍ يقول ما ليس فيه، وما فيه ليس يقول.. وليس  الخبر كالعِيان في هذا العالم.!

             .. تعَزَّ أنّك خيرٌ من ذلك الصّقر الجارح في الفضاء ، وأسمى منه مقامًا، وإن كان أطْيَرَ منك شهرةً وأشدّ مهابةً.! ماذا تفعل! وحظّه من الأجنحة قد أسعفه أن يرقى إلى أعالي الجوّ، وأنّ الناس اعتادوا أن يمجّدوا الأقوياء، ويتحاموهم في هذا العالم .! ، وما ضرَّك أيّها العبقريّ ! إنّ قوّة اللّسان أعظم من قوّة السّنان دائمًا ، وإنّ الذي يضرب بالوتر على قلوب الناس أعظم من الذي يضرب بالرمح على أجسادهم، كذلك ليس كلّ مشهورٍ عظيمًا، وما كلّ عظيمٍ مشهورًا في هذا العالم، إنمّا الحياة فُرَصٌ تقسو كثيرًا، فتجود على هذا بالأجنحة، وتبخل بها على ذاك.!  قُلْ لي بربّك ، وماذا تغني الأجنحةُ لدى أولئك الذين لا  تتجاوز أعمار أقلامهم  حدود بلادهم الصغيرة ، وحدود المرحلة الواحدة من مراحل الزمن التي تنقضي على عجل، وبانقضائها تُمحى أسماؤهم من سفر  هذا الكوكب!! بلى، ليست السّاقية كالنّهر، ولا السّراج كالكوكب..وحسبُك أيّها العندليب، أنّ عمر العبقريّ  يبدأ بيوم ميلاد قلمه ، أمّا نهايته فتكون عند آخر أطراف العصور السحيقة التي لا يتّسع لاحتوائها فضاء ذاكرة البشر .!

            ماذا تنتظر ! قمِ اهتف معي، ونادِ بأعلى صوتك : إنّ روائع الأدب لا تصدر يومًا إلاّ عن روائع النّفوس، ولا تكون النّفوس كذلك إلاّ بقدر ما ترقى في الفضاء إلى أعلى المراتب الروحانيّة المضاءة بالمواهب النيّرة. لمثل هذا ابتعدت الشمس في أعلى الفضاء عن الأرض، ولو لم تكن في ذلك العلاء لمَا أضاءت هذا العالم !! 

                أعلَمُ، أيّها الغرّيد، أنّك مداراةً للنسور التي تحوم في الجو ، تسجن أناشيدَ لك كثيرةً خلف القضبان من ضلوعك ، بل إنّك تكتمها لئلاّ يسمعك أحد !! وليتك تدري أيّها الغرّيد ، أنني سجين وسجّان مثلك..! فلا تعجبنْ إذ تراني دائمًا، والسّوط في يدي، واقفًا أضرب براكيني كلّما نهضتْ، حتّى تستكين في أعماقي  وتهدأ !! ثم أرتدّ للوقت إليك لتكون سلواي في تباريحي، ونجواي في وحدتي، تسرّي عنيّ همومي، وتشدّدني في غربتي..! ويا ليتك تعْلـم أيّها الغرّيد، أنّ مِن فضل نوائب الأيّام عليّ، وعظيم حسناتها عندي، أنّها صبَّتْ فيَّ كلّ حُمَمها وأنهارها وسيولها ، وملأتني حبرًا حيّـًا أحيا على ترشافه كلّ يوم، بعد أن استقطرْتُه من ذوب الروح، واعتصرْتُه من لعاب الجراح..! فمَن لي بأقلام الدّنيا تأتي إليّ لتشربني، وتكتبني، وتطلق كلّ الأسرى والمسجونين وراء الأقفاص تحت ضلوعي، وتفكّ قيود كلّ ما في القلب من برق وصواعق !! 

        ..بشراك أيّها الغرّيد بشراك.! وإن كان حالي على ما ذكرتُ، فلقد أبَيْتُ إلاّ أن تكون حياتي عرسًا بهيجًا دائمًا، ينزل بعضه إلى قلبي من ألحانك الحبيسة في قفصك ، وبعضه الآخر يصعد إلى سمعي من عنادل مأسورة في ربوة زاهرة تحت صدري، ولا تكفّ ساعة عن الغناء فوق خرير الجراح وغدير الألم .!

                                                             كفرسميع

*

إشارة إلى قول أبي تمّام في رثاء محمّد بن حُميد الطوسيّ حيث قال:

وقدْ كَانَ فَوْتُ الموتِ سَهْلاً فَرَدَّهُ     إليهِ الحِفَاظُ المرُّ، والخُلُقُ الوَعْرُ

أيّ المحافظة الشديدة على كلّ ما يجب على المرء حمايته، ولو كان الموت دون ذلك. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق