أنّ القصيدة السرديّة التعبيريّة هي القصيدة التي تتخلّى عن الوزن والقافية , تكون فقراتها النصيّة سلسة , وفي نفس الوقت صعبة الانقياد والكتابة , تعبّر عن هواجس النفس الدفينة , وعمّا يحدث في أعماق الروح , وتُثير المتلقي وتجعله يقف أمامها مندهشاً متحيّراً قلقاً , أنّها تُكتبُ على شكل كتلة واحدة وبدون تشطير أو ترك فراغات بين فقراتها النصيّة أو نقاط , وتكون طبيعتها شعريّة , حيث ينبعث الشعر الكثير مَنَ النثر الكثير , تُكتبُ بالجمل المتوالية والفقرات المترابطة فيما بينها , وتحتفظ بخصوصيتها الشعريّة , وتبتعد كثيراً عن السرد الحكائي , تكون الكتابة فيها متواصلة , وتمتاز بكثرة الصور الشعريّة والمشحونة بزخم شعوري عاطفي شديد , هي المزاوجة ما بين النثر والشعر , والتشظّي الشعري , تبتعد كثيراً عن التشطير ولا تكتفي بالصورة الشعريّة المعهودة , كلّ جملة فيها هي عبارة عن سطر شعري , فهي ليست قصة أو مقالة , هي لا تمتلك ثيمة ولا تسلسل حكائي ولا حتى تطور حدثي , فقراتها النصّية تتتابع وتتوالى , وكذلك صورها الشعريّة الكثيرة , وما فيها من كمية مشاعر وأحاسيس مرهفة , قادمة مِنْ أعماق الذات الشاعرة , تحافظ على الرمزيّة الإيحائيّة والتكثيف اللغوي والصور الشعرية والأنزياحات , هي القصيدة التي لا تعتمد على توظيفات بصرية إيقاعية , التعبيريّة فيها تعني التقاط المعنى العميق والدفين وإظهاره بصورة شعريّة مذهلة , لغتها التعبيريّة تكون بلّوريّة ومن خلالها نستطيع رؤية العوالم الداخلية للذات الشاعرة .
في هذه القصيدة السرديّة التعبيريّة النموذجيّة / غناء عوسجة بدمعة كبرياء / , نجدها تشتمل على التضادية ابتداء من :
1- نثرية الشعر ( النثروشعرية ) .
2- شعرية السرد ( السرديّة الشعريّة ) .
3- توصيلية الرمز ( الرمزيّة ) .
4- تأثيريّة الكلام شعورياً واحساسيّاً ( التأثرية الشعورية ) .
5- الادراك العميق باللغة ( التجريديّة ) .
فنحن أمام عناصر ذهنية للتعبير تتمثّل بالفكرة , وعناصر روحيّة تتمثّل بالعاطفة والجمال . وبالعودة الى الوحدات التعبيرية لهذه القصيدة نجد هذه الحالة من التناغم ما بين الروح والعقل والجسد , فاللغة هنا وليدة منتجة نتيجة عشق الشاعرة للغة والتوسع والابحار في جماليتها وهذا ما نجده في هذه الوحدات التعبيرية نتيجة لقدرتها وشعورها العميق باللغة وهذا ينمّ عن تجربة كبيرة للشاعرة . فمن خلال الولوج الى عالم الشاعرة الشعري ومن خلال عنوانها المثير واللفت / غناء عوسجة بدمعة كبرياء / نجد العمق الشعري الظاهر والمتجلّي , فالعنوان عبارة عن وحدة تكوينية يشتمل على الرمزيّة والتعبيريّة والتجريديّة والايحاء والخيال الخصب في رسم هذه الصورة الفذّة , هنا تتجلّى بوضوح التأثرية الشعورية والايحائية والرمزيّة والتجريديّة , هذا العنوان ينفتح أفق من التأويل , فمثلا ترمز مفردة / غناء - يرمز الى صوت الذات الشاعرة ,/ عوسجة - هو الذات الشاعرة نفسها , / بدمعة - التأثير الشعوري الإحساسي , / كبرياء – الدراك العميق بالغة التجريديّة التعبيريّة , أنّها أغنية حزينة يتجلّى من خلالها الكبرياء , والعنفوان , والقوّة , هذه الذات الشاعرة – العوسجة الشجرة المغروسة في الأراضي الجافّة وما يعني من غربة وانفصال وتشظّي تقاوم البقاء والصمود رغم الجفاف وعدم وجود التربة الصالحة والأجواء الملائمة لنموّها , بدمعة – بوح تعبيريّ يدلّ على تحمّل الصعاب والحزن والمحن ومدى التأثير النفسي والجسدي وما تلاقيه من مشاق وصعوبات في الحياة , لكن رغم كلّ هذا فها هي الإنسانة والشاعرة المعتزّة بذاتها والحاملة لكلّ هذا الكبرياء والشموخ , هذه الكرامة التي هي من أعزّ ما يمتلكه الانسان ويصنع كيانه ويحفظ هيبته ووجوده وكرامته من الضياع , هنا يوحي لنا العوان وكذلك بقيّة القصيدة بمدى تمسّك الشاعرة بكرامتها وبعدم تفريطها بها , وبعدم التهاون والتنازل وتقديم الخسارات .
والان لنتناول قصيدة الشاعرة : سلوى علي , وبهدوء نتجوّل في رحابها وشموخها وجماليتها , فمثلا نقرأ / اوتارها ترياق شقاء / كيف تكون الاوتار ترياقاً للشقاء – هذه اللغة التجريديّة حيث تنقل لنا المشاعر والأحاسيس بدلاً عن المعنى المتعارف عليه , ثم نتدرج في بحر ابداع الشاعرة بهدوء وحذر شديد / يقطع الحبل السرّي لمشيمة تفاحة عذراء فائرة الروح بين مزارات شواطئ الملح في عراء خريفها بتلك الارض الراسخة فوق خطّ استواء الانغماس / , هنا نجد بانّ الكلام ليس كلاماً عادياً جميلاً فقط , وانما هنا تتجلّى عظمة اللغة المبهرة والعظيمة , والتي تتراوح ما بين التعبيريّة والتجريديّة , ومن بعيد توح بالكثير بالعاطفة الجيّاشة وجمال الروح , ثم / كلّما انجبت عوسج امرأة حنطّيّة عصافير كهلة فوق ربوة خرساء منَ اللمسة الاولى , تجمع رايات الاستسلام في حقبة مدينتها الحزينة تقضم خشخاش الدهشة بين أنياب الذئاب الادبيّة التي أخطأت مرادها / , هنا نجد الانزياحات اللغوية والانحرافات العظيمة في اللغة والابتعاد بعيداً عن السطحية والمباشرة , وكذلك نقرأ / تبكي ووحمة أزقّتها القديمة التصقت بجداول كرزها بين ثمالة الامزجة تتذوق الف خذلان وحفنة قرنفلات من حنظل / , نجد هنا التأثيرية الشعورية العنيفة تنبعث من بين طيّات هذا المقطع النصّي الفذّ , فهذا المقطع يمتلك طاقات شعورية عنيفة وتوصيليّة رمزية محبّبة وإيحائية عالية البوح والـتأثير , ثم نقرأ للشاعرة / تشقّ صدر الكلام , علّها تنقر حشود الاسئلة كلّما تفتّقت بوصلات الضمائر هامتها الراسخة وهي تبحث عن رغيف خبز بدمعة كبرياء خوفاً مِن الغواية / , هكذا تنهي صراعاتها النفسية ومكابداتها بهذا المقطع النصّي ولتقول لنا بإيحاء : أنّها ستبقى شامخة كالجبال الراسيات مرفوعة الرأس رغم قحط الغيوم وجفافها , تبقى باقية يرافقها الإباء والكرامة زادها رغم الفقر والعوز والحاجة , عزيزة النفس صلبة متماسكة رغم ذئاب الغواية التي تحدق بها من كلّ جانب وتحاول أن تنهشها , وليبقى الصراع محتدما ومفتوحا ومستمرأ من أجل الخير والسلام والمحبة والمحبة ضد جيوش الظلام وذئاب الطغيان والفقر والعوز . لقد استطاعت الشاعرة : / سلوى علي / مِنَ التفنن والابحار عميقاً في عوالم اللغة التعبيريّة والتجريديّة يساعدها في ذلك خيالها الخصب ومخزونها المفرداتي والمعرفي , فاستخلصت كنوز هذه اللغة الدفينة وأستنطاقها بطريقة ابداعية مدهشة .
القصيدة :
غناء عوسجة بدمعة كبرياء
أوتارها ترياق شقاء ، یقطع الحبل السري لمشیمة تفاحة عذراء فائرة الروح بین مزارات شواطئ الملح في عراء خريفها بتلك الارض الراسخة فوق خط استواء الانغماس ، كلما أنجبت عوسج امرأة حنطية عصافير كهلة فوق ربوة خرساء من اللمسة الأولى ، تجمع رایات الاستسلام في حقبة مدينتها الحزينة تقضم خشخاش الدهشة بین ٲنیاب الذئاب الأبدية التي ٲخطٲت مرادها. تبكي و وحمة ازقتها القديمة التصقت بجداول كرزها بین ثمالة الامزجة تتذوق الف خذلان وحفنة قرنفلات من حنظل. تشق صدر الكلام ، علها تنقر حشود الأسئلة كلما تفتقت بوصلات الضمائر هامتها الراسخة وهي تبحث عن رغيف خبز بدمعة كبرياء خوفا من الغواية.
..........
سلوی علي / السلیمانیة - العراق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق