حسين مهنا شاعر يتدفق شعره كالماء بلا ضجيج ويتغلغل كالماء في وعي القارئ وأحاسيسه/ نبيل عودة



رصدت ابداعات الشاعر الرائع حسين مهنا، ابن قرية البقيعة – قرية الشعراء الجليلية، منذ بدأ ينشر قصصه باسم مستعار في مجلة "الغد"، كنت ارى في قصصه روحا تتجاوز النص الدرامي الى النص الشعري، لم يمض وقت طويل حتى كشف عن اسمه والتزم الشعر منهجا وطريقا، رغم اني كنت اتمنى لو طور ادواته القصصية ليظل معي في ساحتي التي أعشقها أكثر. مع ذلك وجدتني مغرما بنصوص حسين الشعرية،التي تتميز بالبساطة في اللغة والتعابير، القوة في البناء الشعري، الثراء في الصور الشعرية وهو الأهم في تركيبة القصيدة حسب مفاهيمي.

من هنا رؤيتي الأساسية بأن المكانة الشعرية والأدبية التي يتمتع بها الشاعر حسين مهنا، ابن بلدة البقيعة الجليلية، ليست وليدة الصدفة، ليست وليدة علاقات عامة أو ظروف سياسية أو غيرها دفعته نحو الطليعة. فهو لا يحسن تسويق نفسه، انما ما دفعه للطليعة الشعرية في ثقافتنا المحلية، جهد واتقان وعشق للكلمة والنغم واستقامة شخصية وموضوعيته الثقافية. هناك قول لطيف لعلي بن ابي طالب يقول فيه: " لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فان الناس لا يسألون في كم فرغ من العمل  وانما يسألون عن جودة صنعته".. وكأني بعلي بن ابي طالب يقصد أيضا حسين مهنا بهذا القول!

في الأيام الأخيرة من كانون أول 2007 صدر للشاعر حسين مهنا ديوانين شعريين.

 الديوان الأول: " تضيق الخيمة... يتسع القلب " ويشمل عشر قصائد وخمس منثورات.

يفتتحه بقصيدة يقول مطلعها:

كأني أراكم

كما قد رأتكم دمائي

على باب ( عاي)

 تشدون خيلا

وتعدون خلفي

ويوم صرختم بباب ( اريحا ):

- تموت... تموت

وراحاب تحيا..!!

حملت الحياة على راحتي

وسرت على مهل أنثر الحب والشعر

سرت.. سرت.. سرت..

انا استزيد الحياة حياة

 وانتم تشدون خيلا

وتبغون حتفي...

الديون الثاني: "الكتابان" - ويبدأ بالثاني وينتهي بالأول.

يقول في قصيدة: "تمرين أو لا تمرين.."

تمرّين أو لا تمرّين

قلبي تعود طول انتظارك

انت تعيدين للقلب

 ما قد تناثر،

فوق دروب الحياة

ليصبح شكل الحياة

 جميل التفاصيل،

كي لا تصير الدماء مدادا

وكي لا يظل الحبيب رهين القصيدة.

وفي قصيدة: "سموت بحبك.." يقول:

سموت بحبك العذري خلقا

وزدت حضارة وصفوت ذوقا

وطهرني غرامك من ذنوب

تحاصر مهجتي وتشد طوقا

واودع بي جمالا بعد ظرف

وشوقا للحياة فصار عشقا

وعلمني بأن الحب عدل

فلا أشقى ولا المحبوب يشقى

هذه مقاطع اخترتها عشوائيا، انا أؤمن ان القصيدة الجيدة لا تحتاج الى "مفسر أحلام"، بل تتسرب كالماء الى وجدان القارئ وتدمجه بأحاسيس الشاعر.

حسين مهنا يثبت ان الشاعر المتمكن من فنه وبصفته، مثقف موضوعي مرتبط بقضايا شعبه، الى جانب مهنيته الشعرية، قادر على الابداع حسب كل الأساليب الشعرية المعروفة... من الشعر الموزون والمقفى وشعر التفعيلة حتى الشعر المنثور. من الاسلوب الكلاسيكي حتى أحدث الأساليب الشعرية الجديدة.

حسين مهنا في ابداعه الجديد يشكل مدرسة ومقياسا للشعر الجيد وللشاعر المبدع  وللمثقف الحقيقي الذي يعيش ويتفاعل مع مجتمعه وعالمه. بهذه المناسبة المخصصة للشاعر حسين مهنا، يروقني ان اعود لديوان سابق له "انا هو الشاهد"، ما زلت اراه من الابداعات البارزة في شعرنا المحلي وقد شدني ذلك الديوان واعادني الى صفحاته مرات عديدة  ولعلي اعود الى ديوانيه الآخرين لاحقا.

ديوانه "أنا هو الشاهد" - صدر عن الأسوار – عكا (2001) – يشمل ( 14 ) قصيدة من نتاجه الشعري منذ عام ( 1997)، وهذا بحد ذاته يثبت ان حسين مهنا شاعر يعيش أجواء قصيدته، بحيث تتحول القصيدة الى مهمة يعيشها لمرحلة زمنية، تنمو "بوسائل طبيعية" دون استعمال مسرعات النمو، أو الانتاج "داخل دفيئة"، بحيث نغرق بمنتوجات شعرية قبل موسمها انتجت بوسائل غير طبيعية.  ربما هنا احدى مشاكل "البضاعة" الشعرية التي تملأ الأسواق، بعضها بلا طعم ولا نكهة، أو أدخلت علية "جينيات" أخرى  فصارت "الشيء وضده".

حسين بديوانه "انا هو الشاهد" هو مدرسة، ليست شعرية فقط، انما حضارية خلقية، الى أن الشعر ليس للدنيا فقط، ليس للآخرة ايضا، انما هو صنعة للارتقاء بالانسان، تطوير فكره وحسه وفهمه وصقل ارادته. هذه مهمة لا يجوز الاستهتار بها، اذا اردنا حقا أن نسمي المولود باسمه.. لأنه لا أجمل من أن يكون الانسان شاعرا، أو مبدعا تبعث لمساته الحياة حتى بالجماد.

على غلاف ديوانه يؤكد حسين مهنا ما أرمي اليه، انما بلغته، لغة الشعر، الذي أثمر على شجرته، دون أن ترهق الشجرة بالمبيدات وتسريع النمو:

على هذه الأرض نبني

كما لا يحب الغزاة –

ونرعى على مهل مجد أجدادنا.

ويقتبس حسين من انجيل "يوحنا" في كتاب "العهد الجديد"، قوله: "وأيضا في ناموسكم مكتوب ان شهادة رجلين حق، أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الرب الذي ارسلني"، فهل يستطيع أحد بعد ذلك أن ينفي صفة الشاهد عن حسين مهنا؟

حقا حسين هو شاهد، شاهد على حكاية وطن تمزق شغاف القلب:

كانت هنا قرى تعبق بشذا فلسطين

قرى تفردت بعرائش سطوحها..

بكرومها..

بأهلها الطيبين.

هذا ما جاء في بداية قصيدته الاولى "في البدء" وانظروا الى العلاقة هنا بين "أنا هو الشاهد"، والمرافعة دفاعا عن كونه شاهد، مستندا لانجيل "يوحنا"  واسم القصيدة الاولى "في البدء"... و"في البدء كانت الكلمة" - افتتاحية التوراة – وصولا الى فلسطين، الكلمة الاولى في قاموس اهلها الباقين والصامدين والمقاومين، لكن بنفس الوقت نشعر في قصيدته هذه روح البكاء على الأطلال: "قرى بلادي وقصائدي".

أما قصيدته الثانية "يورثون الحياة انتصارا" فهي نقلة نوعية من حالة حزن الى حالة فرح وغناء وحب يتدفق كالشلال. قرأت هذه القصيدة مرات ومرات.. بطرب حقيقي. ينجح حسين هنا بأخذ القارئ/ المتلقي الى رحلة في ذات محب:

وأذكر يوم وثبت لأقطف زهرة القرنفل

كيف نقزت – وكنت وراء الأصيص –

وصحت:

تلطف!!

فما هكذا يؤخذ الورد يا ذا؟!

انتبهوا هنا للطافة وملاءمة تعبير "نقزت" (جفلت) العامي، وأظن أن هذا الاستعمال فرضه نمو القصيدة واكتمالها – نضجها – الطبيعي وغير المصطنع.

ويواصل رحلته:

فوددت لو اني اقبل دارك...

هذه الجملة تذكرني بعنترة العبسي الذي خاطب حبيبته بقوله:

فوددت تقبيل السيوف لأنها / لمعت كبارق ثغرك المبتسم.

 ويواصل حسين:

ستأتيك امي قبل الغروب

لتقطع قول الوشاة

وليت أباك يقرّ بأني "شيخ الشباب"

واني جدير بزين الصبايا

ونفرح

نفرح

هذا الجليل يحب الزغاريد.

وهنا يكاد يقول انه لولا ان الجليل يحب الزغاريد  لما كان الحب..

ويقول:

هذا التراب الزكي شغوف

بمن يزرعون

ومن يحصدون

ومن يعشقون

ومن ينجبون

ومن يورثون الحياة انتصارا

لجيل جديد

هذا الحب يعيدنا الى انسانيتنا، الى الزمن الذي كان فيه الفتى يطوف حول بيت حبيبته عاما كاملا يفرح ان رأى وجهها، فاذا ظفر منها بمجلس، تشاكيا وتناشدا الأشعار. أما اليوم، وهذا يبرز في الكثير من شعرنا الحديث، فاذا التقاها، لا يشكو حبه أو ينشد الشعر، انما يطلب الوصل، بحيث تحول الحب في معظم شعرنا الى بضاعة، يقرر سعرها العرض والطلب، بينما الحب الذي يختلج بأعماق حسين لا يباع ولا يشترى.

قصيدته "أراك كما لا تراك العيون" هي قصيدة غزل في قريته البقيعة:

"البقيعة قريتي وكل قرية في بلادي بقيعة"

 ومع ذلك:

وآها لتلك السنين الخوالي العذاب

قريبا من القلب

نبض فلسطين كان

هذه القصيدة تركت لدي شعور انه في حبه الكبير لقريته، هناك نوع من الألم والمرارة أيضا، على تلك القرية التي تيتمت من "نبض فلسطين"  ومن آلام "جرح الجليل".

يذكرني هنا بقصيدة الشاعر الراحل سالم جبران:

"كما تحب الأم

طفلها المشوه

احبها

حبيبتي بلادي"

ربما ليس بالصدفة ان سالم من البقيعة ايضا. في القصيدة جوانب أخرى، منها مثلا قدرة حسين أن ينقلنا من الحلم الشعري الى الواقع الشعري. من حلم البقيعة الى واقع البقيعة  وبكلمات بسيطة:

ترى أين غابت

بساتين خوخ وتين؟!

وجوز ولوز

ورمان عيد الصليب

في الشطرة الأخيرة يعرفنا على البقيعة، على أهلها، بحيث لا يبقي البقيعة حلما طائرا، بل حقيقة شعرية ملموسة. من المعروف ان الرمان في بلادنا يثمر في فترة عيد الصليب عند المسيحيين. وأي فلاح فلسطيني، مسلم، درزي او مسيحي، عندما يسال عن موعد قطف الرمان يقول يقطف مع حلول عيد الصليب!

الغنائية الحالمة تميز الكثير من قصائد الديوان، في قصيدة "ستر عاشق يظلل ليلنا الريفي":

تحبني..؟!

اذن تعال كي نصالح القمر

أمس اشتكى

يا طول ما اشتكا!

 وأكاد أشعر في هذا المقطع أجواء فيروزية.

وينشد في "لنا فوق الجليل":

لنا فوق هذا الجليل

تراب جليل

عليه نقيم

ومنه نبتنا كما ينبت العشب

والاقحوان.

وبين يديه تركنا طفولتنا

والشباب.

لنكبر فيه ويكبر فينا.

اذن هو ليس مجرد عشق لطبيعة ساحرة، انما هو عشق للمنزل، للمنبت، للأنتماء. وشاعرنا العربي يقول:

نقِّلْ فؤادَك حيث شئتَ من الهوى / ما الحــب الا للحبيــب الأول

الحبيب الأول، على امتداد مساحة ديوان حسين  هو الجليل.. لم يكتشف حبيبا غيره.. حتى تلك التي "نقزت" هي جزء من الجليل. قصيدة "سأجلس ذات مساء" فيها الكثير من الايماء والتكثيف. يقول:

سأجلس ذات مساء بعيد

 وحيدا..

وأفتح قلبي

على شرفتين

وراء الغمام

لعل رفوف اليمام

تجيء

وتلقي السلام علي

وتغفو قليلا على راحتي

لأكتب أغنية

عن بلادي.

بعد قراءتي لقصيدة "تركنا على كل درب" اعتراني شعور أن حسين لا يكتب قصائد منفردة، انما قصيدة واحدة متواصلة، تكاد تكون هذه القصيدة هي مهمة حياته كشاعر، فها هو يقول مثلا ما يمت بصلة لقصائد سابقة:

وقد اورثونا

محبة هذا الجليل

وحب الحياة

وعشق قرانا

ونذكر اننا ولدنا هنا.

أما قصيدته "بي شوق لأحيا"، فهي نشيد لتجدد الحياة بعد أن رزق بحفيده محمد / وهي قصيدة لها مناسبتها، تكاد تكون استراحة وسط قصيدة / قضية شعرية متواصلة وواحدة.

وانا ورثنا الصباح الجميل

 وهذا الجليل

وفجرا تلفع بالياسمين.

 (قصيدة: وانا ورثنا الصباح الجميل)

في قصيدة "اسمعني صوتك".. كتبها كما فهمت لحفيده في ميلاده الأول.. ونراه يورث حفيده ما يملكه الشاعر:

اسمعني صوتك

عربيا

لا يتلجلج في شفتيك

ويوصيه:

واخرج من جلبات الزمن المهزوم

جوادا عربيا

ينقل للريح

صهيل الفرح القادم

وأيضا:

اضرب جذرك يا ولدي

اسمعه كيف تدوزن صوتك

فوق مفاتيح اللغة العربية

ويصر على حفيده:

أسمعني صوتك

كي اسمع وطني

يتجدد لحنا عربيا

لا بد هنا من ملاحظة هامة.. في هذه القصيدة اصرار على عروبة ابناء الطائفة المعروفية (الدروز)، التي تحاول السلطات الاسرائيلية قطعهم عن جذورهم العربية وجعلهم فئة سكانية لا ترتبط بالهم الوطني العربي او الفلسطيني...

اذن كما قلت، حسين مهنا أخذ على نفسه ابداع قصيدة / قضية وطنية انسانية وجمالية ممتدة.في ديوانه هذا نراه يكتبها على مدى ثلاث أو اربع سنوات.ربما حقا على كل شاعر أن يأخذ موضوعا لشعره حتى يوفيه حقه.  حسين يثبت أن ذلك لا يعني الانغلاق داخل حدود مرسومة.ان البقيعة مثلا، ليست مكانا جغرافيا له حدوده الجغرافية. الشعر لا يعترف بالحدود الجغرافية، أو كما يقول حسين مهنا: " كل قرية في بلادي بقيعة ".

حين أقرأ اسم حسين مهنا يجلس على راس قصيدة اعرف اني سأقرا شعرا حقيقيا واني سأتمتع بجماليات شعرية صارت من القلة.

هل يريد الشاعر أكثر من ذلك؟ ان يتدفق شعره كالماء بلا ضجيج ويتغلغل كالماء في وعي القارئ وأحاسيسه؟

أين الكتّاب الفلسطينيّون المسجونون؟/ فراس حج محمد



"15 نوفمبر من كل عام تطلق "منظمة القلم الدولية" حملتها التضامنية تحت عنوان "يوم الكاتب المسجون" والتي تسلط فيها الضوء على قضايا الكتاب المسجونين أو الذين يواجهون المحاكمة، وتدعو من خلالها إلى اتخاذ إجراءات دولية عاجلة للإفراج عنهم وحمايتهم. ترمز هذه القضايا التي نسلط الضوء عليها إلى أنماط التهديدات والاعتداءات التي غالبًا ما يتعرض لها الكتاب والصحفيون في جميع أنحاء العالم نتيجة لممارستهم السلمية لحقهم في حرية التعبير".

تصدرت الفقرة السابقة الحملة الدولية التي تطلقها "منظمة القلم الدولية" (pen international) لمناصرة الكتاب المسجونين عبر العالم للعام الحالي 2021 تحت عنوان "يوم الكاتب المسجون 2021"، وأكدت مناصرتها لمجموعة من الكتاب حول العالم، واستهدفت في حملتها هؤلاء الكتّاب ميكل أوسوربو - الاثنين 15 نوفمبر، وصلاح الدين دميرطاش - الثلاثاء 16 نوفمبر، ورحيل داوت - الأربعاء 17 نوفمبر، قضية جماعية لـ 12 كاتبًا إريتريا- الخميس 18 نوفمبر، ومحمد الركن - الجمعة 19 نوفمبر. والركن المسجون لدى الإمارات العربية المتحدة هو الكاتب العربي الوحيد في هذه الحملة.

يوجد كثير من الكتاب المسجونين لدى الأنظمة العربية في كل بقاع الأرض العربية، ولا يخلو سجن عربي من كاتب أو شاعر أو صحفي، فقد تحولت بلاد العرب إلى مكان طبيعي يمتهن فيه الكاتب، ويتحول إما إلى مطرود من عمله أو منفي أو مسجون، وإما سيتحول إلى نعجة مدجنة يلتهمه النظام، ويحوله إلا بوق نفاق يومي، يبثّ ترهاته في الصحف والمجلات في تمجيد الدكتاتور العربي. وربما لجأ إلى المراوغة أو الصمت، وكلها حالات يتحمل النظام العربي أوزارها في حياة الكاتب العربي.

لعل ما يتعرض له الكاتب العربي تحديدا في "مسالخ الموت" العربية لهو كفيل بأن تلتفت إليه "منظمة القلم الدولية" بحملة خاصة، للتعريف بهؤلاء "المنسيين" و"المنسيات" في السجون العربية، مع أن تلك الحملات إن حدثت لن تجد لها قبولا عند الأنظمة، وستضرب بها عرض الحائط. فالنظام العربي الدكتاتوري في أفعاله تلك وغيرها محفوظ بأجهزة أمن محمية من النظام الغربي، ولذلك فهي آمنة مطمئنة لن تراها إلا أمراً عابرا لا يستحق الوقوف عنده. علماً أنه لا تجرؤ أي منظمة غير حكومية على الوقوف معهم وتبني قضاياهم، لقد مات في السجون المصرية بدعوى مكافحة الإرهاب والمد الإخواني كثير من الكتاب وما زال بعضهم يعيش أوضاعا صعبة جدا داخل معتقلات النظام المصري. والصمت مطبق على أوضاعهم وأسمائهم، فلا أحد يتحدث عنهم.

هذا ما يخص البلاد العربية والكتّاب العرب، أما في فلسطين المحتلة فالأمر فيها أكثر بشاعة، والكاتب ليس مسجونا فقط في سجون السلطة الفلسطينية التي تقمع بشراسة حرية التعبير، ومعها مجموعة من المثقفين الانتهازيين النفعيين الذين تحولوا إلى "نعاج" منافقة، يدافعون عن السلطة وأعمالها بحق الكتّاب، ولن تجد أي منظمة فلسطينية غير حكومية تدافع عن هؤلاء الكتاب أو تتبنى قضاياهم، لا اتحاد الكتاب الفلسطينيين ولا المؤسسات الحقوقية المحلية ولا يوجد حملات حقوقية يقودها مثقفون مستقلون، ناهيكم عن صمت وزارة الثقافة والإعلام الرسمي بطبيعة الحال، كونهما جزءا من السلطة الفلسطينية. وهذا الوضع نفسه بصورة أو بأخرى ما يحدث في غزة حيث السلطة في القطاع المحاصر تنشب أظافرها الحادة في أجساد الكتاب وأرواحهم، ويتم الاعتداء عليهم بالضرب أيضا، سواء بسواء كما يحدث في الضفة الغربية.

والأكثر قسوة في فلسطين المحتلة هو ما يحدث داخل سجون الاحتلال الصهيوني. إذ اتخذ الاحتلال منذ وجد إستراتيجية واضحة ضد الكتاب جميعا ممن ينخرطون في ثقافة المقاومة والدعوة إلى التحرير وحق تقرير المصير، ومحاربة الاحتلال والخلاص منه ومن شره. إنه ليس أمرا غريبا أن أقول إن جميع الكتاب الفلسطينيين قد مروا بتجربة الاعتقال في سجون الاحتلال الصهيوني منذ عام 1948 وحتى اليوم، ومورست على الكتاب الفلسطينيين إجراءات أخرى إضافية كالإقامة الجبرية، والطرد من الوظيفة، والمنع من السفر، والإبعاد، ومصادرة الكتب، وتخريب المكتبات العامة والخاصة، والتفتيش على كتب المدارس ومعاقبة كل من يوجد لديه كتاب جعله الاحتلال على قائمته السوداء، وتقييد دخول الكتب إلى مناطق فلسطين المحتلة، ومنع إقامة الندوات الثقافية التي لا تتناسب وما تفكّر به السلطات أو الحاكم العسكري.

لعلّ "منظمة القلم الدولية" لا تعلم أن في سجون الاحتلال الصهيوني عشرات الكتاب حاليا ممن فرضت عليهم سلطات الاحتلال أحكاماً عالية، مئات السنين سيقضيها الكتاب خلف القضبان حتى بعد الموت إن حدث وماتوا في السجن، فلا بد من أن تقضي "الجثة" كامل المدة، فلا ينتهي الحكم بالموت. هل تعلم ذلك "منظمة القلم الدولية"؟

وهل تعلم أن هؤلاء الكتاب المسجونين ومعهم آلاف المسجونين الفلسطينيين محرومون من الحقوق الأساسية الإنسانية داخل السجن، إذ يتعرضون إلى الضرب بلا مبرر، وإلى مصادرة أغراضهم الشخصية، وكتبهم ودفاترهم وأقلامهم ومسودات مؤلفاتهم، ويتعرضون إلى العزل وإلى السجن دون محاكمة، تحت بند الملف السري، ليمضي فئة منهم أحكام سجن مفتوحة الزمن تحت بند "الاعتقال الإداري"؟

هل تعلم "منظمة القلم الدولية" أنه قد تم تدمير آلاف الكتب التي كتبها الكتاب داخل المعتقل، بمصادرتها ومنع إرجاعها إلى كتابها، بحجة أنها "أعمال إرهابية" خطيرة، تحرض على "العنف"؟ هل تعلم "منظمة القلم الدولية" أن هناك كاتبات في السجون الصهيونية، تعرضن للاعتقال بسبب كتاباتهن "التحريضية" كما تزعم سلطات الاحتلال، حدث هذا في القدس، وحدث في مناطق أخرى داخل مناطق الاحتلال الخاضعة للسلطات منذ عام 1948؟

هل تعلم "منظمة القلم الدولية" أن سلطات الاحتلال تفرض السجن على كل كاتب يرفض الخدمة العسكرية في صفوف ما يعرف بالجيش، ويعاقب بمدة سجن تصل إلى تسعة أشهر. حدث هذا مع الشاعر سميح القاسم ومع الشاعر مرزوق الحلبي والكاتب سعيد نفاع وأسامة ملحم وغيرهم كثير؟ وسيحدث مع كل كاتب يرفض هذا النوع من "التجنيد الإجباري".

هل تعلم "منظمة القلم الدولية" أن سلطات الاحتلال تقوم بهدم قرى كاملة، وتهجر أصحابها منها، ومن هؤلاء الكاتبة شيخة حليوى التي كانت تسكن في منطقة حيفا، وهدمت قريتها "ذيل العِرج" الواقعة في ضواحي مدينة حيفا. وها هي الآن تعيش خارج مسقط رأسها. وقريتها غير معترف بها. أتعلم "منظمة القلم الدولية" ماذا تعني سلطات الاحتلال بهذا المصطلح؟ يعني أنها قرى يجب أن تزال فهي غير شرعية، والسلطات لا توفر لها الماء والكهرباء، ولا تعترف بوجود سلطة إدارية لها (بلدية أو مجلس قروي).

هل تعلم "منظمة القلم الدولية" أن كل يوم يولد كاتب أو كاتبة داخل سجون الاحتلال ليروي حكاية اعتقاله وسجنه، بعد أن تخلت عنه القوانين الدولية والمحلية، وينتظر معجزة ليتم تحريره من حياة "البرزخ" الذي يعيش فيه؟ لا أمل لدى هؤلاء الكتّاب إلا ما يصنعونه على الورق، إنهم يعملون بنظرية "الإيهام بالحرية"، فهم يعتقدون أو يجعلون أنفسهم تعتقد أنهم عندما يكتبون فإنهم يمارسون فعل الحرية أو محاولة الانفلات من السجن والفرار خارج الغرفة الحديدية. إنهم يتدربون على التعايش مع الفراغ ليس أكثر في حقيقة الأمر، فالحرية هي مطلبهم "المسكوت عنه". فمن لهؤلاء الكتاب؟ ومن سيثير قضاياهم ليناصرهم زملاؤهم الكتّاب عبر العالم؟

هل تعلم أخيراً "منظمة القلم الدولية" أن هناك كتابا فلسطينيين مسجونين قي سجون الأنظمة العربية في السعودية وفي الإمارات العربية المتحدة أيضاً، وليس فقط الكاتب محمد الركن؟ ففي بطن الحوت هناك في السعودية الشاعر أشرف فيّاض وفي الإمارات الشاعر رامز منصور، وهذا الأخير لا يُعرف عنه شيء، فهو مفقود، وربما قضى نحبه، فلا معلومات بشأن وضعه الصحي وحياته المهددة كل الوقت.

أما بعد كل ما سبق؛ فإنه ينبغي أن تعلم "منظمة القلم الدولية" أن معاناة الكاتب الفلسطيني معاناة مركبة، من السلطة الفلسطينية بشقيها بوصفها نظاما عربيا، ومن سلطات الاحتلال ومن الأنظمة العربية، ولا بد من أن تلتفت إلى هؤلاء الكتاب ومعاناتهم في هذه السجون الممتدة في أكثر من عشرين سجناً على أقلّ تقدير.

إستعراض لقصة " بائع الكعكبان من عكا " للأطفال - للكاتبة شهربان معدِّي/ الدكتور حاتم جوعيه



مقدِّمة :    الكاتبةُ والأديبةُ  شهربان  معدِّي من سكان قرية يركا - الجليل الغربي - قضاء عكا ، تعملُ  في  سلك التعليم  كمُوجِّهة  مجموعات ، وهي تكتبُ القصَّة والخواطر الأدبيّة واختصَّت في مجال قصص الاطفال وحققت شهرة وانتشارا  واسعا في هذا المضمار .. وقد أدخلوا البعض من قصصها  للأطفال في المناهج التدريسيَّة.  والجدير بالذكر أنها خظيت باهتمام  وتقدير كبير خارج البلاد ، وَكُتِبَتْ عدةُ  دراساتٍ نقديَّة  قيِّمةعن  إصدارات  وكتبٍ  لها من قبل بعض النقاد والأدباء الكبار في العالم العربي .

  سأتناولُ في هذه المقالة قصَّة جديدة لها للأطفال بعنوان: ( بائع الكعكبان من عكا ) .

  مدخل: تقعُ هذه القصَّةُ في (24 صفحة من الحجم الكبير) -  والجدير بالذكر ان صفحات هذه القصة غيرمرقمَّة، ووضع رسومات القصَّة الفنانة التشكيليّة  ( ضحى الخطيب) من سورية . القصة من اصدار مركز ثقافة الطفل -   "مؤسسة الاسوار عكا " ، وهي من الحجم المتوسط ، غلافها سميك مقوى، ورسوماتها خلاّبة تستهوي العين ، وتسترعي اهتمام  الكبار والصّغار..  تتحدث القصةُ بأسلوب شائق عن الصدقِ والأمانةِ وعن مدينة عكا العريقة، وعن صناعة حلويات الكعكبان. كُتبت القصة بأسلوب جميل ولغة سلسة ، وفيها  الطابع  الفكاهي  والوصف  الدقيق المُحمّل  بالمشاعر الصادقة..

   تستهلُّ وتفتتحُ الكاتبةُ شهربان هذه القصَّة بشكل تلقائي ومباشر وبأسلوب سردي على لسان بطلة القصّة (الطفلة) التي تتحدَّث ، بدورها، عن شخص طيب القلب ووديع وبسيط اسمه أبو يونس يبيعُ الكعكبانَ ( نوع من الحلوى المعطرة وشبيه بالعنبر )  .    وكان هذا الرجل  يأتي  من  عكا إلى القرى المجاورة  ومن  ضمنها القرية  التي تسكنُ  فيها كاتبةُ القصة عندما  كانت صغيرةً ويبيعُ بضاعته من الكعكبان.

  تقول بطلةُ القصة ( الطفلة ) : إن العمَّ (أبو يونس )  بائع الكعكبان من عكا كان دائما يطلُّ علينا مثلَ العيد ( تعبيرا وتشبيها جميلا  للفرح والسعادة التي  يزرعُها في  نفوس الأطفال عندما  يأتي  ليبيع الكعكبان  -  مثل  قدوم العيد السعيد وأكثر ) .  وكان يطربُ الأطفالَ وحتى الكبار بصوتهِ الغرِّيد ، وكأنَّ الحارات كانت  تُزغردُ وتتراقصُ معه على رجع صوتهِ العذب  فيهرع إليه جميعُ الأطفال لكي يشتروا من هذه الحلوى المميزة ..فكان  أبو يونس ينادي على بضاعتهِ :( " كعكبان ..كعكبان .بكل الأشكال والألوان ..! إنهَرْ عَ أمّك  يا ولد..سكّرا مذابا للصغار طاب، يطيب الريق !..تعال يا صديقي ..كعكبان  كعكبان بكل الأشكال والألوان ..) - ( صفحة 2 ) .   وتعلقُ الكاتبةُ على هذه الجمل والعبارات التي كان يطلقُها أبو يونس : ( أنشودة ما أحلاها وبضاعة ما أشهاها ). وكان البائعُ أبو يوسف يجرُّعربته التي أثبتَ عليها لوحًا خشبيًّا ،عليه ما لذّ وطاب من الكعكبان المُلوَّن ويقدِّمُهُ بيديه المتجعّدتين  .. وسحنته سمراء مُتعبة وكأنه يجرُّ معها عمرَهُ كله  ( وإنهُ لتشبيهٌ شاعري جميل  لهذا الرجل الكادح والنشيط  والطيب الذي  ينالُ رزقهُ وقوتَ يومه  بعرق جبينه وبجهد وتعب ) .

وتتساءلُ الطفلة بعد أن غاب البائعُ عدة أيام ولم يأتِ للقرية لبيع الكعكبان:(

أين ذهبَ هذا البائعُ الطّروب الذي كان يسبقهُ نشيدُهُ ..؟  هل  توارى  هناك في مدينةِ  الاحلام  ؟؟  ( وتعني مدينة عكا ).. أم أغرقهُ في السُّوق الزحام ؟ (  وتستعمل هنا أسلوب السَّجع )..وتتابعُ حديثها: أبدا لن انساك  يا عمِّي أبي يونس، ولن أنسى  طاقيتكَ  الكاكي الكبيرة التي كانت تغطي شعرَكَ  المُجَعَّدَ  كصوف الخروف ، ولن أنسى عشقكَ الكبير لمدينتِكَ ، وعندما كنتَ تتحدثُ عنها فكأنك تتحدثُ مع حبيبتكَ وفتاةِ أحلامِكَ أو عن طفلتِكَ المدللة ... يا  ذُلَّ عكا من بعدكَ  يا بائع الكعكبان .  ( ويبدو هنا بوضوح البعدُ الوطني ومحبة الإنسان لبلده ومسقط رأسه .  وتستعملُ الكاتبةُ عبارة  كانت  تُقالُ كثيرا قبل عقود في إحدى القرى..وقد ذهبت مثلا ، وهي عن إنسان شهم  وأبيٍّ وكريم ومضياف وكان يقوم بالواجب وإكرام الضيوف الذين يدخلون إلى قريتهِ في المناسبات كالمآتم  والأعراس وغيرها ( يا  ذل "....." من  بعد  فلان ) .

  وتتابعُ الكاتبةُ حديثها بأسلوبٍ سرديٍّ جميل ومتسلسل، وتقولُ: أذكرُ عندما كنتَ تزورنا وكيف كنتَ تجلس إلى جانب الحائطِ الحجري المبني من حجر الصوان  ( الصوان  وليس  الباطون  دلالة على  القدم  والعراقة  والأصالة  والتراث ) ، وكنتَ تقول : " ظل الحجر  ولا  ظل الشجر " وتمسح  بمنديل عتيق تعبَ العمر.. ( وتقصد العرق الذي  يتصبَّبُ منهُ كأنه تعبُ العمر لأنه طيلة حياته يعمل ويكدح  دون هوادة  ولا ملل ) . وتقولُ الكاتبةُ :  كنا  نحن الأطفال  الصغار في القرية  نلتفُّ حولكَ  لتحدِّثنا عن  فاتنتِكَ  وأسيرةِ  قلبكَ مدينة عكا، وعن بحارةٍ أشاوس يبيعون السَّمكَ الطازجَ في السوق ،عن عكا والبحر كانهما توأمان لا ينفصلان وكأصابع اليد الواحدة .  وعلى الرغم من كونها  كانت  صغيرة  السن آنذاك ( الكاتبة ) ولم  تَزُرْ عكا  يومها  لو لمرة واحدة ، بيد أن عمها  أبو يونس  بائع  الكعكبان رسمَ  في في خيالها  صورة رائعة  وخلابة  للمدينةِ  الجميلة.. والتي في وسطها  مسجد  واسع أبوابه من فضة وقبابه من  نور ، واسمه جامع الجزار  .  وهو مطل على قلعة  تدعى قلعة ظاهرالعمر، ويدخلها الشخصُ من باب كبيرضخم يفضي به إلى بستان  رحب فيه الأشجار الكثيفة العالية  التي  تشهد بتاريخ عريق  ومجيد .. وهذه المدينه الرائعة (عكا ) يحيط  بها سورٌ عظيم  وأشجار نخيل  وريحان  تمتدُّ ظلالها حتى تصل  إلى البحر الأزرق الكبير .   قالت الكاتبةُ البحر الأزرق الكبير ولم تقل البحر الأبيض المتوسط .. وكان اسم هذا البحر قديما ( البحر الكبير)  -  وقد ذكرهُ الشاعر الكبير المرحوم  محمود درويش  في أكثر من قصيدة باسم البحر الكبير كقولِهِ :(( حطت طيور البحر في البحر الكبير)) . وتتغنى  في  سماء  المدينة  وأجوائها العصافيرُ الملوّنة  ونوارس شرهة  لا تخافُ  شباكَ البحارة السّمر .  وتتابعُ ( الكاتبةُ - الطفلة ) حديثها : لن تنسى يومَها المشؤوم  مدى الدهر وذلك  عندما  أتى  بائعُ الكعكبان  أبو يونس إلى القرية  وكان الجوُّ خريفيًّا غائما وعابسا .. وبائع الكعكبان  بحلوياتهِ الملوّنة  وصوتهِ الجميل الغرّيد  حوَّلَ الجوَّ المُكفهرَّ العابس  إلى  باقاتٍ من الياسمين  تفوحُ وتتضوَّعُ برائحة عكا والبحر ..

     هذا وقد هرع  الأولادُ في الحارة  كبارا وصغارا لأجل  شراءِ الحلويات اللذيذة  بقروشهم  الضئيلة ( ( تظهرُ هنا الكاتبة حالة الفقر والقِلَّة لدى سكان القرى العربية في ذلك الوقت ) ..وتذكر الطفلةُ هنا شخصا من أولاد حارتها وجيرانها كان شقيا وكثيرغلبة ويده طويلة وعنده عادة النشل والسرقة.. وأن أمها  كانت دائما  تحذرها  منه وتنصحها  ألا  تلعب معه  لأنه  ولد مشاغب وسارق ... وكانت أمُّها  تردد هذه  العبارة  دائما عنه  : (  إذا سلم عليكَ عُدَّ  أصابعَ يديكَ )..ولكن الطفلة (الكاتبة) لم تفهم آنذاك معنى ذلك لصغر سنها . وتتذكر بطلةُ القصَّة  جيدا عندما  انصرفَ كلُّ  أولاد الحارة  الذين  تسابقوا لشراءِ الحلويات اللذيذة  من البائع ، ولم يبقَ في المكان  سوى هي  وجارها اللص المشاغب وبائع الكعكبان المسكين ..وقد طلب اللصُّ الصغير من بائع الكعكبان أن  يُحدِّثهُ عن  نابليون  وهزيمته أمام  أسوار عكا (( وحسب قول الكاتبة في هذه القصة  : ( وهذا الفصل هو من مسرحية  بائع الكعكبان التي حفظناها عن ظهر قلب .. كان هذا  أكثر  ما يروقني !! )) .. فحدّثهما البائعُ عن تلة كبيرة قام ببنائها جنودُ القائد نابليون .ولكن سورعكا العظيم  ورجال عكا  البواسل والشجعان  إستطاعوا أن  يصدوا جيوش  نابليون  ويهزموهم هزينة نكراء..هذا الجيش الجرارالذي قد مرَّ بمدينة غزة ويافا وحيفا ووصل إلى مشارف عكا حيث هُزمَ هناك وتوقف زحفه نحو الشمال..وعندما وصل بائع الكعكبان للفصل الأخير من مسرحيته وحكايته  ( عكا  قاهرة نابليون ) أغمضَ عينيه قليلا  وتابع حديثه  وقال : وقبل ان يرحل نابليون هو وجنوده رمى قبعته من فوق أسوارعكا حنقا وغضبا وقال: سلام عليك يا عكا..سلام  لا لقاء  بعده ... ( والجدير بالذكر ان هذه  الجملة والعبارة  لم  يقلها  نابليون بونبرارت  إطلاقا  بل  قالها الملك هرقل  ملك الروم  بعد أن انتصر العربُ المسلمون في  معركة اليرموك  وباقي  المعارك  وكسروا  ودحرُوا جيوش الروم الجرارة حيث  وقف هرقل على رأس تلة عالية  ونظر إلى بلاد الشام وقال هذه الجملة التاريخيَّة الشهيرة : (( سلام عليك  يا سوريا ..سلام لا لقاء بعده ))... أي كان  متأكدا  أنه لا أمل له وللروم  في العودة إلى سوريا . لقد أخذت الكتابةُهذه الجملة ووظفتها في هذه القصَّةعلى لسان نابليون بونبرات ..هذا وقد عدا نابليون أدراجَهُ إلى بلاده محفوفا بالهزيمة النكراء وهو يقول:  تحطمت أحلامي على أسواركِ يا عكا،وبالفعل لقد تحطمت آمالهُ وطموحاتهُ  على أسوارِ عكا ولم  يتمكنْ من  متابعة  الزحف لإحتلال  ما  تبقى من بلاد الشام  ( لبنان وسوريا )..وهذا وبعد أن انتهى  بائعُ الكعكبان من  سرد قصة نابليون وحصاره  لعكا وهزيمته النكراء  فتح  عينيه  المتعبتين ( الكليلتين ) وانحنى قليلا على  الأرض  لكي  يلتقط  قبعته  الكاكي التي  وقعت  منه  أو بالأحرى  رماها  لا شعوريًّا على المصطبة الناعمة ، وبعد أن  رفع  بصرهُ   اكتشفَ اختفاءَ كلِّ حلوياته الملونة واللذيذة من على لوحته الخشبيّة !واختفى أيضا ابنُ الجيران اللص.. فالتفتتِ الطفلةُ يمينا وشمالا ورأتْ انها وحيدة .. وقد تحوَّلَ صوتُ بائع  الكعكبان الجميل والغرِّيد إلى صياح فيه نبرة الحزن بل البكاء والتأنيب حيث صرخ :يا عيب الشوم عليكم، ما زال الوقت صباحا والصباح رباح ولم أحصل بعد على الاستفتاح ! )..وحاولت الطفلةُ أن تنجو بجلدها خوفا  من اتهامها  بالسرقة  ثم  العقاب  وأطلقت  لساقيها المرتجفتين العنان.. ولكن والدها كان أسرع  منها  فاستطاع  بسهولة أن يمسكَ بذراعها الصغيرة  وقال لها مهددا :  كيف تجاسرتِ  يا طويلة اليد ! مرارًا  وتكرارا نبهتك وإخوتك" بأن الذي يسرق بيضة يسرق جملا"..وتتابعُ الطفلةُ  حديثهَا ..ونقول : وَجرَّني والدي إلى بائع الكعكبان واعتذر إليهِ  بعد أن دفعَ  له ثمنَ البضاعة المسروقة..وبقيت الطفلةُ صامتةً وخائفة ..وحسب تعبيرها لا تقوى على كشِّ الذباب من على وجهها عندما قادَها وأخذها والدُها إلى البيت !! .. وفي هذه اللحظاتِ شعرتْ بالقهر والحزن الشديد  من نظرات ابيها المُتّهمة  لها .. وتمنيت لو أنهُ  تريَّثَ  قليلا ولم  يحكم عليها  بهذه  السرعة في حادث  السرقة  ومن دون  أن يسألَ  ويستفسر ..وكم تمنيت  لو انه أصغى إلى قلبها  الصغير والبريىء الذي همس بكل وضوح إن الحياة معطاءة  وسخيّة  تأخذ بيد وتعطي بالأخرى ((وهذه الجملة حكمية توظّفها الكاتبة ). ولكن في نظر الأب  أن خطأها  وجريرتها التي  لم  ترتكبها  ( سرقة حلويات البائع ) هي جريمة لا تغتفر !..هذا وبحثت الطفلةُ (بطلة القصة )عن مكان هادىء وآمن  لتدخل إليه  وتهدىء  نفسها ..ولم تجد  إلا مخزن المؤن  خاصتهم في البيت فانزوت  وتوارت  وراء  خزانة  قديمة  وبدأت  تبكي  وتنفضُ  من  الحزن والغيض وخيبة الأمل... ونظرت إلى شباك  مكسور فسمعت ضحكةً  ليست غريبةعنها فاتضحَ انها ضحكة ابن جيرانها الطفل  السارق والحرامي الذي  أفلتَ ولم ينل الجزاء والعقاب اللازم له..وبدأ يلوح لها  بيده ويقهقه  بصوت عال بعد  ان  أشار بحركة  خفيفة إلى  جيب  مريولها  المدرسي الصَّغير ثم اختنفى  بسرعة.. فتحسَّست الطفلةُ ( كاتبة القصة )  جيب  مريولها  ببطىء وحذر فوجدت  فيه  قطعة  كعكبان محلاة على شكل حلزونة ، فتناولت قطع الحلوى  وأكلتها بعد ان مسحت دموعَها المنهمرة ..وشعرت انها أشهى وألذ قطعة حلوى ذاقتها  في حياته ..وجعلتها  لا تنسى  أبدا  العمَّ  أبا  يونس بائع الكعكبان من  عكا.. وتنتهي  القصَّةُ هنا هذه النهاية شبه المفتوحة .

تحليلُ القصَّة :  هذه القصةُ جميلةٌ وراقية  شكلا ومضمونا  كُتِبَتْ بلغة أدبية  منمَّقة   قوية   وسلسة ، وفيها  الكثير  من  اللوحات  الفنية  والتعابير  والإستعارات البلاغية  الخلابة .. وفيها عنصرُ التشويق  والإثارة  والجانب الترفيهي  والمسلي والهام جدا للأطفال . وكلُّ قصة  تُكتبُ للأطفال لا تحملُ هذا  الجانب  لا  تكون  ناجحة .. ونجدُ  أيضا عنصرَ المفاجأة  في  أكثر من موضع، مثلا :عندما يبقى بائع الكعكبان لوحده مع الطفلة والطفل  المشاغب والسارق وتُسرقُ بضاعته منه  بسهولة دون أن يشعر..ويختفي الطفلُ العاق والسارق.. وعندها تهرب البنتُ  بعد أن  يكتشف البائعُ  سرقة  بضاعته من الحلويات.. وفجأة تُدخلُ  الكاتبة شخصية الأب وبدون  مقدمة  وكيف يمسكُ بذراع  إبنته  الهاربة  ويعاقبها  على  جرم  وخطإ   لم  ترتكبه ..وهو سرقة الحلويات  من البائع  والذي قام بهذه السرقة جارهم الطفل العاق .  والجدير بالذكر ان أسلوب هذه القصة وطابعها كله  سردي  وتفتقر القصَّةُ  كليًّا  إلى عنصر الحوار ( ديالوج ) المفروض أن  يكون في كل  قصة ، وخاصة في قصص الأطفال والذي يُضيفُ للقصَّةِ الجمالية والحيوية والديناميَة  والحياة النابضة. 

        تتطرقُ هذه القصةُ وبشكل غير مباشر وبعفويَّة إلى مواضيع  وقضايا عديدة : إنسانية  ووطنية وتاريخيّة ومن دون جهد وتكلف، مثل :الحث على القيم والأخلاق والمبادىء والإبتعاد عن رفاق السوء.. وَتُعلِّمُ  وتعززُ قضية الإنتماءالقومي والوطني وحب الوطن ومسقط الرأس.. وتتحدثُ عن الحياة في  قرانا العربية  قبل  عقود  من  الزمان  وكيف  أن  البائعين  من  المدن المجاورة..(الذين يبعون الحلويات وغيرها) كانوا  يجيئون إلى القرى بشكل دائم  ويبيعون  بضاعتهم المُحَبَّذة  لسكان القرى ، وخاصة للأطفال إذا كانت   كالحلويات  أو البوضة وغيرها... عندها  لم  يكن  آنذاك  محلات  ودكاكين للحلويات في القرى العربية. وبالنسبة للجانب  والموضوع التاريخي تتحدثُ عن حملة نابليون  بونبارت  وحصاره  لمدينة عكا ..وبناء  تلة كبيرة شرقي عكا من قبل جنوده لكي يتمكنوا من قصف الاسوار والمدينة من الداخل .ثم فشل هذه الحملة ورجوع نابليون وجيشة مدحورا وبخيبة كبيرة .

     إن هذه القصة ناجحة من جميع المقاييس الذوقية والنقدية.. وتضمُّ العديدَ من العناصر والأبعاد والجهات الهامة التي  يجب  أن  تتوفر في  كل  قصة  تُكتبُ للأطفال ، مثل :

1 - العنصر والجانب الفني

2 ) اللغة الأدبية الجميلة والمنمَّقة والسلسة فالقصة ليسن مجرد سرد أحداث وحكايات  ، بل هي نسيج أدبي  تقني جميل بطابع قصصي  وقريب نوعا ما إلى أسلوب  ولغة  الشعر  .  وتدخل الكاتبةُ  في القصةِ العديد  من  الكلمات الفصحى الجميلة والصعبة ، ولكن تفهم معانيها بسهوله ويفهمها حتى الطفل الصغير من خلال إدخالها وإدراجها بين الجميل وبشكل صحيح وفي مكانها الطبيعي،مثل كلمات :أشاوس ، تتضوَّع ، إستطردَ ،عينيه الكليلتين ، سجيَّته ، المكفهر،  تريَّثَ ...إلخ . 

   وتستعملُ أيضا العديد من التعابير والإستعارات البلاغية الجميلة  والجمل الأدبيّة  المُنمَّقة ، مثل :

( سجيَّتهُ سمراء مُتعبة وكانه يجرُّ معها عمرَهُ كله ) ... و(  لطالما طلَّ علينا  مثلَ العيد واطربنا  بصوتهِ الغرِّيد ، فكانت  تزغردُ لهُ  الحاراتُ  وتتراقصُ معهُ  الأجواء ..)    و (  هل توارى في  مدينة  الأحلام ؟ أم  أغرقهُ  السُّوقُ والزّحام ؟ ) .

      وَتُوَظّفُ أيضا العديدَ من العبارات  والأمثال الدارجة في قرانا ، مثل :  ( إذا سلم عليكَ عُدَّ  أصابعَ  يديكَ ) ... وهذا المثل يذكرنا بشخص من إحدى القرى وقد  توفي قبل فترة طويلة ، وحسب ما يُروى عنه  كان إذا سلم على شخص  ما  في الشارع  فله  هدف  ومصلحة عنده .. حتى  لو كان غرضه بعد عدة أشهر..فيقولون : إذا سلمَ عليكَ  فلان  في الشارع  سيكون  له غاية وهدف ومصلحة عندكَ  بعد ستة أشهر على الأقل )

  ومثل آخر تستعملهُ الكاتبةُ وهو حكمة : (إنَّ الحياة سخيّة  تأخذ بيد وتعطي بالأخرى  ) .

وتستعملُ أيضا جملة كانت وما زالت تردَّد في العديد من القرى - بتصرُّف -  :  ( يا  ذل ".... " من  بعد  "  .......  "   ) -  ومن دون ذكر أسماء  .

3 -   البناء القوي والمتين  للقصة  وتسلسل أحداثها  بشكل تقني  فنيٍّ جميل  وراق مع انها كتبت بأسلوب سردي بحت ، ولا يوجدُ أُّيُّ  حوار متبادل بين  أبطال  وشخصيات القصة .

4 -  العنصر والجانب الترفيهي والمسلي  للطفل .. وهذا هام جدا .

5 – عنصر المفاجأة  ..وموجود في عدة  مواضع  في القصة

6 -   الجانب التاريخي والتراثي أيضا ..

7 - الجانب الوطني  وحب الإنسان  لبلده ومسقط رأسه .

   هذه القصَّةُ واقعية  من الدرجة الأولى وحدث كثيرا مثلها وما يشابهها في قرانا العربية ..ولكنها تفتقر  إلى عنصر هام  جدا ومحبَّذ أن يكون  موجودا في قصص الاطفال ، وهو العنصر الفاتنتازي ( الخيالي )  والذي يحبُّهُ  كلُّ  طفل ويشوِّقهُ ويشدُهُ  أكثر للإستماع إلى قراءة القصة .

     من إيجابيات هذه القصّة : إنها ليست طويلة ومملة ومساحتها الجغرافية جيدة   وملائمة  لنفسية  الطفل وعقليته  وذوقه  وقدرة  استيعابه  للتأقلم  مع جوهرها وفحواها  وتفهُّم أحداثها. ولا يصابُ  بالملل أو الإرهاق  إذا  قرأها أو  استمع لقراءتها ..وهي ملائمة  لجميع  أجيال  الطفولة ( المبكرة  ولجيل الطفولة المتقدم ) .

   لا يوجدُ تكثيفٌ في شخصياتِ القصة ومحاورها فالقصة تقتصر فقط على ثلاثة أشخاص هم محورها : الطفلة (بطلة القصة التي تروي بلسانها أحداث القصة بشكل سردي ) ..وبائع الكعكبان  أبو يوسف من مدينة عكا.. والطفل العاق واللص..وأب الطفلة وأمها اللذان لهما دورصغير وخاطف في أحداث القصة .وكان  بإمكان الكاتبة أن تدخلَ شخصيات محورية أخرى في القصة  كأخوةِ الطفلة  مثلا  وبعض الأصدقاء  والأقارب..  إلخ .  وهذه القصة فيها الجانب الإنساني  والإجتماعي  والسلوكي  كما  ذكرت  وتحثّ على السلوك الحسن وتعلم الأخلاق والقيم والمثل  والفضيلة وتنتقدُ وَتُنَدِّدُ ببعض الصفات السلبية التي يجب أن  يبتعد عنها كل شخص وبالذات الأطفال الصغار الذين في بداية  حياتهم ولا يعرفون  ان  يميزوا جيدا  بين الصح  والخطأ  وكيفيَّة  السلوك في الطرق القويم والإيجابي دون إرشاد  وتنوير من أهلهم وذويهم ، مثل : صفة السرقة  والنصب والإحتيال .. ويظهر هذا الجانبُ والموضوع  جليًّا في الحديث عن الطفل العاق ابن الجيران الذي ينبذهُ ويبتعدُ عنهُ الجميع لأجل سلوكه الخاطىء  والمكروه... هذه القصة  تعلمُ الأخلاق والقيم ..ولكن نهايتها  جاءت  مفاجئة  وكانت  نهاية  شبه  مفتوحة.. وبقي  الطفلُ السارق وصاحب الجرم حُرًّا طليقا يصولُ ويجولُ ويمرح على هواه  ولم ينلْ عقابه ..ونال هذا العقابَ  بدلا عنه الطفلةُ  البريئة (بطلة القصة ) التي  لم يكن  لها أيُّ ذنب .  ويظهرُ في هذه القصة  قساوةُ  قلب الأب  وشدته.. وكان  بإمكان الكاتبة أن تعطي صورة أجمل ووديعة وحنونة أكثر للأب ، وانه يحب إبنته  وجميع أولاده ولا يعاملهم بهذه القسوة كما جاء في القصة((حيث قبض على ابنتهِ  من  ذراعها  وهي  تهرب.. وكيف كان  شعورُ الطفلة  وخوفها الشديد وحالتها النفسية ))   فكان من المفروض أن  ينالَ الطفلُ العاق  والنشَّال ابن الجيران ذلك العقاب بدل الطفل البريئة..وليس من المفروض أن يكون عقابا جسديا .. بل ممكن عن طريق التوبيخ  واللوم  الشديد والقاسي..ولكي  يُحِسَّ ويدرك كلُّ طفل  يقرأ هذه القصة أن هنالك عدالة  إجتماعيَّة وعدالة سماويَّة أيضا .. وان الله  لا  يحبُّ  السارقين  والذين  ينشرون الفساد والفوضى  في  المجتمع .. ولا توجدُ  فوضى وتسيب في حياتنا وفي مجتمعنا ولا يوجدُ ظلمٌ  وإجحاف ، والشخص المذنب  فقط  هو الذي ينالُ العقاب  والجزاء .. وليس الأشخاص الأبرياء .

وأخيرا وليس آخرا : أريد القول : إن هذه القصة ناجحة وتستحقُّ أن تحظى باهتمام الكتاب والنقاد  وَتُكتبَ عنها المقالاتُ الدراسات.. وأن توضع  في  المكتبات  وتدرس أيضا  للأطفال  الصغار ، وهي  من  أحسن وأفضل القصص التي  كتبت  محليا  للأطفال  حتى الآن .. ويكفيها الجانب الترفيهي والفني والأدبي الراقي ، لان هنالك العديد من القصص التي تُكتَبُ  للأطفال محليا  تفتقر إلى هذه  العناصر والأسس ، وخاصة  الأسلوب  الأدبي الرفيع والجذاب . وفي النهاية  أهنىءُ الكاتبة  والأديبة القديرة  والمتألقة ( شهربان معدي ) على هذا الإصدار الجديد  والقيم  وعقبال إصدارات أخرى لها  في جميع المجالات الأدبية.


يجب إحياء الثورة/ الدكتور فيليب سالم



"حين سكت أهل الحقّ عن الباطل، توهَّم أهل الباطل أنهم على حق"

الإمام علي بن أبي طالب


 ‏ أسوأ مما حدث، هو ما قد يحدث. أن يرضخ اللبنانيون للذّل، ويتأقلموا مع الواقع. أن يرضخ اللبنانيون للألم، ويلوذوا بالصمت. نصف قرن من الحروب والنزاعات والفشل وها نحن في هذا القعر. نحن في حالة من الموت السريري. أتريدون البقاء في هذا الموت، أم تريدون العودة إلى الحياة؟ وإذا كل ما حدث لم يوحّدنا، ولم "يهزّنا" للقيام بعمل كبير، فماذا يا ترى سيوحّدنا وأيّ شيء "سيهزّنا"؟ وماذا نقول ‏للبنان الذي أحبّنا وللأرض التي غمرتنا؟ جئنا نقول: عودوا إلى #الثورة. فالثورة وحدها تعيدنا وتعيده إلى الحياة. الثورة، نعم. ولكن أية ثورة؟ ها قد باءت جميع ثورات النار والحديد في العالم العربي بالفشل. لذا جئنا ندعو الى الثورة التي تحيا بالتمرد اللاعنفي، والتي تفرض حضورها في الشارع بأبهى مظاهر الحضارة، وأبهى صوَر الموقف الرافض العنيد. نحن نريد أن نحيا في الثورة لتحقيق أهدافنا. وأهدافنا هي ثلاثة:

أولاً، تغيير المشهد السياسي التقليدي الذي يفتخر فيه رجاله ونساؤه بالتبعية والفساد، وبعدم الولاء للبنان، والإتيان برجال ونساء قادرين على بناء الدولة، بناء الوطن. وثانياً، تغيير العقل اللبناني السياسي والثقافة السياسية الشعبية بحيث لا تعود هذه الثقافة وتفرز طبقة جديدة من السياسيين مثل هذه الطبقة التي أخذت لبنان إلى حافة القبر. وثالثاً، رفض الوصاية، اية وصاية، ليسترد لبنان قراره الحر. قرار السيادة، وقرار السلم والحرب.

‏قد نمتلك اليوم فرصة تاريخية لتغيير المشهد السياسي، وهي الانتخابات النيابية، المقرر إجراؤها في آذار من السنة المقبلة. أقول "قد" لأنني أعتقد بأن القوى السياسية التي تقبض على لبنان اليوم والمتمثلة بالسلطة السياسية وبـ "حزب الله"، لا تريد إجراء هذه الانتخابات. وأما إن فُرضت عليها فستحاول تزويرها. لذا نحن بحاجة إلى دعم دولي للتأكد من اجرائها، وإلى وجود دولي للإشراف عليها. وتخاف هذه القوى السياسية ليس من صوت اللبناني المقيم في الوطن فقط، بل تخاف أكثر من صوت اللبناني المقيم في العالم، لأن هذا الصوت متحرر نسبياً من القيود التي تكبّل اللبنانيين المقيمين، ولأنه صوت اللبناني الذي هاجر من لبنان هرباً منها. لذلك ستلجأ الدولة إلى وضع العراقيل ‏ولجعل عملية الانتخاب في الخارج عملية ‏صعبة جداً. هذا يحتم علينا مواجهة السلطة باستراتيجية ذكية. إحياء الثورة وتوحيد قوى المعارضة، إذ إنه ليس بالإمكان إرسال أكثرية كافية إلى مجلس النواب الجديد إذا بقيت ‏فصائل المعارضة مشرذمة، وإذا بقيت الثورة خامدة. إن إحياء الثورة هو ضرورة لنجاح المعارضة في الانتخابات، فالثورة تخلق مناخاً داعماً لها وتضخّ زخماً قوياً في نفوس المترددين للاقتراع وتولّد فيهم الحماسة للإدلاء بأصواتهم. الثورة كفيلة بأن تحوّل الغضب الذي يضجّ في صدور المواطنين إلى أصوات في صناديق الاقتراع.

ونعود إلى النقطة المركزية، وهي دور الثورة في تغيير العقل اللبناني السياسي التقليدي. وهنا تكمن علّة العلل. هنا تكمن الأسباب الحقيقية لفشل عملية بناء الدولة. فهناك خلل كبير في العلاقة التي تربط المواطن بالوطن، وخطأ أكبر بمفهوم الدولة ومعنى السياسة. فالسياسة لا تُعنى بإدارة شؤون الناس فحسب، بل تُعنى أيضا بقيادتهم إلى الحضارة. تُعنى بصنع مستقبلهم. لم تُعنَ القيادات السياسية المتراكمة في لبنان بتغيير هذه المفاهيم المَرضية لأنها كانت تُعنى بترويج مصالحها لا مصالح الوطن. ان المفاهيم التي أوصلتنا الى هذا الحضيض الذي نحن فيه هي مفاهيم المدرسة اللبنانية السياسية التقليدية التي تؤمن بأن الحكم هو جاه، وليس مسؤولية، وبأن واجب المواطنين هو خدمة الحاكم وليس العكس. وتؤمن كذلك بأن المسؤول هو فوق الناس وفوق القانون وفوق المحاسبة، وبأن الفساد هو شطارة، وبأن الولاء لغير لبنان هو ذكاء سياسي ومصدر فخر واعتزاز، وبأن الولاء للزعيم يجب ان يتقدم على الولاء للوطن. مفاهيم مَرضية عاشت وترعرعت في زوايا البنية التحتية للثقافة اللبنانية السياسية ودمرت العقل اللبناني السياسي. نتج عن ذلك وصول طبقة من السياسيين الى الحكم، حكمت على لبنان بالإعدام. لذا يجب أن يكون راسخاً في أذهاننا أنه ان لم نتمكن من تحرير العقل اللبناني من هذه الامراض فعبثاً نحاول بناء لبنان جديد.

أدت هذه المفاهيم أيضا إلى تداعيات خطيرة جدا. أخطرها هو الوصاية. لقد تعاقبت على لبنان وصايات عديدة، ولكن أهمها على الإطلاق هي الوصاية التي تقبض علينا اليوم. وصاية الثورة الإسلامية الإيرانية المتمثلة بـ"حزب الله". وخطورة هذه الوصاية هي قوتها. فهي تمتلك الرؤية الموحدة وتمتلك السلاح والمال. تواجهها في المقلب الثاني قوى سيادية لبنانية مشرذمة لا تمتلك الرؤية الموحدة ولا تمتلك السلاح والمال. لقد أخذت هذه الوصاية لبنان إلى ذلّ، يصعب علينا ان نصدق انها تريده. لقد حان الوقت أن نجلس ونتكلم. نتكلم بصدق واحترام. نحن لا نريد العداء. نحن نعتبر أننا نحن وأنتم هم أهل هذه الأرض، وأن ليس هناك في الأرض أرض غير هذه الأرض تكون ارضنا. يقول جبران خليل جبران "إن مَن يقول الحق بصوت منخفض يقول نصفه". لذا جئنا نقول الحق بصوت عال.

تقولون إنكم "مكونٌ أساسي في المجتمع اللبناني، وإنكم أهم قوة سياسية فيه". هذا الكلام صحيح. وتقولون "انكم تمثلون أكبر طائفة في لبنان وهي الطائفة الشيعية". هذا صحيح أيضا. وكذلك صحيح ان الشيعة هم أهلنا وأحباؤنا. ولكننا جئنا لنقول لكم إن مشروعكم ليس مشروعاً لبنانياً، وقراراتكم لا تُصنع في بيروت بل تُصنع في طهران. وأنتم تعترفون بأن مرجعيتكم هي الثورة الإسلامية الإيرانية وليست الدولة اللبنانية. أنتم ملتزمون سياسة التمدد الإيراني في الشرق كله، وإعلاء شان الجمهورية الإسلامية لا إعلاء شان الجمهورية اللبنانية. ملتزمون مشروعاً اقليمياً يجعل من لبنان ساحة لمعارككم مع العالم.

قد تمتلكون قوة السلاح ولكننا نحن نمتلك قوة الحق. ونمتلك أيضا الحق في الأرض. هذه الأرض هي أرضنا. ان لبنان في رأينا ليس "وطناً ذا وجه عربي" كما قيل، بل هو بلد عربي من رأسه إلى أخمص قدميه. ولكن بالرغم من ذلك نحن نرفض ان يذوب لبنان في العالم العربي. فكيف تطلبون منا القبول بان يذوب في العالم الفارسي؟ هذا وطن الحرية في الشرق. فان ماتت الحرية فيه يموت هو. وبعد ذلك يُسدل الستار على الحرية والحضارة في الشرق كله.

نحن نرفض ايديولوجيتكم السياسية المتجذرة في الدين. ونحن على عكسكم نعمل على فصل الدين عن الدولة وبناء الدولة المدنية في لبنان. أنتم تريدون الانحدار الى الطائفة، ونحن نريد الارتقاء الى الانسان. أنتم تريدون ان تكون شعوبكم رعايا، ونحن نريد شعوبنا مواطنين أحرارا.

ولبناننا هو وطن الرسالة. الرسالة المقدسة التي قد تكون أهم رسالة. والرسالة تكمن في التعددية الحضارية واحترام الآخر. تكمن في معانقة المسيحية للإسلام، ومعانقة حضارة الشرق لحضارة الغرب. والرسالة أيضا هي ان تكون مواطناً في لبنان وتكون في الوقت نفسه مواطناً في العالم كله. هذه هي رسالة لبنان، فأية رسالة هي رسالتكم؟

أوَتذكرون كم رددتم على مسامعنا: اذهبوا شرقاً. فجئنا اليوم نسألكم: هل تعرفون شخصا واحدا من هؤلاء الذين هربوا من بلادهم، هرب الى شرقكم؟ وجئنا نسألكم أيضا ان كنتم تعرفون ان عددا كبيرا من هؤلاء الذين هربوا، قد هربوا من بلادكم، من بلاد محور الممانعة. ليكن معلوما لديكم ان كل الذين هربوا، هربوا الى الغرب. هربوا الى الحرية. فعليكم ان تسألوا أنفسكم لماذا لم يهرب لاجئ واحد الى شرقكم؟

لم نقل هذا الكلام لأننا نريد التصادم معكم بل نقوله لعل الحق يجمعنا. لعل الحق يوفر لنا فرصة جديدة للعمل معا لنقيمه من مماته. وها نحن ندعوكم للقيام بعمل تاريخي يليق بشهدائكم. ندعوكم الى مصالحة مع ذواتكم. الى مصالحة مع لبناننا ولبنانكم. ونحن نعرف انكم قادرون على ذلك. عسى ان لا تترددوا، وعسى ان تعملوا على ما هو اكبر وابعد من احلامكم.

ونتوجه الى أهلنا في لبنان ونقول لهم: نحن نعرف الذل الذي يقبض عليكم والالم الذي يكبّلكم، ولكننا في الوقت نفسه نؤمن بكم ونؤمن بقدرتكم على التغلب على الإحباط. التغلب على الموت. نحن نؤمن بقدرتكم على الانتصار. الانتصار على أنفسكم. عودوا الى الثورة. لقد ارتكبنا خطايا كثيرة. وحدها الثورة تجعل لبنان يغفر لنا خطايانا.


مودي يتراجع .. هل هو هزيمة أم تمهيد لإنتصار؟/ د. عبدالله المدني*

 


في أعقاب مظاهرات سلمية عارمة في مختلف المدن والولايات الهندية ، تخللها القليل من العنف واستغرقت نحو عام ، قادها المزارعون الهنود لإجبار حكومة رئيس الوزراء ناريندرا مودي على إلغاء ثلاثة قوانين زراعية فيدرالية مثيرة للجدل مررتها حكومته في البرلمان الاتحادي في سبتمبر الماضي، ومن بعد 11 جولة من المفاوضات العسيرة بين الحكومة وممثلي المزارعين انتهت بالفشل لتمسك كل جانب بوجهة نظره، فاجأ مودي شعبه مؤخرا في خطاب متلفز بقرار تراجع فيه عن خططه، واعدا بإلغاء تلك القوانين بطريقة دستورية من خلال جلسة قريبة للبرلمان.

بدأت المظاهرات والاعتصامات منذ فبراير الماضي، وتوسعت شيئا فشيئا لتصل إلى محيط البرلمان الهندي في العاصمة نيودلهي، حيث أقام المحتجون ثلاثة معسكرات ضخمة مزودة بكافة احتياجاتهم اليومية. أما القوانين التي تسببت في هذا الوضع فقد دافعت عنها الحكومة بقوة من منطلق أنها ضرورية لتحديث وانعاش قطاع الزراعة، الذي يعتمد عليه أكثر من 50% من سكان الهند كمصدر للعيش، ويمثل في الوقت نفسه حوالي 16% من الاقتصاد الهندي البالغ حجمه 2.7 تريليون دولار، وأنها تعني فرصا جديدة وأسعارا أفضل للمزارعين وأنها تسهّل القواعد المتعلقة بالتخزين والتسويق وبيع المنتجات والمحاصيل الزراعية، وتساهم في تعزيز الانتاج من خلال الاستثمارات الخاصة. غير أن المزارعين المتظاهرين ــ ومعظمهم من الأميين ــ رأوا أن القوانين سوف تجعلهم ضعفاء أمام الشركات الكبيرة، وأن من شأنها تحرير أسعار المحاصيل، وبالتالي تخفيض أرباحهم. وشاركهم في مخاوفهم بعض المشاهير ونواب أحزاب المعارضة، ولاسيما حزب المؤتمر الطامح للعودة إلى السلطة بدليل قيام زعيمه راهول غاندي بامتطاء جرار زراعي وقيادته نحو مبنى البرلمان في عمل رمزي قصد به الوقوف مع المحتجين ضد الحكومة.

لجهة تفاصيل القوانين المختلف عليها، نجد أن القانون الأول هو قانون تجارة منتجات المزارعين (الترويج والتيسير) ويسمح للمزارعين ببيع منتجاتهم خارج لجان أسواق المنتجات الزراعية (APMC) وهذا يعني أنه يمكن للتجار الشراء من المزارع بسعر متفق عليه بشكل متبادل. والقانون الثاني هو اتفاقية ضمان الأسعار وخدمات المزارع (التمكين والحماية) ويسمح للمزارعين بالقيام بالزراعة التعاقدية وتسويق منتجاتهم بحرية. والقانون الثالث هو قانون السلع الأساسية، الذي يسثني الحبوب الغذائية والبقول وزيوت الطعام والبصل ويجعلها غير مقيدة بالتجارة إلا في ظروف استثنائية.

والمعروف أن "الثورة الخضراء" التي أطلقتها حكومة رئيسة الوزراء الأسبق أنديرا غاندي في سبعينيات القرن الماضي حولت الهند من بلد يعاني من نقص غذائي إلى بلد يملك فائضا كبيرا، فصار مصدرا للغذاء بعد أن كان مستودرا. غير أنه لوحظ في العقود الأخيرة أن دخل المزارع الهندي بقي راكدا بصفة عامة ولم يعد متناسبا مع مستويات المعيشة الجديدة في ظل إنطلاقة الهند الاقتصادية، الأمر الذي ألح على الحكومة تحديث القطاع الزراعي وتركيبته التقليدية وجلب المزيد من الاستثمارات إليه.

اعتبر البعض أن تراجع مودي عن القوانين الثلاثة بمثابة هزيمة مدوية لشخصه وسياساته وأسلوب حكمه، ونصر إستثنائي للمزارعين ونقاباتهم وللعملية الديمقراطية، فيما اعتبر البعض الآخر أن قرار التراجع أتخذ للحيلولة دون احتمال توسع دائرة الاحتجاجات بانضمام غير المزارعين إليها، وأيضا بهدف قطع الطريق على التدخلات الخارجية التي ظهرت بوادرها بتعاطف الخارجية الأمريكية مع ظروف وأوضاع المحتجين والمعتصمين لأشهر في نيودلهي وطريقة تعامل الشرطة الهندية معهم. غير أنه، بغض النظر عن الدوافع والأسباب، نعتقد أن مودي أحسن صنعا بتراجعه، لأنه نزع بذلك فتيل قنبلة كانت ستقلل فرص فوزه في الانتخابات العامة القادمة المقرر إجراؤها عام 2024، وفرص فوز حزبه وحلفائه في انتخابات المجالس التشريعية المحلية لولايات أوتر براديش (أكثر الولايات الهندية ازدحاما بالسكان) والبنجاب وغوا وأوتراخاند المقررة خلال السنة القادمة، خصوصا إذا ما أخذنا في الاعتبار أن المزارعين الهنود يمثلون أكبر كتلة انتخابية في البلاد.

وبطبيعة الحال، ابتهجت أحزاب المعارضة الهندية بما حدث واعتبرته انتصارا لها. فرئيس حزب المؤتمر الهندي المعارض الذي مني بأقسى هزيمتين في تاريخه في آخر عمليتين انتخابيتين على مستوى الهند، ولا يملك في البرلمان الاتحادي اليوم سوى 52 مقعدا من إجمالي عدد مقاعد مجلس النواب (لوك سابها) البالغ عددها 545 مقعدا، ركب الموجة وغرد قائلا: "إن رأس الغطرسة في البلاد استجاب أخيرا للفقراء بعد مقاومتهم السلمية". وبالمثل غردت رئيسة حكومة ولاية البنغال الغربية وزعيمة حزب ترينامول لعموم الهند المعارض "ماماتا بانيرجي"، التي لا يملك حزبها سوى 21 مقعدا في البرلمان الاتحادي، قائلة: "تهاني القلبية لكل مزارع حارب بلا هوادة ولم يستسلم لقسوة حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم".

د.عبدالله المدني

*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين

تاريخ المادة: نوفمبر 2021م


الضياع والبقاء في ظل منحن على مقعد الشمس/ زياد جيوسي



   حين حط في بريدي كتابين للكاتبة والشاعرة الأستاذة الدكتورة والباحثة جليلة الخليع من المغرب العربي، شعرت بفرحة كبيرة حين تصفحت الكتاب الأول "رسائل ليست له" في عمَّان، قبل أن يرافقني الكتاب الثاني وهو ديوان الشعر "ظلٌ منحنٍ على مقعد الشمس"، في حقيبتي اليدوية لأقرأ على الطريق وفي وكني في قريتي خلال رحلة الشتاء للوطن المحتل، حيث اعتدت قضاء بعض الخريف والشتاء وقسم من الربيع في الوطن، حتى حلول رمضان فأعود إلى عمَّان وشرفتي العمَّانية. 

   لوحة الغلاف وتمتد على الغلافين الأول والأخير عبارة عن مشهد طريق في متنزه شجري والأزهار وأوراق الشجر المتساقطة جعلت من الطريق والأرض لوحة جميلة متمازجة الألوان غلب عليها اللون الأصفر مما يشير للخريف، والأشجار على جانبي الطريق ومدى الرؤية، ومقعدين من مقاعد الحدائق على جانبي الطريق يشكوان من الضياع والوحدة، وتنعكس عليهما الشمس والظلال، وعلى الغلاف الأخير مقاطع شعرية من الديوان، فلعل هذه اللوحة للغلاف تعبر جيدا عن عنوان الديوان الصادر عن دار السليكي للنشر في طنجة/ المغرب.

   الاهداء الجميل الذي كتبته الشاعرة بخط يدها لي قالت فيه: "هو محاولة للبحث عن اللغة أو رسم لأشياء تشبهنا، هو اقتفاء للشعر في هذا الضياع الذي يحيط بنا"، لفت نظري بقوة قبل أن أبدأ بالقراءة وأشعر بكم الضياع بين جنبات الديوان وبين الحروف وخلف اللوحات المرسومة بالكلمات، فالضياع تكرر في النصوص بشكل او آخر اضافة لمسائل أخرى ستكون مدار تحليقي في روح الشاعرة من خلال نصوصها الواحد والثلاثين في صفحات ديوانها التي بلغت 105 صفحات من القطع المتوسط.

   أول ما كتبت الشاعرة في الديوان في صفحة مستقلة هو: "لا شيء يربطني بذاتي، لا شيء يكتبني قصيدة"، وهذا مؤشر قوي للضياع الذي سنراه في جنبات الديوان، وكانت مقاطع على اربع صفحات ما بين سطرين فأربعة فخمسة فستة مقاطع قبل أن تبدأ نصها الأول، وكأن هذه المقاطع مقدمة شعرية أملتها روح الشاعرة فخرجت عن المألوف بتقديم من شخص آخر أو تقديم نثري منها، وهذه المقدمة إن جاز التعبير أعطت فكرة مسبقة عما سنحلق به بين دفتي الكتاب، حين تقول فيها: "محابري في الظل، تحاول رسم اللامكان، عبثا تسيل، حيرى، فينهمر الضياع"، وبعد القراءة الأولى عدت بين دفتي الكتاب للبحث عن الضياع وعن البقاء.

   الضياع: في النص الأول والذي حمل عنوان: "اسطورة الحظ"، نرى الضياع كامنا في العنوان حيث الاسطورة خيال سطره القدماء من خيال لا يتحقق ولا يقارب الحقيقة، فهي في هذا النص تفتقد الفكرة ويتنكر لها الحرف وتفقد الحلم وتمر في حالة قاتمة من الضياع تنهيها بالقول: "وأنا أسطورة، حظ أجرب، يتآكل، في تقاطع الأظافر، لينتهي ميتا، كما ولد ميتا"، بينما في نصها: "إفلاس" تبدأه بالحديث عن الضياع فتقول: "وسنوات الضياع، تتمدد بلظى الإنتظار"، وتنهي النص بالقول: "وأعلن افلاسي"، فهل أكثر من هكذا ضياع  كما صورته الشاعرة؟ وتعطينا صورة ضياع أشد قسوة في نصها "اكتئاب" بقولها: "كل الظلال كاذبة، فاحتميت فيها عندما، أشرقت شمس الحقيقة، لتظلي بالعتمة"، وفي نفس النص تقول: "كل المرافئ، غير صالحة لِرُسُوَّكِ"، فتستمر حالة الضياع في الكتاب بدون توضيح لسبب هذا الضياع الكبير، وفي نصها "التواءات" تشير للضياع خلال محاولات الهجرة بالبحر فتقول: "لا نورس يحلق في الأفق، وملامح بلادي بعيدة، خارطة وعمر.."، وفي نصها "الرسم بالكلمات" وهو عنوان ديوان للشاعر نزار قباني تقول: "بقصيدتي التي أعياها دوار البحر، وأتلفت قوافيها عند تصدع العجز"، بينما في نصها "اللاقراءة" نجدها تعبر عن الضياع بالقول: "حبات أفكار مبللة، تراصت عند خطوط البياض، فأعلنت اللاولادة"، بينما نرى الضياع يتمثل في نصها "بقايا في قعر الدواة" بالقول: "أكتظ بي وبي، يستعيدني وهمي وهما آخر، بفقاعات الحلم الزرقاء".

   هذا الضياع في نصوص الشاعرة يثير التساؤل عن العوامل النفسية التي أحاطت بها خلال فترة بوحها لهذه النصوص، وبالتأكيد هي مرحلة زمنية وليست أيام عابرة في رحلة الزمان، فهي تتأوه وتتألم وهي تعيش الضياع الذي يطغى بعتمته على الرغبة بالبقاء، ولكن ورغم كل هذا الألم إلا أن الشاعرة كانت تعيش الوعي الجمالي في بناء النصوص، فكانت نصوصها قائمة على أساس متين من اللغة باستثناء الاستخدام لمصطلحات غير عربية في بعض النصوص والتي سأشير اليها لاحقا، فلم تأتِ نصوصها بقوتها ومعجمها اللغوي متأثرة بالحالة النفسية، بل تجاوزتها بالبنيان وتشكيل كل الكلمات حتى لا يقع القارئ بالخطأ بقراءة الكلمات، وهذا ما سنراه بالنص التالي وهو بعنوان "دوار الفراغ" وهو أول نص في رحلة الضياع تشير فيه لبعض ما ولد هذه الحالة التي تاهت فيها، فهي في هذا النص تخاطب الآخر لأول مرة في الكتاب، حيث كانت كل النصوص السابقة محادثة بين الذات والذات، فتقول في هذا النص: "ما زلتُ على قيد الصفاء، وأنتَ لوحتي التي لم تكتمل"، وتكمل في نفس النص مخاطبة الآخر: "ما زلتَ تختفي عندما ترتكب الظَّلال، جرم التغيب، ومنظاري يرقب كل المجراتِ، عله يعثر على لون الغربة، في سمائكَ البعيدة عني"، وتكمل في نفس النص: "ما زال الشتاءُ متربصا بعمري، وأمطاركَ وابلٌ من وجع"، ومرة أخرى تخاطب الآخر بنصها "متفرقات"، وتعود لخيباتها والضياع بنصها "رعشات" فتقول: "أستحضر إخفاقي ملء الدمع، أسكب عمري في كف الزمن"، وتزداد حالة الضياع والإحساس به في نصها "سأمضي" فتقرر الرحيل وتقول في بعض من النص: "سأمضي، والذكريات تتلاطم صفحاتها، عند دفتي قراري".

   تواصل شاعرتنا جليلة الخليع رحلة الضياع في ديوانها ونصوصه، ففي نصها "سريالية بألوان الغيظ" تقول في نهاية النص: "عند بوابة القصائد، ينهرني الزمن"، لتنقلنا إلى نص بعنوان "سنة لا غير" ويلاحظ في هذا النص أنه يظهر وكأنها تتحدث عن امرأة أخرى بينما هي تخاطب ذاتها بشكل منفصل عنها وكأنها امرأة أخرى، بينما النصوص السابقة تتحدث عن الذات فتقول في مطلع النص: "وتأتي مسرعة كالبرق، تمضغ اوجاعا، وتعض أطراف الخيبة"، بينما تعود للحديث عن الذات في نص "شيء ما" فتقول في نهاية النص بعد وصف مطول للحال: "شيء ما، يشبهني كثيرا، وأنا أطفئ قناديلي، وأفسح مسارات، للدمع"، وفي نصها "عبث" يتبدى الضياع بالقول: "يطلون من تصدعات الزمن، يمررون هزائمهم، ليقصف الرعد، معلنا الملل، في دُرج الحياة الكئيبة"، بينما في نصها "عُمر" والذي اعتلته عبارات لهنري ماتيس تقول: "ننعي الماضي، ونتشبث بأوهامنا القديمة"، وتستمر رحلة الضياع فيما تبقى من نصوص فنجدها تتجلى بالنصوص المعنونة: "غروب"، "غريقة أمد يدي لأمي" والتي تنهي النص بالقول: "عالقة "أنا" ما بين السماء والماء، صورة بضبابية البكاء"، ونصها "في الركن البعيد الصاخب"، و"فيزيائية البوح" و"قصائد مهجورة" و"لا ظل يتبعني" وتقول فيه: "ما زلت على قيد الحياة، أنتظر موتي"، وفي نصوصها "متمردة"، "متواليات"، "ما بين قوسين وشاطئ"، "مشاعر"، "هدير"، "هنا القصيدة".

   البقاء: ورغم الضياع والإحساس العميق بالخيبة الذي عشناه مع الشاعرة في تحليقها، إلا ان البقاء والإصرار عليه كان واضحا في جنبات أشعارها، وإن لم يكن بالمساحات التي أفردتها للضياع، لكنه التشبث بالأمل يطل علينا ولو كان أملا ضعيفا وحلما مشوشا، ففي نصها: "أسطورة حظ" ورغم كل الخيبات فيه إلا انها تمنح نفسها فرصة فتقول: "أبحث عن خط حظي، في كف الحياة"، وفي نفس النص تقول:"أستودع خيالاتي، عين الشمس، حتى تشرق ببلد، لا أسكنه، لا يعرفني"، وفي نصها "إفلاس" نجدها تقول: "أنني ما زلت أقف على أصابعي، لأطال مدارات محجوبة"، وفي نفس النص تقول: "ما زلت أنا، عند فوهة التفكير، أتمتم، أصرخ فجأة، أنهر الزمن الماضي"، ويطل علينا الحلم بالبقاء في نصها "صوت آخر"، فتقول: ""أغمضت عيني، وتأبطت حلمي، إلى حيث لا أفق"، وفي نصها "عبث"  تواصل الحلم للبقاء فتقول: "تمتد إلى مسافات الحلم، اللامتناهية، وتترك صداها هناك، يغري العابرين ليلا"، وفي نصها "مدارات معطلة" تقول: "ألغي عقلي من عقدة تفكير، وأوقع بندا للسلام مع ذاتي، وأعود، ببند جديد". 

   ونلاحظ رغم قوة اللغة المستخدمة في الديوان، كون الشاعرة حاصلة على درجة "الدكتوراة" في الأدب العربي "وحدة النص العربي القديم" وهي استاذة باحثة، إلا انها لجأت لاستخدام مصطلحات غير عربية مثل: "سريالية وقد استخدمتها عدة مرات في النصوص ومرة واحدة في العنوان/ Puzzle/ ريختر وهو مقياس قوة الزلازل، الجاذبية "النيوتنية" وهذا مصطلح استغربته فنيوتن مكتشف قانون الجاذبية ولا يوجد شيء اسمه "جاذبية نيوتنية"، وهذه الاستخدامات أضعفت من قوة اللغة العربية المستخدمة وبدت الكلمات الأجنبية وكأنها نشازا في النصوص، ونلاحظ أن الشاعرة كانت دقيقة باختيار عناوين نصوصها وعنوان الديوان، فالعنوان للكتاب أعطانا الفكرة الأولية والعتبة الأولى للنصوص متمازجة مع لوحة الغلاف، والعناوين للنصوص عبرت عن النصوص بدون تعارض بين العنوان والنص إلا حين استخدمت كلمة غربية وليس عربية، وكانت النصوص قوية من حيث اللغة والصياغة والتشكيل والتنسيق بشكل عام وليس مطلق، فكان للشاعرة معجمها اللغوي القوي، ورسمت بالحروف مساحات من لوحات رغم حجم الضياع والألم فيها، فكان شِعرها جميل ويشد القارئ بقوة أن لا يترك الكتاب قبل أن ينهيه، فقد حفلت النصوص باللوحات التي روت حكاية الضياع في غالبية الديوان، والبقاء في صور أخرى، فكانت النصوص حافلة بصور بلاغية واهتمت فيها بالتشبيه والمجاز والرمزية، تاركة للقارئ أن يستنبط الحالة والأزمة النفسية التي فرضت نفسها على النصوص، وتركت للقارئ أن يراها مفتوحة على العديد من الاحتمالات، ومنها أزمة الوطن التي تكررت ببعض النصوص ومنها نص "قصائد مهجورة" حيث تبدأ النص بالقول: "تخونني مدني، ليظل وطني بلا سقف"، وفي نصها "التواءات" حين تقول: "وملامح بلادي بعيدة، خارطة وعمر.."، فالشاعرة ورغم حجم الألم كانت تعيش الحلم خلف الكلمات، تحلم بالفرح والوصول والبقاء، وبالتأكيد أن لكل كاتب أو شاعر تجربته الخاصة التي تنعكس بشكل أو آخر على ما تبوح به روحه، وهذه الخصوصية هي التي تجعلنا نميز بين الأعمال الأدبية غثها وسمينها، من خلال تحليق خيالنا بالكلمات وما وراء الكلمات وفي روح الشاعر والكاتب، فكانت النصوص فعلا "ظل منحن على مقعد الشمس".

"جيوس 14/11/2021"



الاحتلال هو السرطان والفاشيون هم نقائله/ جواد بولس



كنت على مدخل محكمة عوفر العسكرية عندما تلقيت، في حدود الساعة التاسعة صباحًا، اتصالًا من قدورة فارس، رئيس نادي الأسير الفلسطيني، يؤكد فيه على ضرورة مشاركتي، بعد انتهاء جلسة استئناف الاسير الاداري هشام أبو هواش، في "المؤتمر الوطني لدعم الاسرى"، الذي دعت الى انعقاده، يوم الاربعاء الفائت، جامعة القدس المفتوحة في مدينة نابلس، وتحت رعاية رئيسها أ. د. يونس عمرو. 

كانت خطاي ثقيلة وتعبي تفضحه أنفاسي المتقطعة. توجّهت نحو القاعة الثالثة، وهي واحدة من أصل تسع قاعات يحاكم فيها الأسرى الفلسطينيون الأمنيون، فكان بابها مغلقًا؛ حاولت أن استفسر عن السبب فتبيّن أن موكّلي، وبسبب خطورة وضعه الصحي، لم يحضر من سجنه الى المحكمة مثل باقي الأسرى، وأنه، لم يدع لمشاركتنا الجلسة من خلال شاشة الفيديو  بسبب خلل اداري اقترفته سكرتارية المحكمة. دخلت القاعة فتبدد غضبي وهدأت ساعة رأيت وجه القاضي الذي عرفته منذ عقود. وهو حين رآني وقف على رجليه، تمامًا كما كان يفعل كل مرّة كنت أمثل فيها أمامه، وفتح ذراعيه، بمودة لافتة، وحيّاني ببسمة عريضة ظلّلها شاربه الاسود الكث. كان طقس استقباله مألوفًا وسريعًا فتفاعلت معه بعفوية واضحة، مع انني شعرت بحرج ممثل النيابة العسكرية، أو ربما خوفه من علاقة القاضي معي، فهو كان مجرد صبي يافع لم يتعلّم بعد جميع أسرار المهنة، وكان يجهل ان "الاحتلال"  قد يتبسم، أحيانًا، قبل أن يردي ضحيته؛ ولم يعرف، كذلك، انني خسرت كل ملفاتي عند ذلك القاضي رغم ايقاع رقصة شاربه الشرقي.  "ماذا تريد أن نفعل" ؟ سألني، فأجبت، من دون تردد : "تأجيل الجلسة"، ثم أردفت: "اليوم ساعدني القدر وحرمك من أن تضيف نصرًا على سجلّاتك الطويلة". ضحك كسيّد وهز رأسه برضا وقرر ارجاء القضية لبضعة أيام. ثم سألني، قبل مغادرتي القاعة: "هل ما زلت تقرأ كتابات المرحوم يشعياهو لايبوفيتش" ؟ لم أجبه. كانت عيناي تنظران صوب مقعد النيابة العسكرية، فسمعته يقول لي، واصبعه موجهة نحو ممثل النيابة بنوع من الاستخفاف : "هؤلاء الصغار لا يعرفون من كان يشعياهو لايبوفيتش ولا ماذا كتب..". تابعت سيري وكأنني لم أسمعه.

غادرت منطقة محكمة عوفر متوجهًا نحو مدينة نابلس. لم ادخل الى رام الله، بل استخدمت الشارع الالتفافي الذي أوصلني الى منطقة حوّارة ومشارف مدينة نابلس بسرعة معقولة؛ ثم تباطأت بسبب "عجقة" السير في شارع المدينة الرئيسي. لم يكن صعبًا عليّ الاستدلال على مبنى الجامعة، فهو، بحجارته الصوانية الكستنائية، ينتصب على مرتفع واضح وتتصدره واجهة مفتوحة كأذرع الأمل، جنوبًا نحو القدس وشمالًا نحو المدى الأبعد. كان المشاركون في جلسة افتتاح المؤتمر يجلسون على مقاعدهم في قاعة باهية؛ وامامهم، عندما دخلتها أنا، حضور متواضع لا يتجاوز عدده أكثر من خمسين مقعدًا؛ علمًا بأن القاعة ، هكذا فهمت، كانت ملأى بمئات الطلاب عند بداية الحفل.  

 سمعت كلمتين من أصل سبع كانت قد ألقتها عدة شخصيات اعتبارية وممثلين لمؤسسات وهيئات وقوى سياسية وطنية قبل وصولي. للحظة، وبعد انتهاء فقرة الكلمات، سادت بعض الفوضى في القاعة، فاعلن عريف الحفل ان المؤتمر لم يختتم اعماله، وتمنى على الناس العودة الى مقاعدهم كيما ننتقل الى متابعة فقرة المحاور، والتي ساتحدث فيها ضمن المحور القانوني حول "الحركة الاسيرة والمحاكم العسكرية الاسرائيلية"، ثم يتبعه المحور الاعلامي والمحور الطلابي. لن اتطرق الى جميع تفاصيل مداخلتي؛ فقد أكدت فيها على ان المحاكم العسكرية، وليس اقل منها المدنية في دولة اسرائيل، هي في الواقع أدوات استخدمها ويستخدمها الاحتلال لتسويغ ممارساته وقمعه للفلسطينيين؛ ومن العجب أن تستمر ضحايا هذه المنظومة بالتعامل معها على نفس الأسس التي هيكلت اشكال وقواعد علاقتهم بها منذ بداية الاحتلال. فمن يقبل ان يتعايش مع الاحتلال يتعود، عن وعي او بدونه، على القتل وعلى أن يكون الضحية. قلت هذه النهاية ولم أُعدها الى قائلها الاصلي، الذي كان هو ذلك اليشعياهو لايبوفيتش.   

كان الحضور في القاعة قليلًا، لكنني لم أعر ذلك أي اهتمام؛ فيكفي، هكذا رجوت ممن بقوا، ان ينقلوا ما سمعوه للآخرين، والأهم ان تتضمن مخرجات المؤتمر توصيات موضوعية وعملية، على ان تكون من بينها الضرورة لاعادة حسابات القيادات الفلسطينية والحركة الاسيرة نفسها مع المنظومة القضائية الاسرائيلية، لا سيما علاقتها مع  المحكمة العليا الاسرائيلية، صاحبة اخطر دور في ترسيخ الاحتلال وتغليفه بذرائع قانونية خبيثة وقاتلة.

خرجت بمشاعر مختلطة، فمعظم من حضروا المؤتمر كانوا من طلاب الجامعة. وهم من فئة الشباب والشابات الذين ولدوا وكبروا في كنف احتلال متمرس، يَرى في جميع الاحيان ولا يُرى في معظمها؛ احتلال عرف كيف يروّض طموحات شعب متعب واين يدقّ اسافينه. انهم ابناء جيل تعوّد على عيشة "الكانتونات" السرابية والطرق الالتفافية، ولا يعرفون كثيرًا عن البدايات، يوم كان شعار "منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني"  يعني المقاومة والوحدة والتحرر والاستقلال والدولة.

 لم أعد عن طريق "كانتون" نابلس، فلقد ارشدوني الى طريق التفافي يعرف باسمه الشائع  "محور يتسهار" ، ومنه الى التفافي آخر أوصلني حتى القدس من دون أن ادخل الى "كانتون" رام الله. كنت وحدي وصور الشباب في ساحات الجامعة ووجه الصبي، ممثل النيابة، امامي؛ فتذكرت ضحكة القاضي حينما قال لي "لا تكترث، فهؤلاء الصغار لا يعرفون كثيرًا..."  

مع وصولي البيت هاتفني زميل يهودي يشاركني عضوية ادارة جمعية "يدا - بيد" التي تعنى باقامة وادارة مدارس ثنائية اللغة وفق نظام تعليمي خاص يعتمد على نقل مفاهيم المساواة والديموقراطية الخالصتين واحترام الآخر  بين جميع طلابها من العرب واليهود . كان حديثه حزينًا وغاضبًا لأن أحد خريجي المدرسة في القدس هوجم بقساوة واصيب بجراح من قبل ثلة من الفاشيين اليهود في وسط المدينة، وذلك بعد ان عرفوا انه عربي. عدت الى شاشة هاتفي فقرأت ما وردها من اخبار لم اتابعها خلال النهار. كانت صورة بشار تملأ الشاشة والى جانبها ما نصته اخته عن الحادثة: "يوم الثلاثاء الفائت، في تمام الساعة الثامنة والربع مساءً في شارع هلل في القدس الغربية، كان اخي بشار عائدًا من تعليمه في "كلية هداسا" عندما هاجمه خمسة شبان. لماذا ؟ لانه تحدث بالعربية .. لا ! أسفه، لانه عربي . فمن غير المهم انك تعلمت 12 سنة في المدرسة ثنائية اللغة، او انك آمنت كل حياتك بالتعايش، او انك تحاول ان تندمج في المجتمع وتدعمه.. المهم، وهنا يكمن الفرق، انك عربي".

خفت كثيرًا؛ ليس لاننا نعرف بشار وعائلته الصديقة وحسب، بل لانني بت اشعر بنيران الفاشيين تستعر على عتبات بيوتنا. 

لم يكن خبر الاعتداء على بشار هو الخبر الوحيد عن جرائم قطعان الفاشيين السائبة؛ ففي نفس اليوم نشرت جريدة هآرتس نبأ عن صاحب مطعم عربي، من مدينة الطيرة في المثلث، يواجه تحريضًا ارعن عليه من قبل "المجلس الديني" في مدينة "كفر سابا"، الذي وزع مناشير في شوارع المدينة يعلن فيها اسم المطعم وان صاحبه ليس يهوديًا، على ما قد تفضي اليه هذه الحملة من مخاطر على حياته وسلامة محله.

لقد بدأت نهاري في المحكمة العسكرية في عوفر ثم انتقلت الى جامعة القدس المفتوحة في نابلس ومؤتمرها حول دعم الاسرى الفلسطينيين، فلماذا انهي مقالي بممارسات الفاشيين ضد المواطنين العرب في اسرائيل ؟

ببساطة، لانني أرى العلاقة بين جميع هذه الاحداث عضوية ووطيدة؛ فكم قلنا ان الاحتلال الاسرائيلي هو السرطان الخبيث والفاشيين هم "مستعمراته" / نقائله المميتة وكم توقعنا ان ما يبدأ كارهاب للمستوطنين ضد الفلسطينيين هناك، مصيره ان ينتقل الى هنا، الى "الداخل" وعندها سنكون، نحن العرب، أول فرائسه وهو ما يحصل يوميًا.

ليس صدفة ما قاله القاضي عن جيل الصبية الشباب، لأنه يعلم انهم لا يعلمون مثلًا ان لايبوفيتش حذّر بعد مذبحة الحرم الابراهيمي، وقال: "إن باروخ جولدشتاين هو ممثل أصيل لقسم كبير من الشعب اليهودي.. " ، أو ان لايبوفيتش استشعر نشوء الفاشية بين اليهود حين قال قبل دهر : "عندما يؤمن الانسان بمبدأ ان "الدولة" او "الامة" او "الامن" وما الى ذلك، هي قيم عليا ، والولاء لها بدون شرط، هو فرض مطلق ومقدس، سيصبح هذا الانسان قادرا على اقتراف كل موبقة من اجل تلك الاهداف المقدسة، بدون تانيب الضمير . ان هذا الامر صحيح ليس فقط في حالة الانسان الالماني، بل في حالة الانسان اليهودي ايضًا اذا وصل الى درجة تأليه الدولة، ولنا في كفر قاسم اثبات على ذلك".  فمتى ومن يعلم أجيال ما بعد الاحتلال، هناك وهنا، عظات التاريخ هذه ودروسه ؟ وهل تعرف اجيال اليوم، هناك وهنا، من هو باروخ جولدشتاين ومن هم وارثوه؟ 

اخشى ان يكون الجواب مطبوعًا على حمرة كراسي قاعة المؤتمر الخالية.     

حكمة التمرد في اليوم العالمي للفلسفة/ د زهير الخويلدي



" الإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يرفض أن يكون على ما هو عليه"

ألبرت كامو، الإنسان المتمرد، 1951


ما هو التمرد؟ يبدأ التمرد عندما يرفض الفرد قبول موقف يعتبره، عن حق أو خطأ، غير عادل. وهكذا فإن الطفل الصغير الذي يرفض الذهاب إلى الفراش هو بالفعل، بمعنى ما، فيما يسمى بـ "روح التمرد"، لأنه يعترض على نظام قائم، والذي يرفضه باسم الفكرة التي لديه، بلا شك. مرتبكًا جدًا ولكن أيضًا بصدق شديد، من مصلحته الخاصة، وبالتالي يعاني من شعور بالظلم. لكن تمرد الكبار يختلف عن تمرد الأطفال فقط من خلال شدته، وأهدافه وعواقبه، ولكن ليس من خلال الشعور بالظلم. وهذا هو السبب في أن التمرد ليست عصيانًا فحسب، بل هو مصحوب، في شكل وتحت آخر، بمطالب، لأنه ينوي إنهاء "النظام" الذي يعتبر غير عادل. " الانسان متمرد؟ هو الانسان الذي يقول لا "، هكذا قال ألبير كامو في الانسان المتمرد. لكن كامو يضيف على الفور أن الانسان المتمرد يقول أيضًا "نعم"، بمعنى أنه يسعى إلى تقديم شيء ما والحفاظ عليه، مثل الحقوق أو الكرامة أو ببساطة حريته. لكن من خلال الدفاع عما ينوي الحفاظ عليه بهذه الطريقة، يخاطر المتمرد أحيانًا بخسارة أكثر من ذلك بكثير، حتى حياته في حالات معينة: سيقول على سبيل المثال "ان يعيش وافقا بدلاً من الموت خاضعا على ركبتيه"، لا يزال كامو يتذكروتذكرنا بذلك حياة المتمردين العظماء الذين كان سبارتاكوس أو توسان لوفرتور واحدة منهم، فإذا كان كل تمرد ناجم عن رفض الظلم، فهل هذا يعني أن كل تمرد شرعي؟ على الاغلب لا. يمكن أن يحدث بالفعل أن يتمرد الناس باسم مصالحهم الخاصة وضد المصلحة العامة، أو على الأقل دون الاهتمام بالمصلحة العامة، وهو بلا شك لا يخلو من تبعات على شرعية تمردهم. ومع ذلك، إذا كان معظمهم لا يحصى التمردات التي تميز تاريخ البشرية، في جميع القارات، تثير الإجماع تقريبًا التعاطف والإعجاب، وحتى الرغبة في الإلهام منها، لأنها تذكرنا أنه حتى لو كانت المجتمعات البشرية ولا تزال مسرحًا للعديد من الظلم، لدى البشر القدرة، بشكل جماعي وأحيانًا فرديًا، على معارضتها. يُظهر التاريخ أيضًا أنه بينما تتغير المجتمعات، تتغير أيضًا الطريقة التي يتمرد بها الناس ضدها. على عكس المجتمعات القديمة أو العصور الوسطى، على سبيل المثال، لا تقدم المجتمعات الحديثة سوى القليل من الفرص لحمل السلاح ضدها، ليس لأنها ستكون أقل ظلمًا من كون المؤسسات القادرة على إثارة الرغبة في التمرد الموجودة بشكل متزايد: لا يمكننا إشعال النار في الرأسمالية، على سبيل المثال. لذلك رأينا ظهور أنواع من التمردات اللاعنفية في المجتمعات الغربية، ولا سيما في إطار ما يسمى "العصيان المدني"، الذي وضع نظريته هنري ديفيد ثورو ووضعه غاندي أو مارتن لوثر كينج موضع التنفيذ. إذا كان هناك أي من المتمردين. اليوم، يبدو أن حركات مثل "الحاصدين المتعمدين" أو "العصاة"، في التعليم أو في أي مكان آخر، تشكل أشكالًا من الثورات اللاّعنفية التي تتكيف مع ما يسمى بالمجتمعات الديمقراطية. هل يجب أن يصبح التمرد ثورة؟ الفرق بين الاثنين هو أن التمرد يهدف "فقط" إلى إنهاء الاضطهاد، وبينما تسعى الثورة الى الغاء عبودية المتمردين. من ناحية أخرى، يطمح الثوار إلى استبدال النظام القديم بنظام جديد، في أغلب الأحيان من خلال السعي إلى أخذ زمام المبادرة. والسؤال المطروح إذن هو ما إذا كانت التمرد يمكن أن يكون كافيا لوضع حد للظلم، أو، على العكس من ذلك، يجب أن يتحول إلى ثورة. من المنطقي الافتراض أنه إذا لم تكن الثورة سوى إنكار لنظام قديم، دون تأسيس نظام جديد، فمن المرجح أن يعود الظلم. لكن ربما يكون تاريخ البشرية، بطريقة ما، تاريخ الثورات والتمردات . إذا لم نعد في الوقت الحاضر نؤمن كثيرًا بالتمرد، فإن الكثيرين يعتبرون التمرد والمقاومة هي العلاقة الوحيدة بالعالم التي تستحق الروح الحرة. أن تكون حراً يعني أن تكون قادراً على قول لا. لا ينبغي الاستسلام للعالم كما هو. إنها حتى هذه القدرة على قول لا للعالم، لتغيير الطبيعة والمجتمع والتي، وفقًا لمفهومنا الحديث، من سمات الإنسان المتمرد. هذا هو أحد أسباب عدم التقيد بحكمة الرضا كمثال حديث. لأن الرضا يتكون أولاً وقبل كل شيء من قول نعم للعالم. الحكيم في سلام لأنه لم يعد في صراع مع نفسه أو مع العالم. فهل يجب أن نعارض "لا" للمتمرد مقابل "نعم" الحكيم؟ هل انفصال الحكماء شكل من أشكال اللامبالاة التي هي ببساطة هروب من مأساة الوجود البشري؟ على العكس من ذلك، أليس هذا الانفصال هو الحرية الداخلية فيما يتعلق بردود الفعل الانفعالية، وهي شرط كل فهم وكل حب عادل؟ هل موقف قبول السلبية الحكيمة، أم أنه، على العكس من ذلك، شرط لا غنى عنه للعمل الصحيح؟ يجب ألا نخلط بين القبول والاستقالة؛ القبول، هنا، هو الاعتراف بما هو عليه، والاستسلام لما هو واضح، وهذا يعني عدم أخذ رغبات المرء على أنها حقيقة. أليس من الأفضل أن نتصرف على أن نكون ساخطين؟ يخبرنا الرواقيون أن الحكمة تتكون من بين أشياء أخرى في معرفة كيفية التمييز بين ما يعتمد علينا وما لا يعتمد عليه. يمكننا بالطبع التمرد على ما لا يعتمد علينا، ضد الطقس على سبيل المثال ... ولكن ما الذي سيتغير، إن لم يكن ليجعلنا غير سعداء؟ من ناحية أخرى، ما يعتمد علينا، الأمر متروك لنا في الرغبة في ذلك والقيام به (حتى لو كانت النتيجة، فإنها لا تعتمد دائمًا علينا بالكامل؛ ولهذا السبب، إذا كانت الحكمة تفترض الحزم في التصميم، يعني أيضًا الانفصال عن النتيجة). العمل هنا يعارض رد الفعل. تتطلب الحكمة أكثر من تمرد، إنها تتطلب ثورة بالمعنى الأول: العودة إلى الذات. العودة إلى الذات، أي التساؤل عما يعتمد علينا وما لا يعتمد عليه، ولكن أيضًا إدراك تحيزاتنا وعواطفنا حتى لا نكون ضحايا بعد الآن، ونعيش في الحاضر. ألا يعني التمرد المجازفة والمخاطرة؟ وما تبعات هذا السلوك القوي الذي ينخرط فيه المرء للتعبير عن رفضه؟


قد يبدو أن التعريف الأساسي هو أن المخاطرة تعرض نفسك للخطر، في حالة فقدان الاستقرار، والتأمين. في الواقع، يبدو أن هذا يشير إلى الرغبة في الخروج من المعلوم، والمتقن (أو المفترض أن يكون كذلك)، لوضع نفسه في حالة من عدم الاستقرار، والاعتماد على موقف خارجي. في الواقع، يعتمد مفهوم المخاطرة على تصور الشخص لفقده السيطرة على وضعه. يمكن لأي شيء أن يكون محفوفًا بالمخاطر: عبور الشارع، والنزول على الدرج، والاستمرار في العيش على هذا الكوكب الذي يمكن أن يضربه نيزك عملاق في أي لحظة! لذلك لا توجد مخاطر صفرية. العيش هو المخاطرة بحياتك. ومع ذلك، عندما يواجه الفرد الاجتماعي الغربي خطرًا غير مختار، أو تحت تهديده، فإنه يحمي نفسه بالتأمين، إن لم يكن من المخاطر، على الأقل من العواقب المادية للمخاطر. بل إنه ملزم بذلك بموجب القانون، حيث يشكل الإنسان خطرًا على الإنسان. يبدو أن الهدف هو أن المخاطرة الوحيدة التي يمكن تحملها أو قبولها هي المخاطرة المقررة، "المجازفة".


   في هذا المجال، من المقبول عمومًا أنه يمكن القول إن الخطر يقاس وفقًا لمعرفتنا الجماعية والفردية بالعالم من حولنا، أو على العكس من ذلك يُعلن أنه مجنون. لذلك، فإن تقييم المخاطر فيما يتعلق بوضعنا الأولي هو الذي يأخذنا من الخطر الضروري (علينا أن نعيش بشكل جيد) إلى الخطر الطوعي المقرر. قرار المخاطرة أو عدم المخاطرة يوازن بين الحصافة من ناحية والتهور من ناحية أخرى عشوائيًا). تتطلب الحكمة، أم الأمان، الحفاظ على الذات في كل شيء وتجنب الخسارة من خلال المخاطرة ما اكتسبه المرء في الوجود، وفي المقام الأول الوجود نفسه. من ناحية أخرى، فإن التهور يجعل المكاسب المحتملة عواقب ويضع في المركز تأكيد الرغبة أو الميل المباشر للذات ("حيث لا يوجد تأكيد، فلا يوجد تهور" جي جي روسو).    إن تقييم المخاطر وبالتالي نسبة الحكمة والتهور في المخاطرة أو رفضها يبدو أنه التوازن الصحيح بين اللامبالاة القاتلة والجنون المدمر. الإفراط في الحذر سيجعل المرء خاليًا من الاختيار ومحرومًا من الطاقة والحركة. على العكس من ذلك، فإن أي رجل طائش لا هوادة فيه سيخاطر بحياته في أي لحظة لأدنى نزوة.   من الضروري أيضًا تحديد متى تكون المخاطر حقيقية و / أو متناسبة. ما هي العلاقة بين المخاطرة التي يتخذها متداول وول ستريت الذي يستثمر رأس مال مجموعة مصرفية بالكامل، بما في ذلك معاشات ومدخرات صغار المساهمين، على أساس الحدس، وتلك الخاصة بالفرد الذي يغرق من جسر بروكلين؟ لمرشح انتحار أو مشى على حبل مشدود فاقد للوعي؟ لا شك أننا سنبدأ الحديث عن الشجاعة بدلاً من التهور عندما تكون المخاطرة مبنية على القيم الأخلاقية أو الأخلاقية الجماعية: إنقاذ حياة المرء أو حياة الآخرين، والذهاب إلى علاج المدنيين الجرحى في قطاع غزة تحت القصف. ، ... من ناحية أخرى ، سيكون الجبان هو الشخص الذي سيرسل قافلة أخيرة من اليهود إلى وفاتهم في أغسطس 1944 خوفًا من استياء سلطته الهرمية.   لا يمكن أن يقترن الحذر ورفض المخاطرة بشكل عام إلا بنظرة رجعية وخوف من أي شيء يضع الموضوع في مسار جديد وغير معروف. إنها تستند إلى تجربة الخوف والحفاظ على ما يعتقد أنه "مكتسب بالفعل". كيف تتخيل بيكاسو أو مكيافيلي أو رامبو يتحرك بحكمة؟ لكن في الوقت نفسه، المخاطرة الطائشة، المحكوم عليها بالفشل، أو طعم المخاطرة على أساس الرغبة في وضع نفسه في حالة تمزق افتراضي مع الحياة (تسلق K7 بمفرده دون التزود بالوقود؟) ، للعب كل شيء على لفة النرد ، تدعو أحيانًا إلى التفكير في أن الكائن لا يخشى الشعور بالحياة. في الختام، على الرغم من أن الحكمة ورفض المجازفة يبدو في البداية أنهما مفيدان للحفاظ على الوجود، إلا أن المخاطرة التي يبدو أنها تكمن في الإبداع والطاقة والعمل، باختصار: "العيش"، ضد الاتباع، اللامبالاة، التخلف، إضفاء المثالية على المستقبل. إذاً، ألا تكون المجازفة المثالية، والشجاعة تنطوي على قبول الشكوك وتحاول دائمًا الذهاب إلى نهاية أسئلتك بدلاً من الاكتفاء بما يبدو أنه قد طُرح في البداية؟ والا يحتاج التمرد الى الايمان بالذات والثقة بالنفس؟


من العلوم أن الثقة هي أولاً وقبل كل شيء الاعتراف بأن الأمر ليس متروكًا لك بالكامل. أن نعهد بشيء ما، أن يثق المرء في نفسه، أن يثق: إنه دائمًا بطريقة ما أن يتكئ على شيء آخر غير نفسه. أما بالنسبة لمن يمنحها أو يعطيها، فإن الثقة تحتوي إذن على اعتراف (قد يظل ضمنيًا) بالاعتماد، والهشاشة، وانعدام السيطرة. هل هذا الاعتراف بعدم السيادة يرقى إلى الاعتراف بالدونية، والخضوع، وإنكار معين لحرية المرء؟ الثقة، أليس هذا طريقة للانحناء؟ لرؤية هذه النقطة بشكل أكثر وضوحًا، يجب على المرء أن يلجأ بلا شك إلى متلقي الثقة ويتساءل عن طبيعتها. لأي نوع من الوجود هو الثقة؟ دعونا نطرح هذا الاقتراح: لا يمكن للمرء أن يتحدث حقًا عن الثقة إلا إذا كان للكائن الذي يتحدث إليه المرء القدرة على تقرير سلوكه وكلماته وأفعاله؛ يمكنه أن يكذب، ويخون، ويعطي لنفسه مظهرًا يخفي نواياه الحقيقية، ولا يمكنه أيضًا فعل ذلك؛ واختيار أحد هذين الموقفين متروك له تمامًا. وهكذا تكون الثقة، وفي الوقت نفسه، إيمانًا ببرّ الآخر وصلاة موجّهة إلى الآخر للحفاظ على هذا البرّ، الذي من حقه دائمًا أن يتخلّى عنه. من هذا سيتبع، من بين أمور أخرى، نتيجتان. أولاً، إذا اعترفنا بأن الآخر، مهما كان بعيدًا ولفترة طويلة سار في طريق الازدواجية أو اللامسؤولية ، يمكنه دائمًا أن يجد أو يستعيد بره ، فيجب علينا أيضًا أن نعترف بأنه لا يوجد أحد غير جدير بالثقة على الإطلاق. هذا الأخير، بمعنى ما، سيكون مستحقًا للجميع، بدلاً من منحه لقلة في ظل ظروف معينة. ثانيًا، الثقة ليست تنازلًا عن حرية الفرد لنفسه، بل هي اعتراف وتأكيد لحرية الآخر؛ بل أكثر من ذلك، من الصعب أن نرى كيف لن يتم تنفيذ هذا الاعتراف بحرية. بالايمان ننحني للآخر جيدا. لا تفقد شيئًا من عظمتك بالاعتراف بعظمة الآخرين، على العكس من ذلك. لذلك، فإن الثقة هي الاعتراف بأنه ليس لديك كل شيء تحت السيطرة. ليس بسبب نوع من عدم الانقياد للأشياء أو الأحداث، ولكن بسبب الحرية غير القابلة للاختزال للناس. توضح الثقة أن الافتقار إلى الإتقان ليس دائمًا علامة على النقص. يسعى العالم الحديث إلى إزالة عجزنا عن الأشياء، من خلال المعرفة العلمية والكفاءة التقنية؛ لكن ألا يحاول أيضًا ترك أقل مساحة ممكنة لهذا الشكل الآخر من العجز، الذي يسكن الثقة، والذي يهم الناس هذه المرة؟ إن الميل الأكثر حزماً للتعامل مع أي مشكلة من الناحية القانونية، تضخم العلاقات التعاقدية الذي يثبط المخاطر من خلال ترك إمكانية اللجوء إلى المؤسسات، أليست هذه مجرد بعض العلامات؟ إنه انعدام ثقة عميق يبدو أنه يشكل خلفية العلاقات الإنسانية اليوم من نواح كثيرة ويؤثر بشكل سلبي على استقرار المؤسسات وازدهار الدول. إذا كان الأمر كذلك، ألا يجب أن نخشى اختفاء أهم العلاقات الإنسانية، مثل الحب (الذي لا يقتصر على الحب فقط) أو الاحترام (الذي لا يقتصر فقط على تركه وحيدًا)؟ فهل يمكن تصور مثل هذه العلاقات بدون ثقة؟ واذا كان الانسان كائن الرفض والتمرد فالمطلوب هو معرفة ضد من يتمرد وبماذا يتمرد ومن أجل ماذا يتمرد؟

فلسفة مبسطة: المنطق مقابل الوحي/ نبيل عودة




كلمة ابستمولوجيا- نظرية المعرفة (بالإنجليزية - Epistemology) تستعمل للدلالة على علم المعرفة. وهي مؤلفة من جمع كلمتين يونانيتين: logos بمعنى دراسة وepisteme بمعنى: معرفة. أما في العربية، فاختلف العلماء على استعمال كلمة علم كبديل عن المعرفة. 

فلاسفة الغرب أطلقوا عليها تعريف اضافي بانها "دراسة نقدية للمعرفة". اما "علماء العرب" (معظمهم شيوخ دين يسمون ب "العلماء") فاختلفوا على استعمال كلمة علم كبديل عن المعرفة لأنهم "بانفتاحهم الهائل" يتقيدون بعلمين فقط: علم قديم هو علم الله، وعلم محدث وهو مكتسب عن طريق التعلم (اقرأ التلقين) وكفي الله العرب وعلمائهم شر علم المعرفة لمليون سنة أخرىّ!!

هذا الموقف يطرح إشكالية العلاقة بين المنطق المعرفي والوحي كطريقة للمعرفة!!

نحن في هذه الحلقة أمام فرع فلسفي يتناول مضمون وحدود المعلومة، بإطار أسئلة مركزية: ما هي المعلومة؟ كيف تكتسب؟ وما هي العلاقة بين الواقع والمعلومة؟ 

تاريخ الفلسفة مليء بمذاهب مختلفة ومتعددة ومتناقضة حول المعرفة.بدءا من الفلسفة الإغريقية وبأبرز فيلسوف سقراط الذي كان يعتقد بأن فطنة الكائن البشري إنما علَّتُها تلك الروح العاقلة القوَّامة على الجسد ويعتبر سقراط أول منظر للعقلانية ومؤسس علم الأخلاق.

فلسفة المعرفة عند الفارابي (870-950)

 لم يضع الفارابي نظرية خاصة ومستقلة في المعرفة الإنسانية، أفكاره في نظرية المعرفة جاءت منثورة التوزيع بين طيات مؤلفاته. 

في كتابه "الجمع بين رأي الحكيمين" يكتب على إن المعرفة التي تحصل عليها النفس البشرية تكون عن طريق الحس. فالحواس هي إدراك الجزئيات، ومنها تحصل الكليات التي هي التجارب على الحقيقة. حتى العقل عند الفارابي ليس شيئاً غير التجارب وكلما كانت هذه التجارب أكثر كانت النفس أتم عقلاً.

مثلا ديكارت الذي يعتبر أبو الفلسفة الحديثة شكك في المعرفة الحسية سواء منها الظاهرة أو الباطنة، وكذلك رفض المعرفة المتأتية من عالم اليقظة، وله قول يعبر عن فلسفته للمعرفة: "كلما شككت ازددت تفكيرا فازددت يقينا بوجودي".

الماركسية أحدثت قفزة في نظرية المعرفة ببداية طريقها، النهج كان التحرر من الوعي الإيديولوجي المقلوب. والطريق إلى ذلك هو قلب المقلوب وهذا بالضبط هو المقصود بعبارة ماركس الشهيرة: " ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم الاجتماعي، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم ".

 بهذا القلب للعلاقات الواقعية المقلوبة، يكون ماركس قد أحدث ثورة هامة في نظرية المعرفة البشرية. عن طريق هذه الثورة المعرفية الجذرية، استطاع ماركس الانتقال من دائرة الايديولوجيا إلى دائرة علم التاريخ... لكن علم التاريخ الماركسي المشهور أكثر بصيغة المادية التاريخية خلفته التطورات التاريخية وراءها. وهو موضوع يحتاج إلى تضافر جهود واسع لفهم إشكالية نظرية التاريخ عند ماركس.

النقاط الأساسية التي تعالجها نظرية المعرفة هي العلاقة بين طبيعة المعلومة وبين الانجازات الحقيقية، الصادقة والمبررة. موضوع آخر هو هل يمكن بشكل عام ان نعرف شيئا، أي هل الشك هو صحيح والى أي مدى؟

إليكم قصة حاولت فيها ان انهج على أساس نظرية المعرفة الديكارتية والتي تتطلب الحصول على مثبت يقيني حول الجريمة التي يحاكم على أساسها المتهم، بامتحان صعب عن طريق التفكير الديكارتي الذي يقتضي ان يكشف إذا كان يوجد شيء ما يمكن ان يكون واثقا منه، من هنا فضل ديكارت العقل المستقيم عن العقل الإلهي كمصدر للمعرفة.. السؤال القضائي هنا ليس كون المتهم الذي يحاكم هناك شك ما بتهمته، إنما هل يوجد إثبات مرجح انه ارتكب الجنحة؟ 

نجح الدفاع  وفشل المتّهم !!

وجهت لصالح تهمة قتل مراد عمداً. كانت التهمة واضحة ومثبتة بالتأكيد في الكثير من تفاصيلها. هناك شهود ادعاء سمعوا التهديد وشاهدوا الضحية برفقة المتهم في ليلته الأخيرة. بعدها لم يعد مراد إلى البيت واختفت آثاره.

المشكلة التي واجهت المحكمة ان جثة مراد، الذي من المفترض انه قتل حسب الادعاء، لم يعثر عليها. مراد اختفى والجثة غير موجودة. ليس من عادة مراد ان يتأخر عن البيت بدون اتصال للتبليغ عن سبب تأخره، كما يقول أبناء عائلته.

إذا وقعت جريمة قتل فأين الجثة؟ أين أداة القتل؟ 

كل الدلائل والشهادات المجموعة تشير إلى ارتكاب جريمة قتل.. ولكن لا أثر لارتكاب جريمة، لا الأداة ولا الجثة... ولا اعتراف من المتهم!!

صالح قال انه سيخفي مراد عن الوجود. وهذه الأقوال مؤكدة من عدد من شهود الادعاء. وكانت محاولة من صالح لقتل مراد في السابق. عوقب عليها صالح بالسجن لمدة سنة ونصف السنة، تحت بند الاعتداء العنيف. ولكن رغبة صالح بإخفاء مراد من الوجود لا تعني تلقائياً انه قتله. 

أين اختفى مراد إذا كان حياً؟ 

كل الإعلانات في الصحف، والبحث عنه في الأماكن التي اعتاد على ريادتها لم تسفر عن شيء. 

وجد مع صالح مسدس، تبين انه مرخص، أثبت الكشف ألمخبري انه استعمل قبل فترة تقع ضمن الفترة التي اختفى فيها مراد. بل ووجدوا بقعة دم صغيرة جداً على ملابس صالح، بيّن فحص الحمض النووي انها من دم مراد.

إذن شبهة ارتكاب جريمة قتل مسألة واردة. 

هل تكفي الأدلة التي بيد الشرطة؟

الشرطة تدعي انها إثباتات كافية لارتكاب جريمة، خاصة وان المتهم صالح، وحسب كل الأدلة، هو آخر من كان برفقة مراد.

صالح يصرّ انه أطلق رصاصتين أثناء الصيد عندما هاجمه خنزير برِّي وشهد على صحة أقواله صيادان كانا برفقته.

هل يمكن محاكمة قاتل بلا جثة بالاعتماد على دليل لم تثبت جهة استعماله في جريمة ما؟

لست رجل قانون لأجيب على هذه الأسئلة. إنما يهمني ما حدث فعلا في سير المحاكمة.

صالح حافظ على صمته وموقفه انه لا يعرف شيئاً عن مصير مراد بعد ان تركه في تلك الليلة، حيث التقيا وتصافيا عن خلافات الماضي، وقد شاهدهما الكثيرون سويةً يتضاحكان، كما أفاد صالح في أقواله وأكد ذلك شاهدان أيضا... 

أوكل الدفاع عن صالح لأحد أفضل محامي الجنايات.

النيابة العامة كانت واثقة انها عبر الدلائل التي تملكها، وعبر الشهود، بأن المحكمة ستدين صالح بالقتل عمداً. حتى بدون وجود الجثة، اعتماداً على وجود بقعة الدم على ملابس صالح... التي ادعى صالح انه لا يعرف كيف وصلت قميصه، لأن مراد كان معصوب الأصبع مسبقاً من جرح، وان وجودهما معا في تلك الليلة، التي شوهدا فيها سوية يتضاحكان، كانت إشارة واضحة إلى انتهاء الخلاف بينهما. 

محامي الدفاع أصرّ انه بدون جثة كل الدلائل بلا قيمة.. وتعتمد على تأويلات وليس على حقائق مثبتة. 

في جلسة التلخيص لجأ محامي الدفاع إلى مقلب معين ليثبت براءة موكله صالح. قال في مرافعة دفاعه: 

- المحكمة الموقرة.. اليوم سأفاجئكم. خلال دقائق سيدخل قاعة المحكمة من بابها السيد مراد الذي يُتهم موكلي بقتله. رجاء انظروا إلى مدخل القاعة، ها هو مراد يدخل.

نظر المحامي إلى مدخل القاعة، كذلك نظر القاضي. ووقف ممثل النيابة ونظر نحو المدخل. ونظر الحضور في المحكمة نحو المدخل. 

وبعد نصف دقيقة من الانتظار دون ان يظهر مراد، تابع محامي الدفاع:

- بالطبع لم يدخل أحد.. أوهمتُكم بأن مراد سيدخل إلى القاعة، لأنكم غير واثقين من مقتله. كلكم نظرتم نحو باب المدخل. كلكم توقعتم ان يدخل مراد، لذا أدعي أمامكم، انه في هذه المحكمة، يوجد شك معقول بأن أحدا ما قُتل. وانأ أصر ان تصدر المحكمة قراراً ببراءة موكلي.

 جاء يوم إصدار قرار الحكم. دخل القاضي، جلس مكانه، قرأ تفاصيل الملف ورقمه، ثم قال انه قرر إدانة المتهم صالح بقتل مراد عمداً...

لم يستطع محامي الدفاع الصبر:

 -كيف يجوز يا سعادة القاضي ذلك ، ألم تنظروا جميعكم إلى باب المحكمة توقعاً بدخول مراد؟

رد القاضي :

- حقا.. هذا صحيح. كان لدينا شك في القتل، نظرنا كلنا نحو باب قاعة المحكمة. لكن المتهم صالح هو الوحيد الذي لم ينظر نحو الباب!!