في مقال للكاتبة اللبنانية سوسن الأبطح ورد هذا الحكم على الكتابة والقراءة*: "الكتابة عناء، والقراءة حرفة. وأكبر ظلم يرمى به الأديب هو اختصاره بجزئية صغيرة، أو حبسه في قمقم ضيق، بينما هو يرى وسع الفضاء". تشير هذه الفقرة إلى معاناة الكتّاب مع القرّاء، هؤلاء القراء الذين لم يكونوا بطبيعة الحال يرون الصورة الكاملة للكاتب. إنهم يكوّنون انطباعاتهم عن الكتّاب من خلال جزئيات معينة.
في لقاء جمعني ببعض المعلمين على هامش إحدى الدورات التدريبية، يضعني أحدهم، وكثيرون معه، في خانة الكاتب "الأيروسي"؛ قليل الحياء والدين، وأنني مجرد شخص باحث عن الشهرة والنساء، فأنا باختصار كاتب "جنسي نسونجي". وبذلك اتخذت صفة الكاتب سيّئ السمعة الذي لا يكتب سوى في النهدين وفي الكلوت والكمامة وفي التفاحة وفي الأعضاء الجنسيّة. إن هؤلاء لم يطلعوا على كل ما كتبت، ولا حتّى على بعضه. نشرت مئات المقالات السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية والنقدية، والقصائد السياسية، والقصص الاجتماعية، وأصدرت أربعة وعشرين كتاباً ليس فيها شيء مما يدّعون.
من كل هذا الإنتاج الضخم المتنوع لم يرَ هذا المعلم إلا "الكمامة والكلوت" و"النهدين" و"التفاحة ومركزها". وعندما سألته ألم تقرأ لي شيئا غير هذا؟ قال: أنا لا أدخل صفحتك، ولا أقرأ. هم يرسلون لي هذه المواد وأقرؤها. فإذا لم يقرأ المقالات والمواد الأخرى المنشورة في صفحتي على الفيسبوك، فهل سيقرأ كتبي أو مقالاتي في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية الوازنة؟ أنه يقرأني فقط ليعزز الصورة التي شكلها عني في ذهنه المريض.
إذاً، كما تقول سوسن الأبطح في المقال ذاته: "فالحكم على الأدباء غالباً ما يلتصق بهم بسبب كليشيهات تدور حول كتاباتهم، أو لغاية في نفس جماعات سياسية أو دينية، تثير الغبار من حولهم". حدث مثل هذا مع طه حسين ومع نجيب محفوظ ومع حيدر حيدر ومع آخرين.
إنه لأمر مزعج بالتأكيد، ويشعر الكاتب أنه ضحية للانتقائية والشعبوية المؤذية وللصورة النمطية عنه، تلك الصورة التي كوّنتها العقلية المنحازة التي تحاربه في الخفاء وفي العلن.
أذكر أنّ شيئا من هذا تم توظيفه من أجل تشويه صورتي ككاتب جادّ، فعلى الهامش من هامش كتابتي لمقال نقدي عن بعض الكتّاب، وقد أصدر كتاباً تعيسا ورديء الأفكار، ولم يعجبه ما كتبته عنه، فلا يعرفني بهوامش هوامشه في رده على واحد من تعليقات القراء، قرائه المنحازين معه، إلا بقوله عني "صاحب الكلسون والكمامة". لكم أن تتصوروا هذا الاختزال المخلّ بشرف الكتابة من شخص يفترض أنه يفهم ما معنى الكتابة.
لا بأس في ذلك، فإن عذرت القراء، وما يُصبّ في عقولهم وما يتسرب إليهم بالعمد أو بالمصادفة من مواد، لا يمكن أن يكون هذا الكاتب معذوراً؛ فهو يعرفني جيّدا، ويعرف ماذا أكتب. فكيف له أن يختزلني بهذه الصورة التي تحمله هو أولا على الإخلال بالمنطق والانفعال؟ إنه عيب ثقافي وأخلاقي مزدوج، ومثله كثيرون في المجتمعين الثقافي والتربوي ينطبق عليهم قول الشاعر:
إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ** مني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
أعود لمقال الدكتورة سوسن الأبطح، ولما نقلته عن الكاتب عبد الرزاق قرنح، قوله: "اقرأوني لعلكم وجدتم شيئاً آخر". لقد مورس على قرنح ما يمارس على الكتاب أجمعين من حصر وتشويه. هذا القول ليس موجّها للكاتب الذي تعمد تشويه الصورة، لكن للقراء جميعاً.
لكنني أعتقد أن القارئ ليس باحثاً، ليستقصي الكاتب وكتاباته كلها، بل يظل خاضعا- شئنا أو أبينا- إلى تلك الصورة التي رُسمت له، رسمها الــ "هم" عنه، دون أن تكون صحيحة، إذ إن عرض جزء من الصورة والتركيز عليه هو نوع من التشويه. علينا أن نرضى به ونتعامل معه باحتمال، لكن أين الكتّاب الآخرون، والباحثون، والنقاد؟ لماذا لا يقدمون الصورة كاملة عن الكاتب؟
أعتقد أننا في ظل هذه المنظومة التي تحكمها السرعة، والأهواء، والتكنولوجيا، والشللية الثقافية، كلها عواملُ ووسائلُ لن تساهم في رسم الصورة الكاملة لأي كاتب مهما كان، "لقد وقعنا في الفخّ" فعلاً، ولا منجاة من ذلك، وتم تأطيرنا في إطار لا أظن أن أحدا كان قادرا على كسره، وكما يقول المثل الشعبي الفلسطيني "إن طلع صيتك حط راسك ونام"، فها هو نزار قباني، كتب في السياسة أكثر مما كتب في الغزل، لكنه محشور ومحصور في زاوية المرأة ونهديها. ولن تنجح قراءات القراء في شعره السياسي ومؤلفاته الأخرى إلا أن تراه شاعرا للمرأة، كما لن ترى محمود درويش إلا شاعرا للمقاومة على الرغم من أنه ابتعد منذ مدة طويلة في أشعاره وحياته ونهجه وأفكاره عن أن يكون شاعر مقاومة، بل ربما أصبح أقرب إلى الشاعر المدجن والمطبّع الذي يسير في جادّة لا تسير معه فيها الجماهير الباحثة عن التحرير والمقاومة. هذه الصورة وإن وجدها القراء في درويش أو في نزار أو في غيره من الكتاب، لا تستقر في مخيلتهم ولا على ألستنهم عندما يريدون الحديث عن أحدهم وتصنيفه ضمن الصورة المستقرة في الأذهان.
يا ليتنا نستطيع تغيير الصورة أو تحسينها على أقلّ تقدير. ويا ليتنا قادرون على الوقوف في وجه الغوغائية الثقافية والشعبوية القرائية والعبثية في التصنيف. إنها إحدى المعضلات الثقافية التي ليس لها حلّ على ما يبدو، عندنا وعند غيرنا، فكأنّ هذا التبسيط وهذا الاختزال مريح من أجل ألا يذهب العقل بعيداً في التفكير.
* من مقال بعنوان "لماذا لا يفوز العرب بالجوائز؟"، الموقع الإلكتروني لجريدة الشرق الأوسط، نشر بتاريخ: 12/11/2021.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق