"هذه القصص قد مهرها الكاتب بختمه الخاص، فأتقنها وبرع فيها وأجاد". بهذه الخاتمة على الغلاف الأخير، تنتهي المجموعة القصصية "شرفة زينب الجزار" للكاتب العراقي عائد خصباك، وصدرت في سلسلة كتاب مجلة ميريت الثقافية، الإصدار الخامس، (نوفمبر، 2021)، بالتعاون مع دار الأدهم، وهو التعاون الثاني بين المجلة والدار بعد الإصدار الرابع، (أكتوبر، 2021)، وتقع المجموعة في (126) صفحة، وتتكون من (35) قصة قصيرة.
قبل أن أقول ما أريد قوله عن هذا العمل الجديد، أودّ أن ألفت النظر إلى أن مجلة "ميريت الثقافية" تعيد الاهتمام بفن القصة القصيرة، هذا الفن الذي تراجع الاهتمام به في الفترة الأخيرة، بفعل عوامل تسويقية ترويجية لصالح الرواية، لكن هذا الفن ما زال موجودا، ويُكتب بحيوية. لتكون هذه المجموعة هي الثانية التي تصدرها ميريت بعد "دفاتر عائلية" للكاتبة العراقية إشراق سامي. بل إن ميريت تهتم كذلك بالشعر، هذا الفن الذي تراجع هو أيضاً، لكنه ظل أفضل حالا من القصة القصيرة، ومن يتتبع حركة النشر العربية يدرك ذلك.
خلا الكتاب الخامس لميريت، وهو كتاب غير دوري، من تعريف بالكاتب عائد خصباك، كما فعلت ميريت في الإصدارات السابقة، فمن هو عائد خصباك هذا؟ ينشر موقع المصري اليوم عن الكاتب عائد في مقدمة حوار أجرته معه: "عائد خصباك روائي وقاص وناقد عراقي كبير ينتمي لجيل الستينيات ممن عرفوا باتجاه الواقعية، ومن أشهر أعماله رواية "سوق الهرج" وهو (اسم سوق شهير في بغداد) وصدرت عن دار الهلال ودراسة مهمة عن القصة في الستينيات بعنوان "باب السيف".
هذه المعلومات من الضروري أن تكون مصاحبة للكتاب، كما فعلت "ميريت" سابقاً، فما الذي دعا المجلة ومحرريها ألا يضعوا شيئا من سيرة الكاتب؟ هل خافوا من أن تمتد صفحات الإصدار على أكثر من "126" صفحة. ربما. لا أعتقد أن شهرته كما يفهم من الطريقة التي قدمه بها موقع المصري اليوم هو السبب. على أي حال ها هي المجموعة القصصية بين أيدي القراء ومن أراد أن يعرف عن عائد فليعد إلى المواقع. كما فعلت.
ما يلاحظه القارئ في هذه المجموعة القصصية أنها مجموعة متناسقة في إيقاع قصصها وأسلوبها وطريقة كتابتها عدا القصص الثلاثة الأخيرة، فقد كانت هذه القصص نشازا في المجموعة من ناحية الشخوص والموضوع وطريقة الكتابة وطول السرد ووضوح الهدف. إنها قصص غير ممتعة على أيّ حال، بخلاف القصص الــ (32) الأخريات. تمنيت كقارئ ألا تكون هذه القصص ملحقة بالمجموعة وتنتهي عند الصفحة السادسة والتسعين حيث تنتهي قصة "الكشك"، فكل هذه القصص تسيطر عليها طريقة كاتبة واحدة، وفيها التقنيات السردية نفسها تقريبا، وفيها الموضوع السياسي أو الاجتماعي العراقي واضح، حتى الفكاهة والسخرية والمفارقات اللطيفة التي طبعت بعض القصص كانت تضفي على القصص مسحة من الجمال والشعرية المناسبة لفن القصة القصيرة.
لقد اتحدت تلك القصص في عناصر قصصية وسردية كثيرة، طبعت هذه المجموعة، لاسيما ندرة حضور المرأة في تلك القصص. هذا الإيقاع المتسق الذي أربكه القصص الثلاثة الأخيرة فكانت عن نساء، بأجواء غريبة عن أجواء تلك القصص الـ (32). إنه لأمر غريب فعلا أن تكون هذه القصص في هذه المجموعة.
لقد تم توظيف السخرية والفكاهة بطريقة عذبة، تدفع القارئ بالاندماج في تلك القصص وأجوائها، وربما دفعته للضحك أو الابتسام وأحيانا إلى أكثر من ذلك. لقد صنعت تلك القصص مواقف طريفة من العادي والبسيط والمهمّش، مواقف تدفع للتفكير بما وراءها، وتلفت النظر إلى كثير من المشاكل السياسية والاجتماعية في البيئة العراقية، وأحياناً تتجاوز البيئة العراقية ليصح تعميمها على البيئة العربية، "فكلنا في الهمّ شرقُ".
كما أن هذه القصص عدا الثلاثة الأخيرة قصص قصيرة واقعية في موضوعها وطريقة تناولها، وهي قصيرة في بنيتها السردية؛ لم تمتد على صفحات متعددة، وكانت مركزة ومكثفة، وتنبع جماليتها من هذا التكثيف.
اعتمد القاص في بعض القصص على شخصيات محددة، فكانت شخصية الأستاذ حسن حاضرة في غير قصة، وكذلك هادي، وجعفر، وحامد الهيتي. ربما جعل هذا الأسلوب القارئ يتابع مشاهد متعددة لتلك الشخصيات في عدة قصص، ما قرّب المجموعة في جزء منها إلى أن تكون متتالية قصصية، عدا وجود غير قصة أيضا تقصّ بضمير المتكلم، ما يمنح القارئ شعور أن المؤلف هو هذا السارد، مع أنه ليس شرطا من ناحية فنية الاتحاد بين الكاتب والسارد.
أما الفضاء المكاني لتلك القصص المقصودة في الحديث هنا في الاثنتين والثلاثين قصة فيسطر عليها المكان العراقي، وخاصة المقهى، ليحضر مقهى "الجندول" فضاء لعدة قصص، ما يقرّب هذه القصص مرة أخرى لأن تكون متتالية قصصية.
أما الملاحظة الجديرة بالتنبيه إليها في هذه القصص، فهي اكتناز تلك القصص بالمعلومات الثقافية فيما يتصل بالسينما والفن العربي والعالمي والغناء العراقي وورود أسماء للكتاب العرب. هذه المعلومات التي تبلور صورة للكاتب عائد خصباك تقول إنه مطلع على كثير من مصادر الثقافة الحديثة التي يوظفها بسلاسة وبراعة في المعمار الفني لتلك القصص، هذه الشخصية الهاضمة لكل تلك المعارف التي تبلور مع حسّ الفكاهة والسخرية صورة تقريبية للكاتب، لتؤكد الجملة التي افتتحت بها هذا المقال، وختم فيها المحرّر الكلام عن المجموعة على الغلاف الأخير: "هذه القصص قد مهرها الكاتب بختمه الخاص، فأتقنها وبرع فيها وأجاد". لكن دون أي اعتبار للقصص الثلاثة الأخيرة. فيا ليت أن المجموعة سلمت من هذا الخلل البنيوي الذي أضعف البناء الكليّ لمجموعة قصصية ممتعة حتى نهاية القصة الثانية والثلاثين، ولكن ربّما للمؤلف ولمحرّر السلسلة رأي آخر، ولعلّهما معنيان بإرباكنا نحن القرّاء، وليس فقط إمتاعنا. فللقصص هدف آخر غير المتعة في التذوق على ما يبدو.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق