كمهاجر،على الأقل، لا بد لي أن أشكرَ الصديق البروفسور بول طبر على اهتمامه بموضوع هجرةِ اللبنانيين وخاصة هجرتِهم إلى أستراليا.
فكتابه الجديد – بالإشتراك مع الأستاذ وهيب المعلوف – " الهِجرة وتشكّل النخبة السياسية في لبنان" ليس كتابَه الأول عن الهجرة، إذ سبق له أن أصدر كتابا بالعربية أسماه "الجاليات العربية في أستراليا" ، وكُتُب أخرى بالإنكليزية، مع آخرين، كما أنشأ في الجامعة اللبنانية الأميركية معهد دراسات الهجرة لطلاّب الماجستير والكتاب الذي بين أيدينا هو إحدى ثمرات تلك الدراسات.
الكتاب الذي نحتفل بإطلاقه الليلة، يتناول "ظاهرة تشكّل النخبة السياسية في لبنان بالعلاقة بشكل رئيسي مع الإغتراب اللبناني العائد من دون إغفال دور المغترب المقيم في الخارج" (لكن في رأيّ تعرّض لبعض الإغفال وسنعود لهذه النقطة لاحقا). يعتبر الكتاب نفسه أنه الأول من نوعه في تناول هذه الظاهرة بالعلاقة مع الإغتراب إذ في السابق كانت تُدرس من خلال العوامل المحصورة داخل الحدود السياسية والجغرافية للدولة_الأمة.
يتألف الكتاب بالطبع من مقدمة وخاتمة، تفصل بينها أربعةُ فصول.
حركة الكتاب مرتبطة بمحورين: المحور الأول هو المحور النظري/المفاهيمي، والمحور الثاني هو المحور التاريخي/ التطبيقي – إذا جاز التعبير- وهكذا نقرأ في المقدمة (ص 11) عن المحور الأول " يسعى هذا الجَهد وراء هدفين اثنين: أولًا، سد ثغرة في الأدبيات المتعلقة بالهجرة من خلال مفهمة أو طرح الدور الذي تؤديه الأخيرة ،كإشكاليةِ نظرية ،في عملية تشكُّل النخبة السياسية في البلد - الأم. وعن المحور الثاني نقرأ في الفقرةِ نفسِها "ثانيًا، تقديم دراسة معمقة عن دور الهجرة في تشكّل النخبة السياسية في لبنان وتبدّلها في فترة ما بعد الحرب (1990-2018").
وفي الجانب المفاهيمي تُشير مقدمةُ الكتاب إلى " أهمية بعض المفاهيم التي أرساها عالم الاجتماع الفرنسي بورديو،() كرأس المال الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي، وتحويل الواحد إلى الآخر في سياق تحليلنا تشكُّل أفراد من النخبة السياسية، كما في سياق تفسير عملية إعادة إنتاجها" ُوتُشير أيضاً إلى مفهوم "الحقل الدياسبوري السياسي" ومفهوم "التحويلات الإجتماعية" الذي سنّته بيغي ليفيت جرياً على مفهوم التحويلات المالية، والذي كما يقول الكاتبان " كان الدافع لدينا لاشتقاق مفهومين هما: "التحويلات السياسية" و"التحويلات الثقافية"، في تحليلنا جميع أنشطة اللبنانيين السياسية والثقافية في الخارج، والموجهة الى بلدهم الأم "(ص14). هذه المفاهيم تجد بعض تفصيلاتها في الفصل الأول، كما يُقدّم الفصل الأول أيضا مراجعة تاريخية نقدية لكل ما كُتِبَ في موضوع "مفهوم النخبة السياسية" ليخلُصَ الى "تعيين الثغرات" فيما كُتِب وليؤكد على " أهمية إدخال عامل الأنشطة العابرة للحدود الوطنية...في تفسير عملية تشكيل النخبة السياسية في لبنان وإعادة إنتاجها...".
في الجانب التاريخي/التطبيقي سيشرح الكاتبان، بالوقائع، كيف استطاع – أو لم يستطع في بعض الأحيان – المهاجرون المحصّلون رأس مال إقتصادي – وثقافي واجتماعي بدرجة أقل – لدى عودتهم إلى الوطن، أن يحولوا هذه الرساميل إلى رأس مال سياسي وصولا إلى حجز مقعد بين النخبة السياسية. وسيستند الكاتبان في ذلك إلى الوقائع التاريخية وهي محور الفصل الثالث والذي يقتصر على الفترة الممتدة من 1943 الى 1990 ، وعلى المقابلات الشفيهة المفتوحة (26 مقابلة) التي أجرياها مع أعضاء من النخبة السياسية اللبنانية الذين كان لهم تجارب متنوعة في الهجرة قبل أن يعودوا إلى لبنان ويدخلوا المعترك السياسي بين 1990-2018 وهي محور الفصل الرابع، ولنا بالطبع عودة إلى الفصلين المذكورين أعلاه.
أما الفصل الثاني فقد خُصّص " لعرض الدور المهم للإنتليجنسيا اللبنانية الاغترابية ومناقشته، ليس في النشاط السياسي المنظم في سياق نشوء دولة لبنان الكبير عام 1920 (أي إرسال تحويلات سياسية) فحسب، وإنما أيضًا في النشاط الثقافي والأيديولوجي (أي التحويلات الثقافية) المساهم في صوغ فكرة الوطن اللبناني في حدود لبنان الكبير،" على حساب الأفكار الأخرى المتداولة آنذاك ومنها أن يكون لبنان جزءا من "سوريا الكبرى" أو من دولة الملك فيصل آنذاك. ومن رموز ذلك الدور، بأفكاره المتنوعة، يوسف السودا، بولس نجيم، جبران خليل جبران ،ميشال شيحا، خيرالله خيرالله، جورج سمنة وسواهم. "وإذ لا يدخل هذا الفصل مباشرة في مناقشة الموضوع المركزي لهذا الكتاب" كما يذكر الكاتبان في رأس الصفحة 15 فإنني أكتفي بهذا المقدار حول الفصل المذكور.
قبل الدخول في متن الفصلين الثالث والرابع لا بد من توضيح المنهجية المعتمدة في الكتاب لاكتشاف دور الهجرة في تشكل النخبة السياسية في لبنان. تقوم تلك المنهجية على استكشاف ومعرفة الأمور التالية:
1. خلفية الشخص الإقتصادية والسياسية والعائلية
2. التجربة في بلاد الإغتراب والفترة الزمنية المنقضية في الخارج
3. المكاسب الإقتصادية وغيرها من المكاسب المتحصّلة في فترة الهجرة والتي يمكن تصنيفها حسب عالم الإجتماع الفرنسي "بيار بورديو" على أنها رأسمال اقتصادي أو اجتماعي أو ثقافي أو سياسي
4. العلاقة مع البلد الأم وأشكالها المتنوعة خلال المكوث في الخارج
5. العودة إلى البلد الأم وما رافقها من أنشطة متنوعة على طريق مراكمة رأس المال السياسي والإستحواذ بذلك على مكانة النخبة في لبنان
انطلاقا من تحليل المعطيات المستخلصة من الاستنطاقات والإستجوابات، آخذين كل حالة على حدة، سيتمكن الكاتبان في الفصلين الثالث والرابع من كشف أثر الهجرة في تشكيل النخبة السياسية في لبنان عبر تتبع مسارات الشخصيات الإغترابية التي أصبحت جزءا من النخبة السياسية لدى عودتها للبنان. سأترك للقارئ الكريم أن يتتبع ويستكشف تلك المسارات بنفسه وسأكتفي فقط بالمرور على بعض الكلمات المفتاحية التي يمكن حشرها في عبارة مفتاحية واحدة ربما من شأنها أن تساعد في فهم التمايزات في تلك المسارات. يمكن صوغ تلك العبارة على الشكل التالي: "مجال ومكان تحصيل الرأسمال الإغترابي ودوره وكيفية تحويله الى رأسمال سياسي لدى العودة الى الوطن وصولا الى حجز مقعد لصاحبه في النخبة السياسية."
أ. نوع الرأسمال الإغترابي المحصّل:
1. راس مال إقتصادي: حسين العويني، آميل البستاني ، الحريري، ميقاتي، عصام فارس، نعمة طعمة والياس بو صعب.
2. رأس مال ثقافي: شارل مالك، ناصر السعيدي، طارق متري وكميل ابو سليمان.
3. رأس مال إجتماعي: عبد الرحيم مراد (علاقته الإجتماعية بأفراد عائلته المهاجرين) .
4. رأس مال سياسي: سيمون ابي رميا، غبريال عيسى وبيار بو عاصي
5. مزيج من الرساميل.
ب. مجال تحصيل الراسمال:
وذلك له علاقة طبعا بنوع الرأسمال المحصل:
إقتصادي: تطوير عقاري، تجارة وخدمات، صناعة ، بنوك، إتصالات
ثقافي: التخصص والتعليم الجامعي في الفلسفة، في السياسية، في الطب، في الإقتصاد
ت. مكان تحصيل الراسمال:
إقتصادي: غالبا السعودية وافريقيا(نيجيريا،غانا، ساحل العاج)
ثقافي: غالبا اوروبا الغربية (فرنسا، انكليترا، مصر) وأميركا
ث. فعالية دور الهجرة في تبؤ المستجَوب مكانة النخبة السياسية:
1. اساسي- اقتصادي: حسين العويني، آميل البستاني، الحريري، ميقاتي، عصام فارس، نعمة طعمة والياس بو صعب
2. مساعد- ثقافي: وليد الخوري - جبيل (ورث بعض رأس مال سياسي حصّل رأس مال ثقافي في الإغتراب)
3. مكمّل: انطوان زهرة ( عمل في السياسة قبل الهجرة، الثروة كان لها دور مكمل في اختراقه النخبة السياسية)
ج. كيفية حصول التحويل من رأس مال المحصّل خلال الهجرة إلى رأسمال سياسي مفوض:
1. تحويل غير مباشر (أي عبر تقديم خدمات إجتماعية، تربوية، تعليمية، صحية للبيئة المحلية أو الوطنية والتي من خلالها يتحصّل على السمعة الطيّبة والشعبية الواسعة وهذا ما يسميه الكتاب ب "رأس مال سياسي شخصي" وعندما يتمكن المعني من دخول النخبة يكون قد حوّل هذا الرأس مال السياسي الشخصي الى رأس مال سياسي مفوّض): الحريري، فارس، ميقاتي، الصفدي
2. تحويل مباشر(أي دون المرور ب رأس مال سياسي شخصي): نعمة طعمة، ياسين جابر، مروان خير الدين والياس بو صعب.
ح. درجة المقعد المحصّل في النخبة السياسية:
1. قطب سياسي على مستوى طائفته والوطن – الحريري؛
2. سياسي بارز في مستوى طائفته والوطن – عصام فارس، ميقاتي؛
3. وزير طامح أن يكون رئيسا للوزراء- الصفدي، عبد الرحيم مراد؛
4. نائب- نعمة طعمة، ياسين جابر وأنور الخليل؛
5. وزير أو رئيس بلدية- ياسين جابر، أنور الخليل، مروان خير الدين؛ مارون دينا(جيلبير الشاغوري)
6. داعم سياسيين رئيسيين- جيلبير الشاغوري؛ (فرنجية، بري NBN )
7. طامح لكن لم ينجح- هنري إده.
هذا بالنسبة لما قاله الكتاب، أما في بعض ما لم يقله الكتاب – ودون التقليل أبدا من أهمية الكتاب وضرورته فيمكن الإشارة إلى ما يلي:
1. كان من الممكن للجداول التوضيحية أن تساعد القارئ على تكوين فكرة شاملة عن الكتاب بدرجة أقل من الجهد وهذا ما لم نعثر عليه في الكتاب.
2. عنوان الكتاب " الهجرة وتشكل النخبة السياسية في لبنان" يوحي – وقد أكون مخطئا – وكأن الكتاب سيتناول دور المغتربين ككل في تشكل النخبة السياسية في لبنان لنكتشف أن الكتاب يدور حول مسارات بعض الأفراد - مهما كبر عددهم – عادوا وتمكنوا من دخول النخبة السياسية بفعل رأس مال- غالبا إقتصادي - حصّلوه في الإغتراب‘ ولم يفرد الكتاب لدور المغتربين ككل إلا صفحات قليلة لا يزيد عددها عن عدد أصابع اليد الواحدة وذلك في العنوان الأخير من الفصل الأخير.
3. رغم الإشارات العابرة إلى التحويلات السياسية المتواضعة للمغتربين إلى بلدهم الأم لم يتطرق الكتاب إلى معوّقات الدور السياسي للمغتربين والتي قد يكون منها:
أ. رغبة النظام في إبقاء المغتربين بمنأى عن أي دور سياسي.
ب. النظام الإنتخابي الذي لم يخصّص حتى الآن بشكل عادل مقاعد نيابية للمغتربين.
ت. ضعف الروابط بين الجيل الثاني وما بعده مع الجيل الأول ولبنان.
ث. اقتصار العمل السياسي/ الحزبي الإغترابي على استنساخ الممارسة السياسية /الحزبية في الوطن.
لكن للأمانة إنّ محدودية هذه الدراسة لم تكن غائبة عن بال الكاتبين إذ ختما الكتاب بالأسطر الثلاثة التالية: "إن دور الهجرة في تشكل النخبة السياسية في لبنان هو بمنزلة ظاهرة منتظمة ومستمرة تستدعي مزيدا من البحث. وهذه الدراسة تطمح إلى أن تشكل حافزا للكتابة والبحث في هذا الموضوع في المستقبل".
4. ملاحظتي الأخيرة بالنسبة لما لم يقله الكتاب هي حول الفساد. وهنا أود أن أميّز بين الفصل الرابع والفصول الأخرى من الكتاب حيث يغلب هاجس المصلحة العامة على أغلبية الشخصيات التي تناولتها الفصول الأولى من الكتاب بعكس الفصل الرابع حيث تغلب المصلحة الشخصية.
فالخدمات المتنوعة، الإجتماعية والثقافية والرياضية والتعليمية وغيرها المقدمة من قبل معظم أصحاب رأس المال الإقتصادي، هل كانت تُقدّم كرمى لوجه الله وحبا بعباده أم كمعبر لدخول الحقل السياسي؟ وهل دفع الأموال من أجل دخول الحقل السياسي كان بهدف خدمة المجتمع وتطوره وتقدمه وتحرره... أم الهدف دخول جنة الفساد المصان من النخبة السياسية الحاكمة عبر إيداعات واستثمارات وتلزيمات وتوظيفات تدر عليهم أضعاف أضعاف ما صرفوه في سبيل تلك الخدمات أو ما دفعوه من تكاليف الحملات الانتخابية للإئحة التي ضمتهم؟ الكاتبان الكريمان أعلنا بوضوح في الصفحة 18 من الكتاب: " أن أي من النخب السياسية من ذوات التجارب في الهجرة في لبنان في فترة ما بعد الطائف لم تحاول يوما إصلاح البنية الطائفية للنظام السياسي اللبناني وطابعه الزبائني"..."بل إن النظام المذكور كان قد أعاد إدماجها وفق متطلباته البنيوية وجعلها بالإجمال تنتظم بحسب إيقاعه الخاص وتوجهاته السائدة"، وهل إيقاع النظام الخاص وتوجهاته السائدة سوى إيقاع الفساد والتحاصص والهدر والزبائنية؟!
وأود في هذا المجال أن أضع موضع تساؤل قولا للكاتبين أورداه في أسفل الصفحة 17:" فلولا مسارات الهجرة المتنوعة التي سلكها الكثير من الأشخاص، ولا سيما ذوي الخلفيات الإجتماعية المتواضعة، لما كنّا رأيناهم اليوم أعضاء في مجلس النواب أو الحكومة أو حتى في رئاسة الحكومة..."، وتساؤلي هو التالي، أهي الهجرة التي أوصلتهم إلى مجلس النواب أم جنة الفساد الموعودة كانت الجزرة التي استعملتها النخبة السياسية مع أغلبية المهاجرين المتمولين بغية الإستفادة من أموالهم مقابل إدخالهم جنة النخبة؟! وغير بعيد من هذا الاستنتاج يقول الدكتور بول في حديث إذاعي إلى إذاعة محلية حول الكتاب" أنا قابلت بعض المستثمرين الناجحين جدا خارج لبنان وجربوا يرجعوا ورفضوا أن يستثمروا في لبنان لانو ما بيقبلوا يستثمروا تحت شروط الطبقة السياسية ... وما بدهم يكونوا شركاء في هذه المنظومة الفاسدة...".
الطامة الكبرى في هذا المسار هي أن نظام المحاصصة والزبائنية كان يجدد نفسه في كل محطة بدم ومال اغترابيين متسبّبا – كنتيجة حتمية – بتعميق الفساد وتوسيع دائرته حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
بين أن أُطيل محاولا إيفاء الكتاب حقه أو أن أختصر كي لا أُثقل عليكم أخشى أن أكون فشلتُ في كليهما فأرجو المعذرة وشكرا لإصغائكم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق