رسالة مفتوحة لقاضي المحكمة العليا، يتسحاك عميت/ جواد بولس



درجت، منذ سنوات عديدة، على كتابة مقالتي الأخيرة في السنة، على شكل رسالة مفتوحة تُعنى بقضية عامة بارزة، أو موجّهة لشخصية معيّنة؛ وقد خاطَبتْ رسالتي المفتوحة التي كتبتها قبل إحدى عشرة سنة، مَن كانت رئيسة المحكمة العليا، دوريت بينيش؛ ثم خاطبتُ، بعدها بستة أعوام، مَن خلفتها على كرسي الرئاسة، القاضية مريام نائور .

لقد مثلت أمامك مؤخرًا في عدة ملفات كان أبرزها ملف الأسير الإداريّ هشام أبو هواش الذي ما زال يرقد بين الحياة والموت في مستشفى "أساف هروفيه". وددت أن أسألك إذا تسنّى لك أن تقرأ الرسالتين المذكورتين؛ ولكنني أفترض أنك قرأت رسالتي الثالثة، التي وجّهتها، قبل عامين، إلى جميع قضاة المحكمة العليا، فهي، رغم كتابتها بالأصل باللغة العربية، قد ترجمت إلى العبرية ونشرت في الصحافة المحلية.

لم أخترك عنوانًا لرسالتي الرابعة بالصدفة؛ فحين انتَخَبتك، في العام 2009، لجنة تعيين القضاة، لهيئة المحكمة العليا الاسرائيلية، سمعنا من زملائنا، الذين عرفوك  قاضيًا في محكمتي الصلح والمركزية في المحافظات الشمالية، بعض تعابير الفرح والتطمين، وذلك لأن قصر العدل، حسب رأيهم، قد فاز بقاض رزين يؤمن بقيم العدالة والمساواة وسلطة القانون، وبايفاء الانسان، كل انسان، حقه بالعيش بحرية وكرامة وبلا عنصرية واضطهاد وخوف. لقد استبشرنا، نحن معشر المحامين المتعاطين كثيرًا مع المحكمة العليا، خيرًا من قدومك كعنصر معزّز  لمعسكر مفقود من أصحاب النقاوة والعقل والاتزان، وذلك في فترة بدأت فيها المحكمة العليا تنخّ تحت وطأة هجمات القوى اليمينية الشعبوية والحكومية الرسمية، وحيث شرع قضاتها بالتراجع نحو الهاوية وإحناء ظهورهم أمام فتوحات الظلاميين الكواسر.

لم يمض وقت طويل حتى تكشّفت أمامي معالم الصدمة وحدود خيبتنا؛ ففي جميع محطات وقوفي أمامك في قاعة المحكمة لم أشعرك مختلفًا عن باقي زملائك، لا بل كنت، في كثير من الأحيان، قائد الرهط وخطيبهم المفوّه. فأنا ما زلت أذكر حوارنا في قضية مواطن فلسطيني جاءكم يطلب عدلًا؛ فحينها بادرتكم بأنني لا أتوقع منكم إنصاف هذا الفلسطيني، بل أعرف أنكم سوف ترفضونه ، كما رفضتم آلاف التماسات الفلسطينيين قبله. ناقشنا القضية باستفاضة وعندما سكتُّ أنا كنت أنت الذي توجه إلي بلغة وبثقة صاحب القوة والسلطان، وقلت، بنبرة الساخر المتشفي: "لقد ربحتَ الرهان، سيد بولس، فلقد خسرتَ القضية". وقتها حاولت ألا أنظر في وجهك، كي لا أفرحك، لأنني شعرت بطرف بسمة عدوّة هادئة تستوطن في زوايا شفتيك.     

إذن، لقد اخترتك عنوان رسالتي المفتوحة لهذا العام، التي أتوقع أن تكون الرسالة الأخيرة لكم، بعد أن تمنّيت، في ذلك اليوم، لو أستطيع أن أقابلك وجهًا لوجه لأفهم كيف من ايجاع إنسان/محام يستطيع إنسان/قاض أن يقطف العسل؟ وكي أؤكد لك، أيضًا، ما قلته أمامكم مرارًا أن الفلسطينيين هم المخطئون إذ يصرّون على قرع أبوابكم، رغم أنكم أثبتم، أنت وزملاؤك، أنكم لستم إلا جنودًا في خدمة العلم.

ولقد اخترتك عندما قرأت كيف هاجم، يوم الاربعاء الفائت من على منصة الكنيست، عضو الكنيست الليكودي، دودي إمسلم، محكمتكم بعد أن رد زميلك القاضي، دافيد مينتس، طلبه بالتدخل لإلزام وزير الدفاع والمستشار القضائي للحكومة بتعيين شخص معيّن كمدير عام "للصناعات الجوية"، مستندًا بقراره على ذريعة عدم امتلاك عضو الكنيست إمسلم للحق القانوني الذي يخوّله بأن يكون ملتمسًا في مثل هذا الموضوع. 

لا تعنينا هنا تفاصيل القضية، ولكن ما كان لافتًا، حتى الدهشة، هو أن الهجوم على المحكمة وعلى قاضيها كان سافرًا وغير مسبوق من حيث قساوة لغته المستعملة؛  فبعد صدور القرار صرّح النائب إمسلم وقال على الملأ: "جاءني قاض مهلّوس .. فهو يشبه القاضي. واذا لم يكن قد شرب زجاجة ويسكي، قبل مجيئه، فلا تسمّوني دودي. إنّه لا يخجل".  وبعد أن أنهى كلامه وبدأ ينزل عن المنصة عاد إليها ليقول بسخرية بالغة: "هو لم يشرب الويسكي، فلقد شرب عرق الغزالين" . لم يكتف بكل هذا الكلام بل أخذ يهاجم الكنيست والمحكمة  فقال فيهما: "هل هذه هي المحكمة العليا؟ استمروا بمديحهم وبتسبيحهم وبتأليههم، وحوّلوهم أربابًا. هؤلاء(يعني القضاة)  هم أناس مسيّسون، وسطيون وأدنى من ذلك" ثم أنهى كلامه بنصيحة قدّمها للقاضي مينتس بأن عليه أن  "يستقيل فورًا"، فهو، أي القاضي "لن يُقبل كطالب في السنة الأولى في كلية الحقوق، ولذلك عليه أن يخجل من نفسه". هكذا بكل مباشرة ووضوح.

كان من الممكن استيعاب ذلك المشهد كأحد تداعيات الحالة السياسية الراهنة، إلّا أنك تعرف، مثلنا، أن القاضي مينتس هو مستوطن يقيم وعائلته على أراضي فلسطينية محتلة؛ وتعرف أيضًا أن هذه الحقيقة، التي تكفي لكشف هوية القاضي السياسية، لم تردع النائب دودي إمسلم ولم تثنه عن مهاجمة القاضي. إنّها إشارة هامة وخطيرة تذكّرنا بما قلناه لكم دائمًا، وتثبت أن ما يحرّك النائب إمسلم وأمثاله من عتاة اليمينين، هي قاعدة سياسية بسيطة واحدة مفادها : كن معنا وإلا فأنت عدوّنا؛ تمامًا كما تعلّمنا، نحن ضحايا هذا الزمن، من التاريخ، ونسيتموه أنتم.         

فنحن، المواطنين العرب في إسرائيل، نرى أن المعركة الجارية على عتبات محكمتكم العليا هي آخر المعارك التي تخوضها قطعان الهضاب من المستوطنين وزعمائهم وغلاة المتطرفين المتدينين، ضد مؤسسات "الدولة البنغورينية" القديمة. وهذا ما حاولتُ طيلة سني عملي أمام محكمتكم ، لا سيما في العقدين الأخيرين، أن أنبّهكم منه ومن خطورة ما يجري داخل الدولة، ومن كونكم أحد الأحصنة التي تجر عرباتها نحو الهاوية. لكنكم أعرضتم وكنتم منشغلين بتأكيد انتصاراتكم على أعدائكم الواضحين، الفلسطينيين الذين هناك، وإخوانهم الذين هنا، فهذه المهمة هي الأسهل عليكم ونتائجها تكون دائمًا مضمونة.

لقد نظرتم إلي وإلى زملائي بتشاوف السيد، كما الى ثلة من المشاغبين. ولم تقتنعوا بأننا ضحايا الحاضر الراهن، وقد يكون منكم بعض اللاحقين؛ ولم تصدقوا بأنني أخاف على مصير محكمتكم،  لأنني أريدكم، أنتم القضاة، رغم تمييزكم العنصري ضدنا نحن العرب، أقوياء كي تبقوا سدنة لقانون يحمي الضعيف من سلطان الحاكم المستبد، وكمواطن يطمع أن يحتمي بقوتكم عندما يسلب الحاكم حقه جورًا.. وكإبن لأقلية قومية، يناضل كي تكونوا ترسه الذي يصد عنه مخالب العنصريين المسلولة. 

أتمنى أن تكون قد قرأت ما كتبته في رسائلي السابقة إليكم؛ فقصتنا، نحن العرب، مع جهازكم القضائي طويلة وجديرة بأن تُستقصى من بداياتها التي كانت قبل ولادتي كعربي بسنين قليلة وقبل ولادتك كيهودي بالطبع. فأنت ومجايلوك من القضاة ورثتم مساطر عدل مشوّهة ومفاهيم منمّطة حول نظريات "الأمن" "والولاء" وتصنيف الضحايا والحلفاء، لكنكم تساوقتم معها وتسربلتموها كجنود في ساحات المعارك حين يطوّعون كل القيم الانسانية في سبيل النصر حتى لو كان على مواطنين في الدولة لأنهم صاروا في أعين الأجهزة القضائية، كما كانوا في أعين المؤسستين الأمنية والسياسية، لا أكثر من أجسام مشبوهة أو ألغام مزروعة على طريق الدولة اليهودية.

فهل ستقرّون يومًا بأن قضاة يحتمون بحراس يرافقونهم حتى أبواب غرف نومهم، لن يقووا على مواجهة القتلة والعصاة، وبأن جهاز ًا قضائيًا لا يميز بين الضحية الحقيقية وبين جلّادها، أو يخاف أن يميّز بينهما، لن يحمي جلده حتى اذا تراجع اعضاؤه خوفًا أو انحنوا وطأطأوا رؤوسهم اذعانًا للكهنة والفاشيين ؟!   

لقد ناديناكم ولم تسعفنا النداءات ولا نبوءات الغضب.. فكيف النجاة، لمن سيبقى خارج غبار القطيع، ما دام صوت المسدسات يصرخ في ساحاتنا وساحاتكم ودردبات طبول الفاشيين تملأ الفضاء عبثًا ويأسًا؟ 

وأخيرًا، لقد رويت عليكم مرارًا قصة "الثور الأبيض" وهي، كما حاولت أن أفهمكم، حكمة دماء الضحية الناجزة وهي تروى لضحية تنتظر على خطوط التماس؛  واليوم، ونحن على آخر عتبات عام رمادي يطوى، أتمنى عليك أن تقرأ خطبة النائب دودي إمسلم في التعرّض لقاض احتل كرسيه في المحكمة العليا مستوطنًا، فعساك تتعظ ما دام في قناديل التاريخ زيت. لأن أقواله ليست مجرد هرطقات على باب هيكل مشتهى، بل هي آخر إشارات العاصفة التي تسبق الطوفان. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق