أجلس لشرفتي اتأمل الغيث وهو ينزل بهدوء من سماء القرية فتتساقط القطرات كما حبات اللؤلؤ على حبات البرتقال في حديقتي، وبين توقف للمطر واشراقة الشمس بخجل من بين الغيوم يتحول المشهد إلى لوحة جمالية رائعة لحبات المطر على البرتقالات وأوراق الشجر، أستعيد في ذاكرتي زيارات سابقة لجيوس سجلت فيها ملاحظات وهمسات على اوراقي ولم أنشرها، فأرجع اليها لتوثيق بعض من ذاكرة البلدة، فجيوس بلدة ذات ارث قديم، ويعود تاريخها الى عصور موغلة بالقدم حيث تقع تحت البلدة مغائر وكهوف كانت مسكونة في مراحل تاريخية قديمة جدا فالكثير من الآثار التي وجدت تعود للعهد البرونزي القديم، وهذه المغائر وحسب ما هو محفور في جدرانها تؤكد أن تاريخها أقدم من المرحلة الرومانية والبيزنطية والتي تركت آثارها في جيوس عبر مراحل من سِفر التاريخ، حيث حين تمكنت من زيارة خربة يوبك بمرافقة الأستاذ سامح سمحة لأول مرة وهي من أراضي جيوس والتي كانت معروفة أنها تعود للعصر المملوكي، تمكنت من اكتشاف آثار تدل على أنه كان في الموقع دير بيزنطي ومعصرة ومكان اقامة للرهبان، وقد تم توثيق ذلك رسميا في دائرة الآثار بعد حضور وفد من الوزارة للتأكد من ذلك.
أتذكر حين كنت مقيما في رام الله أني بين فترة وأخرى أحضر لجيوس لقضاء عدة أيام، فهل أجمل من الصحو المبكر مع صحو الحياة؟ كنت أصحو من نومي على أغاريد الطيور وصياح الديكة معلنة عن يوم آخر، ثغاء الأغنام مع فجر جديد، هديل الحمائم مستقبلة شعاع الشمس، أغسل وجهي وأخرج لاستقبال يوم فرح آخر، أتنشق الهواء البكر وأخرج لأتمشى في حقول الزيتون، أهمس لها وتهمس لي هذه الزيتونات الرائعة، أجول بعض الوقت وأعود، أستحم بمياه من بئر ماء الأمطار من الموسم المطري السابق، أتناول افطاري من رغيف من خبز الطابون الطازج تخبزه ابنة عمتي الحاجة أم عزمي وهو يعبق ببخار السخونة مع الجبنة البيضاء الطرية من عمل يديها، وصحن من الزيتون والكامر والزيت الفواح، وكأس حليب طازج تحلبه من النعجة مباشرة وتغليه وتحضره لي، وبيض بلدي تلتقطه من تحت الدجاجات ساخنا فتغرقه بزيت الزيتون لتقليه، مع حبات بندورة تقطتفها من الأرض مباشرة، لأحتسي قهوتي بعدها تحت ظلال شجرة البومل الوارفة، فأقرأ قليلا وأحمل عدستي وأبدأ جولتي في أحضان الطبيعة وعبق التاريخ والتراث، أرى شابا يمتطي فرسا أصيلة ترافقها مهرة ساحرة الجمال، أرقب فارس من جيوس وهو يركض بالفرس بكل ما يحمله الشباب من عنفوان، وأرى حمار أبو عزمي ينزعج من هذا النقع الذي اثارته الفرس والمهرة، أرقب هذا الجمال فللخيل جمالها الخاص، وأتذكر الآية الكريمة: "والعاديات ضبحا فالموريات قدحا فالمغيرات صبحا"، فأسأله عن اسمه فيجيبني: جهاد جبر يا خال، فأكتشف أنه ابن صديقي القديم أبو الطاهر، أنظر للفرس الأصيلة متخيلا أني فارس يمتطيها، فأضحك في سري وأهمس لنفسي: أنت فشلت أن تمتطي حمار أبو عزمي فما رأيك بفرس أبو الطاهر الأصيلة؟ فأضحك وأكتفي أني صورتها وأكمل تجوالي بعد أن ابتعد جهاد بالفرس وهدأ حمار ابو عزمي وعاد لهدوءه ووحدته.. فهل أجمل؟
قبل أن أعود إلى رام الله وفوضى المدينة، وكالعادة أخرج مساء لأجول دروب رام الله وأتنشق عبق ياسميناتها، فالحركة تكون قليلة والهواء أكثر نقاءً مع النسمات الغربية، وفي هذه اللحظات أمارس عشقي العذري لرام الله، فأعانقها وأضم خاصرتها وأراقصها على أنغام الحب تحت ضوء القمر، وتلك الليلة كانت رقصة ناعمة مع النسمات الباردة، فكان العشق مرتفعا بيني وبينها، فضممت خاصرتها وألقت بشعرها الأسود الليلي على كتفيّ، فنظرت لوجهها القمري المنير من تحت غلالة العتمة، فأنظر لوجهها القمري وراقصتها تحت ضوء القمر.. فأحببتها أكثر.
في فترة الكوانين وشباط حيث يتسلل البرد مخترقا دفء جيوس وخاصة في الأمسيات والصباح الباكر، تكون أجمل الأمسيات حول نيران الحطب ومواقد الجفت من مخلفات عصر الزيتون، بعد أن يتم اشعال الحطب الجاف من خشب الزيتون وحين يتحول إلى جمر يضاف اليه الجفت فهو لاحتفاظه ببقايا زيت الزيتون يحافظ على توهج الفحم لفترة طويلة نسبيا.
ذات مساء بارد كنا نسهر ثلة من أبناء جيوس حول موقد النار، كنت قد وصلت مع العزيز سامح سمحة مبكرا قليلا كي يمكنني توثيق اللحظات الجميلة بعدستي قبل أن يتجمع الأحبة من أبناء بلدتي جيوس، من لحظة دخولي عتبة الممر في الحديقة كانت عدستي توثق الأزهار والنباتات وكل ما هو مزروع في الممر حتى وصلت إلى بيت من بيوت العقود التراثية التي بدأت تنقرض من أنحاء جيوس، حيث أن ما أذكره من بيوتات أثناء زيارتي الأولى عام 1965م لم يعد له وجود بكل أسف.
مضيفنا الأخ أحمد القدومي صاحب البيت ما زال حريصاَ على البيت ويسعى لترميمه ولكن الكلفة العالية للترميم تقف حائلا في وجهه، ومؤسسات الترميم لها شروطها التي لا تسمح بالترميم إلا ضمن قواعد وأسس مقرة من الممولين وغالبيتهم من الأجانب، مما أدى لاستسهال الهدم من الكثير من أبناء شعبنا والبناء بالاسمنت والطوب، فضاع تراث ورثناه من الأجداد والآباء.
أحاديث طريفة وأحاديث ذكريات وأحلام استمعت لها بالسهرة مع أكواب الشاي والقهوة على الحطب، وأنا اتمتع بمشهد النيران المشتعلة ومعالم بيت العقد ومشهد العنزات والأغنام التي تطل علينا، وشعرت كم أن حياة الريف رائعة وحميمية وبسيطة مقارنة بحياتنا في العلب الاسمنتية في المدن، وشعرت كم أن قراري بالاستقرار بين بدايات الثلث الأول من الخريف حتى نهاية الثلث الأول من الربيع أو أكثر قليلا في بلدتي جيوس والابتعاد عن صخب المدن وفوضاها كان قرار صائب وجميل، قرار يعيدني لبلدتي وريفها وجمالها بعد سنوات عشتها في الغربة والمدن والسفر إلا زيارات عابرة لبلدتي.. طوال فترات اقامتي في بلدتي الخضراء والصغيرة جيوس لم أكف عن التجوال في محيط البلدة، وفي معظم الجولات البعيدة نسبيا كان دوما يستضيفني ويرافقني مرشدي ودليلي صديقي الشاب الأستاذ سامح سمحة، وهو بالتأكيد كان وما زال يفيدني كثيرا بمعرفته لكل المناطق التي نجولها في محيط جيوس وفي داخلها، فكوني لم اولد ولم أعش في جيوس الا زائر عابر، حتى عدت ورممت وكن صغير مع حديقة يضمني وبدأت أقضي فيها فترات طويلة، فلم أعرفها جيدا سابقا، فكان دور العزيز سامح كبير بتعريفي بها وبالتجوال معي وعدستي.
تعرفت على محيط البلدة والأراضي التابعة لجيوس والمناطق الزراعية فيها، فجلت الفريحيات ويوبك وخلة صويلح والزنطة ومناطق عدة اضافة لبعض خبايا البلدة نفسها، وكان المقرر أن نخرج مجموعة أصحاب منهم الأستاذ جبر أسعد وابو فادي شماسنة وسامح سمحة بجولة وتناول الغداء الشهير في البراري وهو قلاية البندورة مع الفلفل وزيت الزيتون على نار الحطب، لكن تعطلت الرحلة أكثر من مرة لأسباب مختلفة، وحين سافرت مغادرا جيوس بظرف طارئ قام أصدقائي بممارسة الخيانة وخرجوا وحدهم وتناولوا الوجبة وأرسلوا لي الصور.. فخاطبتهم: خيانة.. خيانة..
وها هي جيوس بمحيطها والمناطق من حولها والجدار البشع الذي التهم أعلى نسبة من أراضيها بحيث اصبحت جيوس أكثر البلدات تضررا، ولكن تبقى جيوس خضراء وألقة رغم الاحتلال ورغم الجدار، تحلم بالحرية مع آذان الفجر وأنا في البعيد أنادي: خذوني إلى جيوووووووووووس..، ولا بد من الإشارة أن بلدة جيوس تبلغ مساحتها الاجمالية 14600 دونم فقط ومنها 1628 دونم هي المساحة الهيكيلية المسموح البناء عليها، ومن المساحة الاجمالية 1000 دونم أقيمت عليها مستوطنة "تسوفيم"، وحين اقام الاحتلال الجدار البغيض جرى اقتلاع ما يزيد عن 4000 شجرة زيتون معمرة، وتدمير الزراعة فيما يزيد عن 600 دونم، ومساحة الأراضي التي عزلت خلف الجدار 8600 دونم فيها ستة أبار ارتوازية وما يزيد عن 50000 شجرة مثمرة، لا يمكن الوصول اليها الا بتصاريح خاصة من سلطات الاحتلال التي تتحكم بها ولا تمنحها الا نادرا وبصعوبات كبيرة تضعها أمام المواطنين، مما جعل جيوس أكثر القرى تضررا من الجدار ومن المصادرات وخنق اقتصادها الزراعي والمائي.
في جيوس التي لم أعش بها طفلا ولم أولد بها كانت زيارتي الأولى لها عام 1965 وعمري عشرة أعوام والثانية في 1995 بعد أن ابعدتنا هزيمة حزيران عن الوطن، بقيت جيوس الحلم الذي أنشده، والواحة التي أحلم أن ارتاح فيها تحت فيء زيتونها المقدس، وبمجرد أن تقاعدت من عملي الوظيفي في رام الله التي عدت لها بعد 30 عاما من قسوة الغربة والشتات والنزوح، حتى بدأت أجهز بوكن لي في البلدة مع حديقة صغيرة لأقضي معظم أوقاتي فيها، وكنت أجول جيوس كل يوم متمتعا بالمشي السريع والعدسة ترافقني في الهواء النقي بين حقول الزيتون وسحر الأرض والطبيعة، مرات لوحدي ومرات مع صديقي الأستاذ سامح سمحة في الأراضي الزراعية حيث الجمال وجهود السواعد السمراء وبيارات حوت كل ما لذ وطاب ومتعة للناظرين.
إضافة لهذا الجمال الباهر والساحر كنت أتمتع بمأكولات تراثية بعضها كنت أعرفه من قبل وبعضه تعرفت إليه من جديد، فجارتي الرائعة المربية بوران خالد "أم العبد" عرفتني على "الجعجورة" وأساسها نبتة اللوف التي كنت لأول مرة أتذوقها، وكذلك اللوف المطبوخ بالزيت والبندورة، وعند صديقي أبو عدنان "وصفي خالد" افطارات صباحية كل ما فيها من أجبان وألبان وبيض وشراب "إمكيكة" من الخروب الأخضر والحليب وخضار وغيرها من انتاج منزلي تبدعه أم عدنان، كما تناولت من تحت يدي العزيزة بوران وأيادي العزيزة ابنة عمتي الحاجة أم عزمي التي تبدعها بالطابون أرغفة الزعتر الأخضر الشهية بالزيت البلدي، وأبدعت اختنا العزيزة أم سامح بوجبات "الرشتة" وكما يسميها البعض "رقاق عجين وعدس" فالتهمتها عدة مرات بمعنى كلمة التهام، فهذه الوجبة أصبحت نادرة وذكرتني بأمي وبجدتي لأمي سارة رحمهما الله وذكريات طفولة حلوة لا تنسى، إضافة لوجبات أرغفة الزلابية على الحطب والتي كنت أحضر إعدادها لأول مرة على أيادي الحاجات الفاضلات، وحين بدأت اقامتي في بلدتي حيث الطبيعة والجمال، كنت مدعوا وزوجتي لوجبة زلابية تراثية أنجزتها الحاجات الفاضلات نعيمة أم عزمي وعزية أم مروان أطال الله بعمرهن، بنات عماتي رحمهن الله والمرحومة نظمية أم محمد أرملة ابن عمتي عقل رحمه الله ورحم زوجته، فقضيت وقتا جميلا أرقب النيران المشتعلة مع الحطب، وأرغفة الزلابية تتراقص في زيت الزيتون ويتحول لونها من الأبيض إلى اللون الذهبي الجميل،و"كراديش" الطحين والعدس الشهية والتي لا نعرفها بالمدن، فحلقت روحي وعدستي مع الجمال والطبيعة والأجواء الأسرية تروي حكاية من بعض حكايات التراث وعبق الجدات الرائعات، وتروي بعض من حكايات الطبيعة والجمال والتآلف الأسري الجميل، فمن ترى سيهتم بهذه المأكولات التراثية المتعبة لاحقا؟ كما تمتعت بالتعرف على نباتات برية لم أكن اعرفها وبعضها سمعت به من قبل مثل السيبعة والخس البري والزعمطوط والزعيتمانة وغيرها.
فأهمس لنفسي في هذا الصباح: هذه جيوس البهاء والسناء والحكايات التي لو تفرغت لكتابتها سأحتاج لمجلدات وليس مقالات عابرة حيث شعرت كم فاتني بغربتي الطويلة الاجبارية عنها من جمال وبهاء، فيكفي حجم التكاتف الاجتماعي فيها في ظل اشتداد الأزمات مثل بدايات الكورونا والإغلاقات، وتطوع الشباب عبر ساعات اليوم كاملة بلا مقابل لحماية البلدة ورعايتها فكانوا كما قلت عنهم أسود جيوس وحراسها، ويكفي شعوري بالسعادة والفرح بمداعبتي لأصدقائي الأطفال بكل الحب محـمد ولين أبناء الفنان جهاد الجيوسي، ومعاوية ومحمد ورهف ورفيف ابناء العزيز موسى طلعت.
وللحديث بقية...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق