دوريس خوري، أيَّتها القصيدةُ المتناغمةُ معَ مروجِ الرُّوحِ منذُ أن حملْتِ القلمَ حتّى الآنَ، يا منارةَ الحبِّ والفرحِ والسَّلامِ، أيَّتها القصيدةُ المتهاطلةُ من مآقي السّماءِ، أيَّتها الكلمةُ الممراحةُ فوقَ رهافةِ الحياةِ، يا وهجَ القصيدةِ الغافيةِ فوقَ أجنحةِ اليمامِ. تنبعثُ من دنياكِ الابتهالاتُ الجامحةُ نحوَ غمائمِ الرُّوحِ، نحوَ جراحِ الأوطانِ النَّازفةِ فوقَ خدودِ الحياةِ، تُشبهينَ الألقَ المندّى بأبجديّاتِ بوحِ الحرفِ وأنتِ تفهرسينَ خصالَها فوقَ أجنحةِ الطُّفولةِ منذُ أن نقشْتِ حفاوةَ الحرفِ فوقَ أحلامِ الأطفالِ وهم يتشرّبونَ حفاوةَ الكلمةِ على إيقاعِ حبورِ السّنابلِ. أيَّتها الشّاعرةُ المفعمةُ بألقِ الحرفِ وتلألؤاتِ حنينِ النُّجومِ إلى إشراقاتِ الرّوحِ نحوَ بهاءِ السّماءِ، نحوَ النَّسيمِ المنسابِ فوقَ مُحيَّاكِ عندَ انبلاجِ أولى خيوطِ الشّمسِ، يا مهجةَ الحرفِ لكلِّ المجنَّحينَ نحوَ عجينِ الوئامِ، كم من القصائدِ تناهَتْ إلى ربوعِ دنياكِ، وكم من الابتهالِ حتَّى تبرعمَتْ شهقاتُ القصائدِ! في قلبِكِ ترعرعَ اخضرارُ السَّنابلِ بحثًا عن ألقِ الأغاني، كم من الشَّوقِ إلى ظلالِ البيتِ العتيقِ، إلى روعةِ الكرومِ ونكهةِ حبّاتِ التّينِ على هفهفاتِ هبوبِ النّسيمِ! هل رافقتكِ إيقاعاتُ نصالِ النّوارجِ وهي تدرسُ حبيباتِ الحنطةِ؛ كي تطعمَ أفواهَ الأطفالِ وهم يغفونَ فوقَ صدورِ أمّهاتهم كأزهارِ السَّوسنِ، ينتظرونَ عودةَ الهداهدِ إلى ظلالِ البيوتِ العتيقةِ؟! هل تستمدّينَ بوحَكِ الشِّعريَّ من جبالِ لبنانَ وغاباتِ الأرزِ وأنتِ في أوجِ الحنينِ إلى مرتفعاتِ الرّوشة وجونيه وفي أوجِ اشتعالاتِ الشَّوقِ إلى سهولِ رميش والأزقّةِ الَّتي ترعرَعْتِ فيها بفرحٍ عميقٍ؟! وحدَها القصيدةُ تحنُّ إلى مروجِ دنياكِ في ليلةٍ محبوكةٍ بأريجِ القَرنفُلِ؛ كي تنسجي خيوطَ بوحِ الرّوحِ فوقَ جنائنِ صيدنايا ومرتفعاتِ صخورِ معلولا وهي تعانقُ قداسةَ الحرفِ السّريانيِّ منذُ أن نطقَ بهِ رسولُ السَّلامِ، شوقًا إلى جذورِكِ المعرَّشةِ في خميلةِ الرّوحِ، هناكَ بينَ واحاتِ الطّينِ الأوَّلِ في خضمِّ عطاءاتِ الأجدادِ. أيّتها الشَّاعرةُ المبرعمةُ من حبورِ مهجةِ الشَّامِ، من عرينِ لبنانَ، من قداساتِ المكانِ، فارشةً مذاقَ الشِّعرِ فوقَ أجنحةِ فلسطينَ؛ حيثُ خميرةُ البنينَ تسطعُ شوقًا إلى المهدِ الأوَّلِ، هناكَ حيثُ تبرعمَتْ قاماتُ الأجدادِ شامخةً فوقَ خدودِ أوطانٍ مخضوضِرةٍ بأغصانِ الزَّيتونِ، ومبلّلةٍ بندى الحياةِ.
دوريس خوري أيّتها المحبوكةُ بطفوحِ دمعاتِ القصيدةِ، حيثُ الجراحُ تزدانُ فوقَ خدودِ الأوطانِ، أينَ المفرُّ يا دوريس من شهقاتِ الحنينِ إلى مراتعِ الطُّفولةِ، إلى موطنِ الآباءِ والأجدادِ؟! أينَ المفرُّ من هلالاتِ القصائدِ وهي تنسابُ بوحًا من توهّجاتِ خيالٍ مجنّحٍ نحوَ سماءِ بيروتَ، وأنتِ مشدوهةٌ إلى جبالِ قاسيونَ وهي تطلُّ على دمشقَ أقدمِ عواصمِ الكونِ؟! كم مرّةٍ طفحَتْ عيناكِ شوقًا إلى خدودِ الطِّينِ الأوّلِ، وهو ينزفُ أنينًا مفتوحًا على متاهاتِ انشراخِ مسارِ الأحلامِ؟! كيفَ تكتبينَ القصيدةَ وأنتِ متقّطعةُ الأوصالِ بعيدةٌ عن رحيقِ عوالمِ الطُّفولةِ والصِّبا، بعيدةٌ عن حفاوةِ الذّاكرةِ المقمّطةِ بأهازيجِ أولى خُطُواتِ العمرِ، حيثُ حنينُ الرّوحِ ينسابُ شوقًا إلى أجنحةِ الحمامِ، مرفرفةً فوقَ هاماتِ القصائدِ؟!.
ترفرفُ الشّاعرة دوريس خوري محلِّقةً عبرَ حرفِها المنساب مثل شلَّالٍ فوقَ أجنحةِ القصيدةِ، كأنَّها في حالةِ ابتهالٍ لمناغاةِ هديلِ اليمامِ، وعناقِ أوجاعِ الحضارةِ الآفلةِ في زمنِ الإنكسارِ، وفي زمنِ تفاقماتِ الغبارِ، معَ هذا يشمخُ نصُّها فوقَ أغصانِ الغاباتِ الّتي تنبلجُ منها حكايا الأساطيرِ وملاحمُ العشقِ في أوجِ ابتهالاتِ الرُّوحِ، فتكتبُ تدفُّقاتِ شِعرِها من وحي تجربةٍ حافلةٍ بأريجِ المكانِ، فهي ابنةُ الأمكنةِ المكتنزةِ بجموحِ الشِّعرِ، تكتبُ حرفَها وهي في أوجِ حنينِها إلى موسيقى فيروز، إلى موسيقى مبلَّلةٍ بنكهةِ المطرِ، إلى موسيقى مسربلةٍ باخضرارِ الحنطةِ، وهي تهفو عبر شهقاتِ القصيدةِ إلى هدْهدَةِ أزاهيرِ الصَّباحِ. شغفٌ عميق ينتابُها وهي تنسجُ تجلِّياتِ بوحِها، كأنّها في حالةٍ حلميّةٍ شهيّةٍ لانبعاثِ ما يموجُ في دقَّاتِ القلبِ، تغوصُ عبرَ جموحاتِها الشَّعريّةِ في متاهاتِ انبعاثِ الخيالِ، فتنسجُ حرفاً من مذاقِ الخبزِ المقمَّرِ، ومن حكايا الأساطيرِ وآفاقِ حضاراتِ الأزمنةِ الغابرةِ، كي تكحِّلَ عبرَ توهّجاتِ بوحِها أجنحةَ القصائدِ وهي تسمو عالياً فوقَ أمواجِ البحارِ. ما أجملَ القصيدةَ عندما تحلِّقُ عالياً بين طيَّاتِ الغمامِ، ما أجملَ أن نحتفيَ بالشِّعرِ والشِّعراءِ، ما أجملَ اليومَ الّذي تعرّفتُ فيه على الشّاعرة دوريس خوري، فقرأتُ قصيدةَ "لجفرا مقلةُ العينِ"، ولمستُ إشراقاتٍ ملحميّةً تنبعثُ من خيالِ الشّاعرةِ، وهذا ما قادني إلى الغوصِ عميقاً في فضاءات هذه الشّاعرة الرهيفة!
***
يسطع اسم الشَّاعرة دوريس خوري في عدَّة أنطولوجيّات، منها معجمُ الأدب الفلسطيني الصَّادرُ في بيروتَ،
كيفَ حلّقَتْ طيورُ العنقاءِ على شاكلةِ تكريمٍ من أوسعِ بقاعِ الدُّنيا فوقَ مروجِ دنياكِ، حلّتْ عليكِ أجنحةُ العنقاءِ تكرّمُ رهافةَ حرفِكِ وتجلِّياتِ رؤاكِ وأنتِ تحلِّقينَ عاليًا في سماءِ الإبداعِ حرفًا مجنّحًا نحوَ غاباتِ الزَّيتونِ؛ بحثًا عن حفاوةِ الوئامِ بينَ البشرِ؟! كم مرّةٍ وقفْتِ شامخةَ الرّأسِ مدافعةً عن المرأةِ، عن حقوقِ الإنسانِ، ترفعينَ الحيفَ عن أوجاعِهِ، تندِّدينَ بظلمِهِ، كم من الأسى والأنينِ وأنتِ تشاهدينَ النِّساءَ اليزيديّاتِ والآشوريّاتِ، والكلدانيّاتِ والسّريانيّاتِ وغيرهنَّ كثيراتٌ في بلدِ العراقِ؛ بلدِ الحضاراتِ، يُساقونَ كالخرافِ نحوَ مصيرٍ يَندَى لهُ الجبينُ! تكتبينَ رؤاكِ بكلِّ جرأةٍ للتعبيرِ عن إنسانيّةِ الإنسانِ الّذي يتنامى في داخلِكِ كأزهارِ البيلسانِ؛ دفاعًا عن كينونةِ ووجودِ الإنسانِ، والعالمُ يقهقهُ ملءَ شدقيهِ كأنَّ تلكَ النِّساءَ جئنَ للحياةِ من أجلِ الذّبحِ والسَّبي وما يعجزُ اللِّسانُ عن قولِهِ في نصٍّ لا يتّسعُ لهُ المقامُ الدُّخولَ في تفاصيلِ الأنينِ. كم مرّةٍ طفحَتْ عيناكِ دمعًا سخيًّا وأنتِ تشاهدينَ دمشقَ وبغدادَ وبيروتَ والقدسَ تشتعلُ في وضحِ النّهارِ على مدى سنينٍ وعقودٍ من الزّمانِ، فما وجدتِ أجدى من حرفِكِ تشهرينَهُ في وجهِ اشتعالاتِ أجنحةِ هذا الزّمان؟!
الكتابة هاجسٌ عميق يراود الكتَّاب والشُّعراء بمختلفِ تجلّياتهم الإبداعيّة. كتبتِ الشَّاعرة دوريس خوري شعرَها من وحي تجاربِها في الحياةِ، فقد عاصرَتْ وعايشَتْ حروباً موجعةً، وصراعاتٍ ممجوجةً أودَتْ بالأوطانِ إلى منزلقاتِ الجحيمِ، وتشرَّبتْ آلاماً غطّتْ خارطةَ الأوطانِ بكلِّ أنواعِ الأحزانِ والمراراتِ والأسى، إلى درجةٍ لا تُطاقُ. أحزانُكِ يا دوريس مبرعمةٌ في طينِ القصيدةِ، مفعمةٌ بتجلِّياتِ انبلاجِ الحرفِ في أوجِ انبعاثِ شراراتِ الأنينِ. وحدَها القصيدةُ تخفِّفُ من جراحِ وأوجاعِ الحياةِ. كم من الرّسامينَ والمبدعينَ استلهموا من دنياكِ ورؤاكِ أجملَ اللّوحاتِ وأبهى تجلّياتِ الكلامِ، تُشبهينَ صباحًا مندَّى بالخيرِ الوفيرِ. دوريس، يا صديقةَ القصيدةِ والإنسانِ والأوطانِ الجريحةِ، يا رحيقَ القصيدةِ المتناثرةِ معَ إشراقةِ الصَّباحِ على ربوعِ الدُّنيا، يا أيّتها القامةُ المجنّحةُ نحوَ أبجدياتِ المحبّةِ والخيرِ وتعاضدِ سواعدِ الوئامِ بينَ البشرِ في كلِّ مكانٍ، بحثًا عن إحلالِ نعمةِ الخيرِ ورفرفاتِ أجنحةِ السَّلامِ وتأمينِ الخبزِ الشَّهيِّ للأطفالِ في كلِّ أرجاءِ العالمِ؛ كي يعيشَ الإنسانُ معَ أخيهِ الإنسانِ بعيدًا عن شفيرِ الحروبِ وجنونِ آخرِ زمانٍ، طموحًا وسعيًا منكِ لتحقيقِ أرقى ما في أعماقِ البشرِ من تجلّياتِ إنسانيّةِ الإنسانِ، هذا ما تلمَّستُهُ في بوحِ دوريس خوري الشِّعريِّ!
***
حالما قرأتُ شعر دوريس خوري، منذُ أن تعرّفتُ عليها منذُ سنوات، راودَني وأنا أغوصُ في فضاءاتِ هذهِ الشَّاعرةِ المرهفةِ أن أستوحيَ من عوالمِها الشِّعريّةِ، نصّاً أدبيّاً يتراوحُ ما بينَ الرّؤيةِ الانطباعيّةِ، والقراءةِ المعمّقةِ، محاولاً أن أغوصَ فيما بينَ السّطورِ وما وراءِ السّطورِ، لاستبطانِ خيوطِ إشراقاتِ وهجِ القصيدةِ عندَ دوريس خوري، فوجدْتُ نفسي أمامَ شاعرةٍ مجنّحةٍ نحوَ فضاءِ ثقافةٍ عميقةٍ في عوالمِ الشّعرِ والقصِّ والسَّردِ، ولها باعٌ كبيرٌ في معانقةِ فضاءِ الأساطيرِ واللّاهوتِ أيضاً، ولها إطلاعٌ على الأدبِ الشّرقي والعربي والأدبِ العالمي من بعضِ الوجوهِ، وكلُّ هذا ساهم في تعميقِ تجربتها الأدبيّة والشِّعريّة، فوُلِدَتْ تجربتها الشِّعريّة من رحمِ ثقافةٍ متنوّعةٍ وموائمةٍ لبوحِها الشِّعريِّ وتطلُّعاتِها الخلّاقةِ، حيثُ تجلّى بوضوحٍ تأثيرُ هذهِ الثّقافة العميقة في فضاءاتِ نصوصِها. والمبدعُ والمبدعةُ، الشّاعرُ والشَّاعرةُ يتطلَّبُ واقِعُهما الإبداعي قطبَين، القطبُ الأوَّل هو الشَّاعرُ/ الشّاعرةُ، والقطبُ الثَّاني هو المتلقّي الحصيفُ والنّاقدُ اللَّبيبُ والعميقُ، ومن خلالِ القطبِ الثّاني/ المتلقّي سواءَ كانَ ناقداً أو قارئاً عميقاً، يمكنُ أن نصلَ إلى أعماقِ ما يرمي إليه الشَّاعرُ والشّاعرةُ.
دوريس خوري، صديقةُ البرِّ والبحرِ والمسافاتِ الرَّحبةِ الممتدّةِ بينَ البلدانِ، صديقةُ الشِّعرِ والشِّعراءِ، صديقةُ الكلمة الخلّاقة، تكتبُ حرفَها للحياةِ كي تبهجَ القلبَ والرّوحَ وكي تخفِّفَ من ضراوةِ ما تراهُ العينُ من جراحٍ وأنينٍ في أقسى منعرجاتِ العمرِ. الكتابةُ صديقتُها الأعمقُ في الوجودِ، حلمٌ مفتوحٌ على آفاقِ مهجةِ البوحِ، الكتابةُ أمانةٌ معلّقةٌ في كينونتِها منذُ أن تبرعمَتْ على وجهِ الدُّنيا، لهذا نراها تحملُ قلمَها كي تترجمَ لنا ما تراءى للعينِ من أحداثٍ لا تخطرُ على بالٍ، وتلملمَ ما طافَ في مدارِ الخيالِ من انبعاثاتٍ ولا في مساراتِ الأساطيرِ. دوريس خوري شاعرةٌ مخضّبةٌ في لبِّ القصيدةِ بأصفى رفرفاتِ جموحِ الخيالِ، وشّحتْ فوقَ جبينها منذُ أن حملتِ القلمَ، هديلَ اليمامِ كي ينبعثَ حرفُها معجوناً برحيقِ السَّلامِ، مرفرِفةً بأجنحةِ الوئامِ، كي يتلوَّنَ شعرُها برايةِ الانتصارِ على جلاوزةِ هذا الزّمانِ، وعلى جنونِ شراهاتِ الصَّولجانِ، لأنَّ الشِّعرَ كان وسيبقى بوصلةَ العبورِ إلى مرافئِ الأمانِ، إلى أصفى ما يموجُ في مرامي إنسانيّةِ الإنسانِ.
ستوكهولم: (1/ 9/ 2019). صياغة أولى
12. 11. 2021 صياغة نهائيّة
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
رئيس تحرير مجلّة السَّلام الدَّوليّة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*. دوريس خوري: أديبة وشاعرة لبنانيّة فلسطينيّة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق