قراءة في قصيدة الشاعرة : سلوى علي – العراق , روح الشمس في ممرّات الخردل .
مالذي يحرّك مخيّلة الشاعر أثناء كتابة القصيدة , ومالدافع الداخلي النابض الذي يدفع الشاعر الى كتابة القصيدة ..؟؟!!! .
انّ الشاعر انسان استثنائيّ , غير طبيعيّ , قلقٌ دائماً , وغير مستقر نفسيّا , مهوسٌ بالشعر والابداع , بمقدوره أن يدجّنُ هذا القلق وعدم الاستقرار النفسيّ عن طريق فكتابة الشعر . انّ الشاعرة : سلوى علي , استطاعت ان تجعل مِنَ التمزّقات التي كانت تعاني منها نفسيّاَ الى قصيدة تخلّد الفاجعة . أنَّ الشاعر الذي لا يمتلك ضميراً حيّاً , هو شاعر تافهٌ , والشاعر الذي ( لا يحبلُ ) بكارثةٍ فضيعة لا يمكنه ان يكتب مقطعاً نصيّاً حقيقياً يتوازى مع محنته , هكذا كانت الشاعرة وهي تكتب عن قضيتها وقضية شعب بأكمله , لقد ( حبلتْ ) فولدتْ لنا هذا المولود ( القصيدة ) المجروحة الخاطر , والمثقلة بهول الألم والمحنة , لقد كانت الشاعرة قد احترقت , فكان رمادها شعراً يؤرّخ لهذه الفجيعة , أنّ الشاعرة قنبلة موقوتة , انفجرت فكان نتيجة هذا الانفجار هذه القصيدة ( روح الشمس في ممرّات الخردل ) , لقد كانت الشاعرة مهوسة بذكرى مؤلمة عذّبتها كثيراً , أنّها تعاني من عقدة نفسيّة مرّت بها , وعاشت كلّ تفاصيلها حتى الدقيقة منها , عقدة تراكمت فأصبحت جرحاً عميقاً في روحها وذاكرتها الحيّة , أنّها الذات المسكونة بالهمّ الداخلي الذي جعلها تلجأ الى الشعر في ترجمة معاناتها الفظيعة , أنّ هشاشة روحها جعل منها حسّاسة جداّ وكأنّها دُمّلة تنزُّ بالوجع كلّما داعبتها الذكرى , وراودتها المشاهد المؤلمة , أنّ الأزمة النفسيّة التي تركتها في أعماقها هذه الفاجعة حرّك روحها , وأقلقتها كثيراً , وجعلتها شعلة تحترق بهدوء وهي تسرد لنا مصيبتها .
أنّ عنوان القصيدة هذه ( روح الشمس في ممرّات الخردل ) , يدلّ على أنّ ثمن / الحرية – الشمس / الموت – الخردل / , من هنا نقرأ هذه المساحة الشاسعة منَ الألم والخيبة والخسران والموت , ثمن باهض وفجيعة مهولة , فالشاعرة تبتدأ قصيدتها بهذه الطقوس المرعبة / طقوس مغروسة بطعم الرماد تكتظّ بالذكريات / , ذاكرة حيّة لمّا تزل تكتظّ بالكثير من الذكريات المؤلمة والفظيعة , طقوس ترافقها أينما كانت وتكون كالزمن الذي لا فكاك منه , فنحن سنبقى تحت رحمة هذا الزمن , ونعيش فيه رغماً عنّا / تتجوّلُ في عقارب الساعات / , لتثقب الاحزان حين دسّت اشعة الشمس بالقبور أمام ضوء القمر / أنّ الكارثة هي الحاضر الاول في تحريك مخيلة الشاعرة لكي تكتبها كما عاشتها هي , أنّها تصوّر البشاعة أصدق تصوير مشحوناً بالكثير من التشظّي والوجع / جماجمها زرعت في كتب الرهبة تصمت رصاصاتها شهقات الحضارة لنار سرمديّة يستلذُّ بأطفال يتلوّن آيات الشيب على جناح فراشة فوق هامة عزرائيل / ما اجمل تصوير هذه الفجيعة والكارثة الانسانيّة , لقد كانت الارض مزرعة جماجم , وأيّ جماجم هذه , جماجم أطفال وشيوخ ونساء كالفراشات الرقية يقلّبها ( عزرائيل ) ..!! , ثم تسترسل في تصوير هذه المشاهد المرعبة / هناك تخمّرت أوتار النزف وصدى الرؤيا بذاكرة التنزيل , لتبلّل لحظات الاحتضار/ في تلك الارض المنكوبة ظلّت تحتفظ ذاكرة الشاعرة بكل تفاصيل محنتها , وتشهد لحظات الاحتضار والموت السريع , / فيتلاشى سالك دروب الصمت عبر ممرّات الخردل أتعبه الرقص بين اوراق الربّ , فانكسرت بهجة الشمس قبل ان تصرخ هل مِنْ نصير ..؟؟ / نعم فيحلّ السكون والصمت والموت وتنطفئ الشمس ويحلّ الظلام الكثيف حين تغلق العيون أجفانها , / نفضت شال الابجديّة لتمتلئ قوارير الربّ تحت جدائل ذهبيّة على صدى صوت حقول السنابل المجروحة قبل مواسم الحصاد برائحة حدائق التفاح لتشقّ صدر الديمومة في جنّات عدن / هنا نجد المقدرة الابداعية لدى الشاعرة في تصوير هذه المشاهد المأساوية عن طريق اللغة التجريديّة – التعبيريّة , لغة حيّة استنفرت طاقاتها واستنطقتها وبثّت فيها العمق المأساوي الانساني , وجعلت مِنَ المتلقي يقرأ ما وراء الكلمات مِنْ معاناة انسانيّة , استطاعت أن تصوّر لنا بشاعة الموت وهمجيّة الانسان حين يتخلّى عن انسانيته مِنْ أجل مصلحته الشخصيّة , ثم سرعان ما / يأتي المصير ويمتزج الطوفان , بلحظة انفجار , وصاح الدم في الحقول لا مأوى لقد أورق المستحيل , فتساقطت النجوم على همس الليل المبلّل بالحنين وهي تدندن بصوت نوارسها الصباحيّة الراحة أغنية ../ لقد غرست الشاعرة في نفوسنا ملامح الخوف الذي حلّ بتلك الارض ( حلبجة ) , وطقوس الفناء والرعب والالام , لأنّ روح الشاعرة كانت تسكن في / ممرّات الخردل – في الممرّات المؤدية الى الموت البشع / , فهي الشاهد على ما حلَّ , فنحن في هذه القصيدة لا نرى هذه الذات الشاعرة , ولكن نتلمس رفيف أجنحتها الرقيقة وسط هذا العذاب والدمار , وهي تحاول برفرفة اجنحتها أن تزيل غبار الهمجيّة عن بتلات الورود المحترقة , تحاول ان توقظ الارواح الغافية على أسرّة الموت المتوحّشة , أنّها تحاول ان تزيل عن أجساد الاطفال أطناناَ مِنَ الاوجاع , أنّ الشاعرة حمّلت قصيدتها هذه ابعاداً انسانيّة وهموماً , فهي تغوص في اعماق ذاكرة الارض المنكوبة , لتستنطقها مِنْ اجل ايصال صورة واضحة وصوتاً نقيّاً عن كارثة انسانيّة , وتحفّز التفكير على أن يلعن الديكتاتوريات البغيضة , وينمّي في الروح حبَّ الحرية والسلام والحياة . ثم تختتم قصيدتها بهذه الاغنية الفلكلوريّة القديمة التي كان أهالي ( حلبجة ) يتغنون بها :
أريد وردة مِنْ بتلات الورد
وردة مِنْ حدائق حلبجة
وردتي وردتي وردتي .
أنّها عشق الحياة والجمال والحرية .
لقد كانت القصيدة عبارة عن انظمة متداخلة ومترابطة سلسلة ذهبيّة , بعضها يوحي والاخر صوّر , تتجلّى حاضرة داخل نسيجها الشعري , أنّها عبارة عن تجربة أدبيّة نابعة مِنْ أعماق الذات الشاعرة , مشحونة برؤية أدبية عميقة و أنّها عبارة عن التقاط المعنى العميق وبثّه في روح المتلقي ليتعامل معها بطريقة ايجابية . أنّها القصيدة السرديّة التعبيريّة التي تتجلّى فيها طاقات اللغة , والخيال الخصب المنتج , والفضاءات الشاسعة مِنَ الجمال والابداع الفذّ .
أنَّ هذه القصيدة تحكي عن محنة الأنسان ورحلته في البحث عن الحرية والضياء والشمس , أنّها مأساة الإنسانية في هذا الزمن , أنّها حكاية المدينة التي كانت آمنة مسالمة ( حلبجة ) التي قصفها النظام السابق بالقنابل الكيمياويّة , فأباد أهلها , وترك الرعب يعشش في قلوب الناجين منها .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق