لن يسمع العالم ، بأغلب الظن، بتفاصيل القضية التي رفعَتها يوم الثلاثاء الفائت مجموعة صغيرة من المواطنين العرب المسيحيين المقدسيين، بالنيابة عن بعض المؤسسات الأرثوذكسية المقدسية وبالأصالة عن أنفسهم، ضد قرار شرطة إسرائيل القاضي بتحديد أعداد المشاركين في احتفالات عيد الفصح التي ستجري في رحاب وداخل كنيسة القيامة، وأهمها صلاة "الجمعة العظيمة"وصلاة سبت "فيض النور" ، وقداس "أحد القيامة".
أكتب مقالتي قبل صدور قرار المحكمة العليا التي لجأ اليها الملتمسون باسم الدفاع عن حرية العبادة والحركة في مدينة محتلةٌ كل أركانها؛ وذاك لأنني أفترض أن هذه المحكمة ستبقى، كما كانت، بعيدة عن احقاق العدل مع الفلسطينيين، ولأنني على قناعة بأن مشكلة المواطنين الفلسطينيين المسيحيين تبدأ مع ما يضمره لهم رؤساء هذه الكنيسة اليونانيون - الذين يتسيّدون على كنيسة القيامة وعلى أهم الكنائس المسيحية الأخرى في "الأرض المقدسة"، ويبسطون على جميعها سلطتهم المطلقة - وتنتهي في مواجهة قمع الشرطة الإسرائيلية التي تنفّذ سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، بذريعة المحافظة على سلامة الناس وأمنهم.
لن أستعيد، في عجالة، تاريخ هذه العلاقة المأساوية بين أهل البلاد العرب المسيحيين وبين من استعمروا الكنائس وأوقافها بمؤازرة السياسيين وتعاون رجال إكليروس عاجزين، وتواطؤ حفنة من أبناء هذه الكنيسة المنتفعين؛ لكنني أؤكد على مشاعر الاغتراب القاسية، والمهينة أحيانًا، التي تنتاب كل مسيحي حر حين يدخل هذه الكنائس التي يتحكّم فيها كاهن أو كهنة يونانيون، خاصة في كنيستَي القيامة (أم الكنائس) والمهد. وهذا هو بيت القصيد في هذه الحكاية .
فالقضية، إذًا، أكبر من كونها معركة على ضمان حرية العبادة والحركة لسكان حارة النصارى أو للوافدين إلى البلدة القديمة في هذه الأيام. ورغم أهمية هذه المعركة القضائية التي يخوضها بعض الغيورين على القدس، يجب أن نتذكّر أن الفصح، عند مسيحيي الشرق يُعدّ من أهم الأعياد، لا بل هو العيد الكبير، عيد الأعياد وموسم التهاليل والفرح العظيم؛ وهو، في البداية وفي النهاية، عيد مدينة القدس التي كان ترابها مأوى رقاد السيد المسيح، وعنوان قبره الذي يعتبر القبلة المشتهاة عند جميع المؤمنين من مسيحيي العالم.
لقد دافع الكثيرون من عرب فلسطين المسيحيّين، منذ أكثر من قرن، عن كرامتهم الإنسانية وعن هويّتهم العربية وعن إيمانهم بمسيحية مشرقية، وحاولوا، رغم جميع العراقيل التي واجهوها، تحرير كنائسهم وحماية عقاراتها وأوقافها ؛ لكنهم فشلوا لأسباب عديدة،، فبقيت معظم تلك الكنائس وممتلكاتها، الروحية والمادية، تحت حكم أغراب مستعمرين جاؤوها في حقب تاريخية رمادية وفي ظل أزمات عانت منها مجتمعاتنا المحلية، فأسروا صليبها واستحوذوا على مسيحها؛ على مهده وعلى قبره، وتنمّروا على رعاياها العرب من اهل البلد.
ليالي شرقنا طويلة، "فكليني لهمٍّ يا أميمةَ ناصب" ؛ هكذا كتبت قبل أكثر من عقد وكان ليلنا حينها كليل النابغة الذبياني، وأمانينا كالنجمات معلقة على أهداب السحاب. لم نحب النابغة أكثر من أترابه من فحول ذلك الزمن، لكنني ما زلت أذكر كيف علّمونا أنه "أشعر الناس إذا رهب" وأنه "لا يرمي إلا صائبًا" وهو الذي أجاد ووصف "ليلنا البطيء الكواكب". لقد كنا في الأمس صغارًا وكانت صباحاتنا كصباحات صغار اليوم، كلّها نزوات؛ وكبرنا فصارت ليالينا، كليالي كبار الأمس، كلّها شهوات، وبقيت جُمعاتنا كجمعة الذبياني حزينة وعظيمة وأمانينا معلقة على حدبة العمر.
لا حاجة لتغيير ما كتبت حينها، قبل أكثر من عقد؛ فالخلاصات في أرضنا السليبة تبقى مثل "بنات الجبال" ؛ و"جمعة القدس" تأتينا منذ ألفي عام بفرحها الحزين وبآمالها الكسيرة، وكأننا نعيش في زمن توقف منذ دُقّت المسامير في راحتي “ابن الإنسان” بعد أن علّقه الرومان، أباطرة ذلك العصر، على خشبة، صاغرين أمام جبروت من تسلّحوا بغضب ربهم وصالوا بمالهم وأمروا فنالوا.
لقد كانت أيام خَلِّ وما زالت؛ ففتشوا عن الحكمة في هذه الرواية وستجدوا أبناء فلسطين يتجرعون اليوم خلّ الطغاة كما تجرّعه ابنها بعد ان اتهموه بالكفر وبالتمرد وسجنوه وعذبوه وحاكموه، فمات مصلوبًا لتروي دماؤه قحل الزمن ولتبقى كلماته نورًا في الأرض وغرسًا في قلوب الأنقياء والضعفاء الفقراء.
لقد وقف أسير فلسطين، ابن ناصرة الجليل، ولم يعترف بشرعية محكمته وقد اتهموه بجناية "التجديف" فاضطروا الى نقله لبلاط الوالي الروماني كي يقاضيه هذا بتهمة التمرد على سلطة قيصر؛ وذلك بعد ان تبين للكهنة اليهود أعضاء "السنهدرين" أن روما لن تقبل اتهامه بجناية التجديف لكونها تهمة مبنية على المفاهيم الشرعية لتلك الطائفة اليهودية .
لم يعترف يسوع التلحمي بالتهمة ولا بشرعية الوالي الروماني، ورفض، رغم تعذيبه، التعاطي مع "المحكمة". لن أسترسل بتفاصيل أسبوع الآلام ونهايته بعيد الفصح المجيد؛ فالمسيح خرج عن طاعة الكهنة اليهود وكان يعرف بأن الاجراءت بحقه هي مجرد مؤامرة مدبرة من مجموعة كهنة خافوا على سلطتهم ومواقعهم فلفقوا القضية ضده. لم تكن أحلام صاحب الفصح من شوك ولا تعاليمه سفسطة، وقد أوجزها بموعظة صارت تعرف "بموعظة الجبل" التي وصل صيتها حتى أورشليم، فجاء أهلها "رقاق النعال" يستقبلونه بالريحان على مشارفها وبالأهازيج وبالسباسب، وهي سعف النخيل في لغة النابغة الذبياني وأهل عصره.
لقد أسموه عيد الفصح ؛ عيد العبور، عيد التجاوز والانعتاق، عيد “القيامة”، فمن يسر على درب الخير وعمل الصالحات ينجو ويعش اسمه إلى الأبد.
هكذا آمنا صغارًا، من باب الخوف وغريزته الأقوى حين تواجه المجهول والمطلق. فأخذنا من السالفين ما ورثوا ورددوا فصار “هذا هو اليوم الذي صنعه الرب، فلنفرح ولنتهلل به”. ثم كبرنا ولم يبقَ في صدورنا غير القلق الأكيد والفرح الإنساني البسيط، فأسكنا "القيامة" في بيضة وأعطيناها للاطفال كي يلهوا ويتفاقسوا بها؛ أمّا إكليل الشوك فحوّلناه كعكًا من قمح هذه الأرض فطحناه وعجناه وحشونا بالتمور وبالجوز والسكر. وإسفنجة الخل استقوينا عليها بخيال الحالمين فخبزناها بأجواء كلها إلفة عائلية معمولا ليؤكل ويمحو طعمه، ولو ليوم واحد، طعم الخل والعلقم . إنها تحايلات البشر على هشاشة الرمز وعبثية المعنى، وموروثهم المنقول كوسائل إيضاح بدائية لعقول، مهما سمت وتسامت، سيبقى مفهوم القيامة عليها عسيرًا أو عصيًا .
عيدنا اليوم كعيد الذبياني، ولا يختلف عنه عيد "أبي الطيب": فرح حامض وبهجة عابرة؛ همٌّ ينام ولا يترك وسادة لنوم حامله.
إنه عيد الحياة والفداء والتضحية؛ عيد الحب والصفح؛ تمامًا كما أوصى وهو على ذاك الجبل: “أحبوا أعداءكم وباركوا لاعنيكم وأحسنوا لمبغضيكم”. لقد قالها ومشى إلى أورشليم، والنهاية كانت كما جاء في الكتب
واليوم، في هذه الجمعة الحزينة، تبكي عذارى أورشليم على دروب الآلام كما بكت قبل ألفي عام، وكما بكت معهن مريم الممتلئة نعمة ونقاء؛ والمحتفلون بالعيد يتلون دستور الايمان عن ظهر غيب، ويلجأون إلى سحر المجاز الذي في البيض والكعك والمعمول، ويحتفلون بقيامة سيّدهم.
لقد ذهبت روما وبقي "قوس بيلاطس البنطي" في القدس البهية شاهدًا على محاكم الظلم وعلى معاني الفداء، وبقيت فلسطين، في الفصح، كما كانت: بحة المدى وصاحبة فجره الدامي، وقطرة الندى؛ وان غفا على جفونها الوعد حتمًا ستصحو ذات نيسان ليحتضن أبناؤها "قاف" القمر وليندلق من خواصر مريماتها نور الأزل.
فكل عيد وجميعكم فوق الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق