ما زالت مشاهد قتل شيرين أبو عاقلة وتداعيات جنازتها التي استمرت على مدى ثلاثة أيام كاملة، تسكن فينا وتستثير الدهشة والدمع الذي تغلب على "حياء جرير"، فبكى الرجال أيضًا، في فلسطين وأبعد، موتًا استثنائيًا نزل عليهم في زمن استوطن فيه القهر حلوقهم وجفف الذل منابع آمالهم.
لن تنتهي محاولات الباحثين والمحللين لسبر حقيقة هذا الحزن المتدافع نحو أقاصي المدى، بتحدّ وحب خرافيين، وكأن شرايين السماء تقطعت فجأةً، وأمطرت على "بلاد شيرين" غضبًا مغموسًا بتباشير بعث بطولي، كنا نعتقد أنه هجر مواقعنا وعاد إلى مأواه في الأساطير.
لم تكفِ تباريح المجازات كلها في وصف هذا الموت؛ ولم تسعف أحابيل البلاغة في رسم تقاسيم روح أيقونته الباقية. سيذهب الزبد وسيبقى، في بعض الفداء، صوت دم الحقيقة النازفة ، وتردّد صدى القرابين المذبوحة الراحلة مسموعين. هي كذلك "أرضنا المقدسة"، تنام على حد سيف يوشع وزعيق أبواق أنبيائه الذين صلوا باسم ربّهم من أجل "أرضهم الموعودة"، وتصحو على حشرجات الفجر فوق التلال الفلسطينية المحتلة المغتصبة.
ليس من الصعب أن نتصور كم سريعًا سوف ينسى حكام العالم مقتل "ابنة الورد" الفلسطينية الندية؛ فعندهم يحصل كل شيء في عالم افتراضي ومتغيّر، بينما يبقى عهرهم ثابتًا، ولهاثهم، وراء صنّاع الفجور والظلم، دينًا ودنيا.
قد تتباعد، بالمقابل، الذكرى عن موطنها وتتسرب أنفاسها الحزينة في أخاديد الزمن الفلسطيني والعربي؛ ولكن ذاكرات هذه الأجيال، التي تخصّبت من روعة الحدث، لن تنسى كيف بكى السحاب أنوارًا، وشهقت طيور الجنة حائمة فوق نعش المقدسية، وكيف تمنت كل الحرائر أن يقفن اشبينات لشيرين في أبهى عرس ذكّر الناس بدموع المجدلية.
شيرين المسيحية، فلسطينية الوشم
انني على قناعة أن شيرين تنظر علينا من فوق وهي حزينة مرتين: مرّة لأن بعض رؤساء الكنائس، وفي طليعتهم قداسة البابا، تنصلوا من معرفة الحق، فلم يتحرروا، كما جاء في الآيات، بل غابوا عن المشهد وتلعثموا في تأثيم الجريمة والمجرمين وفي الدفاع عن الضحية؛ ومرّة عندما حرّم من حرّم، بفتوى مقحمة، الترحم على من افتدت عزة الضعفاء والمقهورين بروحها الطاهرة، ذلك لأن الترحم، بحسب هؤلاء المفتنين، على غير المسلم، حرام.
من الواضح أن معظم الناس اكتشفوا ديانة شيرين بعد عملية قتلها، حيث كان لكشف هذه الجزئية تأثيرًا صاخبًا ايجابيًا أدّى إلى مضاعفة التعاطف والحزن عليها. لقد مارست شيرين مهنتها لمدة ربع قرن بتفان مطلق وبتماه كامل مع رسالتها الانسانية في الذود عن الحقيقة التي بحثت عنها في كل خبر نقلته وفي كل تقرير أعدته بمهنية وبصدق؛ وكانت، في سبيل الدفاع عن قضيتها الأولى والأخيرة، عن فلسطين المكلومة الحرة، تتنقل من موقع إلى آخر، وهي تصرخ من خلال حنجرتها الدافئة وعدسات كاميراتها المتوجّعة وتعلن أنّها "فلسطينية العينين والوشم ، فلسطينية الاسم/ فلسطينية الأحلام والهمّ، فلسطينية الكلمات والصمت /فلسطينية الميلاد والموت". لا أعرف إذا كانت شيرين تخبيء مسيحها بين أضلاعها وتنتخيه ساعة الخطر ، لكنني عرفت،كما عرف العالم بأسره، أنها عاشت وهي فلسطينية الهواجس والكلمات والصمت، وماتت وهي فلسطينية الروح والميلاد والاسم. وأعرف انها كانت مثال المرأة الصالحة المؤمنة التي قاومت من خلال عملها، باصرار وبمثابرة، الظلم والظالمين وساندت شعبها في مواجهة المغتصبين.
من المؤسف ألا نسمع موقف قداسة البابا ازاء هذه الجريمة وهو الذي ذاع صيته بالدفاع عن المقهورين والفقراء والضعفاء؛ فبدلًا عنه سمعنا ممثل الفاتيكان في اسرائيل يكتفي بشجب ممارسات قوات الشرطة الاسرائيلية داخل باحات المستشفى الفرنسي في القدس ومهاجمتهم للمشيعيين ولنعش الراحلة فقال: "ان تصرفات الشرطة كانت غير مبررة ولم تأت بسابق استفزاز"، وأضاف ان اسرائيل قد انتهكت حق العبادة بشكل "صارخ ووحشي" !!
ان صمتي في وجه هذه المواقف الهلامية أبلغ.
و هل يعقل ان يكتفي مثلا بطريرك القدس للاتين، وعلى أثر عملية القتل، بنشر بيان كنيسته الموجه فقط إلى آل أبو عاقلة، معلنًا أنه "ببالغ الأسى تلقيت نبأ الوفاة القاسية لابنتكم وابنتنا الحبيبة شيرين ، بينما كانت تنجز بأمانة وبشجاعتها المعتادة واجبها كصحفية لتغطية المعاناة اليومية لأهل هذه الأرض، واعطاء منظور آخر للنزاع المعقد وكافة أشكال الظلم الذي يمزق شعوب هذه الأرض" . أحقًا لا يشعر غبطته بأن هذه النصوص اللولبية تمس انسانيتنا وتحتقر عقولنا ؟
إن موقف معظم رؤساء الكنائس في القدس ازاء معاناة الفلسطينيين من قمع قوات الاحتلال والمستوطنين جدير بالمتابعة والنقاش؛ وقد برز تقصيرهم بشكل واضح خلال الجنازة؛ وما اصدارهم تلك البيانات التي تعتمد لغة فضفاضة وتعابير ديبلوماسية، إلا برهانًا على ابتعادهم المتعمد والتاريخي عن هموم المسيحيين العرب، أبناء هذه الأرض وأصحاب الرسالة الأصيلة، التي كانت من دون شك شيرين ابو عاقلة حاملتها هنا على الأرض وستكون حاميتها هناك في دنيا الأماني والوعود. ألم تكن بالنسبة لكنائسكم شيرين مسيحية صالحة؟
شيرين المسلمة، أخت الفوارس
لقد تصدت فلسطين بمعظم مؤسساتها ومنصاتها ودحضدت موقف من أفتى بعدم جواز الترحم على غير المسلمين. وكانت صور تشييعها ، بداية في مخيم جنين وبعده في نابلس ورام اللة وقلنديا والقدس، شهادات فخر لفلسطين ولشعبها. وستبقى، في الوقت ذاته، مشاهد أوباش الشرطة، أبناء الشر، وهم يهاجمون النعش وحامليه، براهين على لا انسانيتهم وشهادات على بطولة ابناء القدس الذين تحمّلوا ضرب الهراوات وصمدوا وحالوا دون سقوط النعش وكأنهم يحملون روح فلسطين ويحموها من كل أذى.
انها وقفات فلسطينية لن يمحوها التاريخ؛ ومع ذلك هنالك ضرورة لتعقب بدايات تلك الفتوى والتحقق من حقيقة انتشارها في حياتنا اليومية العادية؛ فبعضنا يعلم ان فتوى تحريم الترحم على من ليسوا مسلمين والمشاركة في جنازاتهم منتشرة في عدة مدن وقرى فلسطينية، هنا في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبيننا، داخل المجتمع العربي في اسرائيل.
لقد أتاحت لنا جنازة شيرين فرصة معالجة هذه الحالة والتصدي لآثارها المهلكة.
شيرين الجزيرة
لقد قتلت شيرين رغم أنها كانت تلبس سترة الصحافة المميزة الواقية وخوذة بارزة. وفجع عالم الصحافة في أرجاء واسعة من العالم بسبب مقتلها، ولكن فاجعة زملائها في فضائية الجزيرة كانت هي الأكبر، خاصة بين من عرفها منهم شخصيًا وعمل معها بشكل يومي وواجه مثلها نفس المخاطر والتحديات.
لقد كان لافتًا حجم الجهد الذي بذلته الجزيرة في تأمين تغطية الجنازة من كل زاوية ممكنة، وعلى جميع المستويات، الميدانية والوجاهية مع عشرات، ان لم يكن مئات، المعقبين والمعلقين والمحللين من عدة دولة في العالم. وكما فهمت من شهادات بعض الخبراء لم يكن ذلك ممكنًا لولا ان استحضرت الجزيرة كمًا هائلًا من المعدّات المتطورة والطواقم المؤهلة التي عملت بوفاء، على مدار الساعة لمدة ثلاثة ايام وتابعت تفاصيل مأساة مقتل واحدة من أبرز مراسيلها التاريخيين.
كانت شيرين مراسلة مخلصة لفضائية الجزيرة ولم تغادرها حتى بعد أن تراجعت شعبية المحطة داخل فلسطين وغيرها من الدول العربية بشكل ملحوظ وواسع. وكما شاهدنا، فلقد أوفت الجزيرة أمانتها لابنتها الفقيدة، فردّت شيرين وهي في رحلتها نحو اجمل الفراديس، على الوفاء بوفاء، وكان أن استعادت الجزيرة شعبيتها بين الناس الذين واصلوا البكاء وانتظار تحقيق وعد الجزيرة بألا يذهب دم نجمتهم هباءً.
شيرين البلاغة
سيكون صعبًا على أجناس البلاغة رسم صورة للأمل وهو يقتل على حافة العدم؛ فلنلجأ إلى "طباق" محمودنا، سيد البلاغة، الذي قال "قناصة بارعون يصيبون أهدافهم بامتياز. دمًا دمًا ودمًا، هذه الأرض أصغر من دم أبنائها الواقفين على عتبات القيامة مثل القرابين. هل هذه الأرض حقا مباركة، أم معمّدة بدم ودم ودم لا تجففه الصلوات، ولا الرمل. لا عدل في صفحات الكتاب المقدس يكفي لكي يفرح الشهداء بحرية المشي فوق الغمام. دم في النهار . دم في الظلام. دم في النهار .دم في الكلام " .
فوداعًا يا "عروسًا لا عريس لها" ، يا من وقفت على عتبات القيامة، ويا من أشعلت بموتك بوارق الأمل في أرض اليباب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق