أعباءُ الحياةِ لا تقتصرُ على الهموم اليوميّةِ الشخصيّةِ للمواطن، ولا تنغلقُ متطلّباتُهُ التقليديّةُ على حدودِ أسْرتِهِ وبلدِه، بل تتجاوزُها إلى لغةِ هُويّتِهِ وانتمائِهِ، وتتعدّى جذورَ جنسيّتِهِ وولائِهِ، كأنّها ثيماتُ احتلالٍ تمتصُّ نخاعَ صمودِهِ، وتُقلّبُ أبجديّاتِ صبْرِهِ في أتونِ التحدّي!
مئاتُ آلافِ العائلاتِ تُهاجر سنويًّا إلى بلدان أكثرَ نموًّا وتطوّرًا، لتحسينِ أوضاعِهم الاقتصاديّةِ واستثمارِ أموالِهم، وآخرون يهربون مِن القمْع والقتل بحثا عن استقرارٍ سياسيٍّ وأمنيٍّ ودينيٍّ وعِرْقيّ، وطلّابٌ يُسافرون إلى دول أجنبيّة للعِلم، فمنهم مَن يتزوّج بأجنبيّةٍ ويصبح مواطنًا في تلك الدول، ويحظى بكافةِ حقوق المواطنةِ أو بجزءٍ منها وبفرصِ عمَل واستقرار، ومنهم مَن يتجنّس ويحافظ على تواصلِه مع أهلِهِ وأقربائِهِ وبلدِهِ، ومنهم مَن يعودُ إلى وطنِهِ بعدَ حين، ومنهم مَن ينخرط في وطنِهِ الجديد وينسلخ كلّيًّا عن وطنِهِ الأم، لحدّ التنكّر لانتمائِهِ ولغته وكلّ ما يرتبط بالوطنِ القديم!
كم مِن حضاراتٍ اندثرتْ كالفينيقيّة والبابليّة والآشوريّة والقبطيّة وأخرى كثيرة، طُمِست معالمُها بفِعل الاحتلال؟
كم مِن شعوبٍ مشرّدة مظلومة، مقهورة ومهدّدة بالاندثار؟
فكيف تحافظُ على إرثِها الإنسانيّ والوطنيّ والحضاريّ على غرارِ فلسطينيّي إسرائيل عرب 48؟
كيف ينعكسُ الاحتلال والجنسيّةُ القسْريّةُ على شعبٍ ومثقّفين أُخضِعوا للغةِ وهُويّةِ وجنسيّةِ المحتلّ؟
هل تعتبرُ الجنسيّة نعمةً أو نقمة؟ متى؟ ومتى تكون الجنسيّةُ شرعيّةً ومُتاحة، أو مُحرّمةً وممنوعةً تصل لحدّ التهمة بالخيانة والتطبّع؟
ما تعدادُ الذين سيُحافظونَ على انتمائِهم للوطن، وأولئك الذين سيُسلّمون شهاداتِ ميلادِهم في مطاراتِ التجنّس؟
ما وجهُ الشبه بين هؤلاء وبين العالقين على الحدودِ مِن حمَلةِ الجنسيّاتِ الوطنيّة، كالفلسطينيّينَ في ليبيا ممّن يحملون الجنسيّة الليبيّة؟ أين مأواهم ووطنُهم مُحتلٌّ، وبوّاباتهم مُغلقة، ولَمُّ شمْلِهم بباقي أجزاء الوطن ينتظرُ اعترافًا أمميًّا بحقّ العودة؟
رسائلُ إلكترونيّة كثيرة تصلني يوميًّا مِن عالمنا العربيّ والمشتّت في أرجاء العالم، تتضمّن إشادةً بالفِكر وأسلوب الطرح في المقالة والتقارير الإخباريّة، وأخرى ذوّاقة لحرْفي الشعريّ الملامس لشغاف الخيال، فيطربُني الإطراءُ ويدفعُ بقلمي إلى الاستفاضةِ العابقةِ بمواجعِ الحياة على أمل الجدوى، لكن تستوقفني أسئلةٌ فضوليّةٌ وجادّةٌ، تستفسر عن هُويّتي وجنسيّتي ومَن أكون؟
وتقفزُ ذاكرتي الشقيّةُ إلى بداياتي في النتّ، وإلى اسمي المستعار "سحر الكلمات"، حين كنتُ أستكشفُ بصمتٍ عالَمًا جديدًا، وأُطرَدُ مِن غرفِ البالتوك بسبب جنسيّتي!
بكيتُ وبكيت حينها! فما أشقاكَ حين يكبّلُك بأغلالِ التصهينِ والجاسوسيّة أخوكَ العربيّ!
وما أشقاه أخي بجَفلتِهِ منك وبجهله وأحكامِهِ المُجحِفة بتخوينِك، تسوقهُ إلى هاويةِ الاحتلالِ الفكريّ بحقّ فلسطينيٍّ عربيٍّ، أبى إلاّ أن يتجذّر في بلدِهِ رغمَ كلّ الرغم!
وتتقافزُ عيني بينَ ذاكرتي الموجوعة وبينَ حروفِ عاشقٍ كنّاني بابنة موسى (يهوديّة)، وحروفٍ أخرى لحوارٍ مِن مجلّةٍ خليجيّةٍ يُحيّي فيها الداعية آمال رضوان، وحروفِ حوارٍ آخرَ مِن منبر الداعيات يسألُ عن رأيي بالحجاب، وعن سبب عدم اعتماري الحجاب بعْد؟
وتستوقفني رسائلُ أخرى تخاطبُني بكلّ ثقةٍ على أنّني عراقيّة! سوريّة! مصرية! أردنية! خليجية! لبنانية! كلّ الاحتمالاتِ واردةٌ، لكن؛ فلسطينيّة؟
في أيّ بلدٍ غربيٍّ تقطنين! فهل ينبغي أن أكونَ ببلدٍ آخر غيرَ موطني؟ هل يمكنُ محاكمةُ المرءِ على جنسيّتِهِ؟ مَن منّا اختارَ هُويّتَهُ الوطنيّةَ والقوميّة والدينيّةَ والعِرقيّة وجنسيّتَهُ القسْريّة؟
وصلت خبيرة الآثار والجيولوجيا الأميركية د. جنفير آلنما إلى زقورة أور غرب مدينة الناصريّة جنوب بغداد، للبحثِ عن المرشدِ السياحيّ مُحسن المغترِب، وفوجئت به يتحدّث أكثرَ مِن خمس لغاتٍ عالميّة، لكنّه يجهلُ لغته العربيّة قراءةً وكتابة، ليؤكّدَ بذلك على شكلٍ آخر لاغتصابِ واحتلال اللغةِ والهُويّة، غيرَ الاحتلالِ الحقيقيّ القائم على غطرسةِ القوّةِ بأدواتِ القتل والقهر والاضطهاد، فهناكَ احتلالٌ يتمثّلُ بالجهلِ وبدَوْرِهِ في اتّساع رقعةِ الضياع!
فكَم مِن مرشدين سياحيّين خدموا الاحتلالَ العسكريّ بدراية أو بدونِ دراية؟
وكم مِن بدويٍّ مِن مُتتبّعي الآثارِ في الرمال والصحارى خدموا الاحتلال؟
وكم مِن عشراتِ المُترجمينَ تَرجَموا لقوّات الاحتلال، وقُتلوا بعدَ إنهاءِ مُهمّاتِهم؟
منذ سنين خضت غمارَ المقالةِ المنبثقة مِن واقع إنسانيّ مرير، لا تُغيّرُ طعومَهُ لا الأيّامُ ولا الأعوامُ ولا الدهور، ووجدتُني في حالةِ إغراقٍ فكريّ مُرهق بكلّ ما يدورُ مِن حولي في هذا العالم القريب البعيد الضيّق الشاسع، فمرّة يشدّني التاريخ الى سمومِهِ المُلوّثةِ بالمآسي، ومرّةً إلى جذورِهِ الغارقةِ بدماءِ الأبرياءِ مِن البَشر!
وكإنسان لا يؤمنُ بحدودٍ جغرافيّة، تاريخيّة، عرقيّة، دينيّة أو سياسيّة، كتبتُ لأخي الإنسان، ذاك الذي يقعُ في كلّ مكان وزمان ومنذ الأزل، في ظلال الصراعاتِ والحروباتِ والمآزق، فيكون ضحيّة أخيهِ الإنسان على الغالب، ويدفعُ ضريبةً باهظةً قد تُكلّفُهُ حياتَهُ وزعزعة استقرارِ أسْرتِهِ وبلدِه!
فهل يستطيعُ الكاتبُ الحرُّ أن يتعدّى حدودَهُ المُسيّجة بالألم، كي يُحاكي المُضطهَدينَ في الأرض مِن جميعِ القوميّاتِ والجنسيّات؟
كيف يُحاكي العالَم، وحكايتُهُ تجتزُّها ألسنة القمع، وتجترُّها غوغائيّةُ الجهْل على السواء؟
هل يُجيَّرُ الكاتبُ لصالح المُهيمنينَ، ويخدمُ المُساهمين في هدْم المجتمعات، مِن خلالِ قوانين ونُظم سياسيّةٍ وحزبيّة، تسوق إلى تفاقم الشراسةِ والاستغلال والقتل والنهب بين المجتمعات والشعوب؟
وأخيرا..
الكاتبُ؛ كيف يُناهضُ العاملين على توتيرِ المعايير الاجتماعية والدينيّة، ويمنعُ اختلال الأركان السياسيّة والأطر الاقتصاديّة، التي تخلق أجواءً مِن الفِتن والانتقام والهيمنة، فيَحمي المجتمعَ مِن صيرورتِهِ رهينةَ احتلالٍ فكريّ وسياسيّ وعِرقيّ ودينيّ، أو ضحيةً تتلاعبُ بها رياحُ المآسي وعذاباتٌ وضغوطاتٌ نفسيّة، تصلُ حدّ الرعب والنزاع واللعنةِ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق