سوف ترى هذه المقالة النور أثناء تواجد الرئيس الأمريكي على أرض فلسطينية محتلة وقبل أن ينتقل لمحطة جولته الأخيرة في المملكة العربية السعودية. لن يتوقف سيل التحليلات والتعقيبات التي يحاول أصحابها فهم دوافع الادارة الأمريكية من وراء هذه الزيارة، ولا ماهية أهدافها المحددة؛ بيد أن معظم الذين تطرّقوا إليها أشاروا إلى أنها تأتي على خلفية تدهور الحالة الاقتصادية الأمريكية وانعكاساتها على حياة المواطنين الأمريكيين في مجالات الطاقة والبطالة وتخفيض قيمة الدولار؛ وأن الهدف الرئيسي، أو ربما الوحيد منها، سيعقد حول خصور صهاريج نفط حكام المملكة السعودية وفي مدى استعدادهم لمساعدة ادارة بايدن، التي بمفهوم معين، تأتيهم صاغرة، اذا ما تذكرنا مواقف هذه الادارة تجاه ولي العهد السعودي في أعقاب مقتل الصحفي جمال خاشقجي. في مثل هذه الحالة تكون تعريجة الرئيس بايدن على إسرائيل وفلسطين مجرد غطاء دبلوماسي تكتيكي، من شأنه أن يبرر تراجعه عن موقفه الأخلاقي المعلن بعد اغتيال خاشقجي، والمتمسك به أمام حزبه وشعبه والعالم طيلة المدة المنصرمة منذئذ.
أمّا على الساحة الاسرائيلية فسيرصد مردود الزيارة السياسي الفوري لصالح معسكر رئيس الحكومة الحالي يائير لبيد، ومن يُسَمّون، في قاموس السياسة الحزبية الحالي، قوى "المركز واليسار الصهيوني". هذا علاوة على ما قد تفضي إليه من اتفاقيات تعاون تجارية وصناعية، ستعزز الوشائج المتينة القائمة بين النخب الحاكمة والمستفيدة في الدولتين، خاصة في مجالات الصناعات الحربية والهايتك والسايبر .
لم أكن أنوي التطرق لتفاصيل هذه الزيارة، حيث ما زالت تداعياتها في أوجها؛ الا أنني ارتأيت تسجيل ملاحظتين عابرتين لهما علاقة مباشرة بالقضية الفلسطينية، وبنا، نحن المواطنين العرب في إسرائيل.
فعلى الرغم من اجماع معظم من كتبوا على أن بايدن وادارته لم يولوا القضية الفلسطينية أية رعاية جدية، قبل وخلال هذه الزيارة، وأن كل ما فعلوه وصرّحوا به لا يتعدى كونه ضريبة كلامية وحسب. وحتى لو كان هذا الكلام صحيحًا إلى حد بعيد، فإنني سأختلف، في هذه العجالة، مع هؤلاء، وسألجأ إلى حكمة المتشائل الفلسطيني وقناعته بأن التجاذب بين ما مضى وما سوف يكون لن يحسم إلا وفق ارادات الفلسطينيين وايمانهم بأن البقاء لصناع الحياة وأن صاحب الحق أدوم والمقاوم من أجله أقوى.
أعرف أن الظلمة حولنا خانقة، لكنني أعرف أيضًا أن الناس في بلادنا بحاجة إلى جرعة أمل وإلى حزمة نور تفج عتمة أرواحهم؛ فدعوني، من باب التمني، أرى أن زيارة بايدن لمستشفى المطلع في القدس الشرقية (وبعدها الانتقال لمقابلة الرئيس محمود عباس في مدينة بيت لحم) قد تعني، في مآلات مستقبلية، تأكيد الموقف الدولي القاضي بكون القدس الشرقية أرضًا محتلة، خاصة اذا أسقطنا معاني هذه "القفزة" شرقًا، على اعلان بايدن حول موقف دولته بشأن "حل الدولتين"، الذي يبقى حسب قوله "الطريق الأفضل لتحقيق السلام والحرية والازدهار والديموقراطية للاسرائيليين والفلسطينيين"؛ مع انني لن أنسى، بالطبع، ما أضافه في هذا السياق، لافتًا انتباهنا كيلا ننسى ومؤكدًا على أنه يعرف "ان ذلك لن يحصل في المدى القريب" !
كم نحن بحاجة لروح ذلك المتشائل كي لا نهزم.
لقد تعمّد معظم المتحدثين الاسرائيليين الرسميين في خطاباتهم الترحيبية القصيرة، في يوم الزيارة الأول، العودة إلى "التوراة" بما تؤكده، حسب جميعهم، من متانة العلاقة بين شعب إسرائيل وأرضه والتزام الأمريكيين واداراتهم لأمن وسلامة وقوة إسرائيل وشعبها. وعلى الرغم من وضوح جميع ما قيل وصحته في الوقت الحاضر، نجد أن بعض المعلّقين والمحللين الإسرائيليين آثروا، في خضم مشاعر النشوة الاسرائيلية، تذكير متابعيهم وقرّائهم بتشخيص مغاير يشي بوجود بدايات مأزق في ديمومة هذه "الزيجة الكاثوليكية" وببروز أصوات معارضة لها، سواء داخل حزب بايدن نفسه أو في محافل أمريكية كثيرة أخرى، ومنها رؤساء عدة كنائس أمريكية (كانت آخرها الكنيسة المشيخية الهامة) بدأت تتنصل من "قدسية" تلك العلاقة التاريخية وطفقت تتحدث باسم الحق الفلسطيني الانساني وضد الاضطهاد الإسرائيلي للفلسطينيين. إنها قضية طويلة ومعقّدة تستحق العناية الخاصة والفائقة. وقد نوهت في الماضي إلى ضرورة اقامة جسم فلسطيني مكوّن من خبراء متخصصين في دراسة ومتابعة علاقات الكنائس بالقضية الفلسطينية، بدءًا من الفاتيكان ومرورا بأمريكا وغيرها من الدول التي سمعنا من كنائس كثيرة فيها مواقف داعمة ومؤثرة لصالح القضية الفلسطينية وحقوق الفلسطينيين المسلوبة.
أمّا عن علاقتنا، نحن عرب الداخل، بهذه الزيارة فقد لفت انتباهي خبر أفاد أنه من المتوقع أن تحرز زيارة بايدن للسعودية اتفاقًا يسمح بموجبه للحجاج المسلمين الاسرائيليين بالسفر إلى السعودية من مطار بن غوريون إلى جدة مباشرة. وهي خطوة ستؤكد عمليًا سلامة مراسيم التطبيع واكتماله بين المملكة السعودية وإسرائيل، التي تكون قد اهتمت بتمثيل مصالح ما يقارب المليونين من مواطنيها العرب.
لن نخوض في هذه المسألة قبل حدوثها؛ مع أن البعض كانوا قد أثاروا في الماضي حساسية قضية اشتباك تحريم "التطبيع" مع تأدية فريضة الحج، في حالة المواطن الاسرائيلي المسلم؛ خاصة عندما قورب بين هذه الحالة ومنع الأقباط المصريين، أو غيرهم من مسيحيي الدول العربية، من تأدية مناسك الحجيج إلى كنائسهم المقدسة: المهد والقيامة والبشارة وغيرها.
قد نكون في عروة قضية جانبية وهامشية؛ ولكن، إن كان التفات مهندسي السياسة الإسرائيلية إلى جزئية تسهيل مراسم الحج يدل على أنهم يخططون عمدًا، في حالتنا، كي يصبح المواطنون المسلمون في إسرائيل جزءًا من الرزمة السياسية الشرقأوسطية العامة، ومشاركين في عملية التطبيع التي يسعون إلى ترسيخها مع النظام في المملكة العربية السعودية، فلماذا لا نستغل هذه "المكيدة" لاحراج حكام إسرائيل وحلفائها، السعودية وأمريكا وجميع الانظمة المشاركة معهم، ونتوجه إلى جميعهم، كأقلية قومية تطالب بحقوقها، ونحاول توريط الادارة الأمريكية مع الحكومة الاسرائيلية، في عرض مطالبنا المواطنية التي تتعدى حق المواطنين المسلمين بقضاء فريضة الحج، هذا على افتراض أن هذا الحق يعلو على فرض تحريم التطبيع، كما كان الوضع عليه منذ عام 1948 حتى العام 1978.
أعرف أن موقف بعض الأحزاب السياسية والحركات الدينية تحرّم التواصل مع الإدارات الأمريكية الكافرة، بالنسبة لبعضها، والمعادية لحقوق الشعوب ومصالحها ؛ وقد تكون التجارب التي شاهدناها وعشناها في العقود الماضية أفضل برهان على صحة هذا الموقف؛ علمًا بأنه تاريخيا كانت لتلك الشعوب، أو الأقليات المضطهدة، وبضمنها الشعب الفلسطيني ومنظمة تحريره، ملاذات آمنة يلجأون إليها كي يضمنوا قسطًا من توازن القوى ويتجنبوا الهزائم.
لن أستعرض محطات سقوط الأنظمة والمجتمعات منذ نهاية ثمانينيات القرن المنصرم لغاية أيامنا، والتي تخطت فيها أنظمة كثيرة في العالم، الموحّد وغير الموحّد، محاذير الحديث عن التطبيع مع إسرائيل وشرعنوا بدله بناء التحالفات معها من النخاع للنخاع.
في مثل هذا الواقع، الذي تضمحل فيه خياراتنا النضالية وتزداد أوضاعنا سوءًا يومًا بعد يوم، أنا أسأل: لماذا تعجز قياداتنا عن التفكير في وسائل مبتكرة جديدة وخارجة عن المألوف وعن بعض التابوهات الصدئة؟ ماذا لو أعدّت هذه القيادات ورقة "عرضحال" وقدمتها لبايدن خلال زيارته وهي شاملة لحقوقنا المسلوبة ولممارسات حكومات إسرائيل المتعاقبة ولسياسات القمع والاضطهاد العنصري الذي مورس ويمارس ضدنا، خاصة أننا نتوقع تفاقم هذه الأوضاع بعد الانتخابات القادمة، رغم زيارة بايدن وامكانية تجييرها لصالح معسكر "المركز واليسار الصهيوني". ماذا لو جرّبنا وحاولنا التأثير على أنظمة أثبتت انزياحها لصالح إسرائيل، خاصة في وضع صارت فيه معظم أنظمة العالم قريبة من إسرائيل ومن أمريكا.
إنها مجرد أفكار حضرتني من وحي واقع عبثي ومأزوم. كنت قادرًا على لعن الظلام، لكنني حاولت أن أشعل شمعة في زمن كله ليل وصحراء ورصاص وموت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق