لا شعر دون احداث دهشة لدى المتلقي , ولا شعر دون اثارة المتلقي , ولا شعر دون ان يغذي الذائقة الجمالية , ولا شعر دون فكرة واضحة تتحرك في النسيج الشعري حركة متناسقة , ولا شعر دون ان يكشف لنا مواطن الجمال والابداع , فلغة الشعر يجب ان تكون طرية غضّة تعبّر عن صدق ودفء المشاعر الانسانية , وعلى الشعر ان يبحث عن حالة الجدل والصراع بين الشاعر وهذا الكون .
ان القصيدة السردية التعبيرية قصيدة ناضجة لا يمكن تقليدها , فكل قصيدة تعتبر كياناً شعرياً مستلاً بذاته , فهي الوعاء الخاص بالشاعر الذي يملأه بأفكاره واطروحاته الفلسفية والفكرية والجمالية الخاصة به , تتطور فيها اللغة عن طريق مفرداتها , فهي الانعكاس الحقيقي لمشاعر وعواطف الذات الشاعرة , التي تختلج في أعماقها , وتحاول اثارة المشاعر والانفعالات عند المتلقي , وتنقل لنا نظرة الشاعر الى الحياة وتفاعله مع الواقع , والتعبير عن الذات الجمعية عن طريق الذات الشاعرة , وتأملاتها في هذا الوجود . على الشاعر ان يرتقي بلغته الشعرية الى مستويات مغايرة عما هو متداول في التوصيل المعنوي مستخدماً لغة نابعة من اعماقه , فالشاعر صائغ يعيد صياغة مفرداته بشكل غير مألوف , وكثيراً ما يركز على الجانب الروحي بأشكال وتعابير تعبيرية صادقة , ويخفق الشاعر حينما يفشل في اعادة صياغة لغته وإلباسها ثوبها البرّاق والشفاف والطري حينما تبتعد عن ملامسة روح وقلب المتلقي وصميم فكره , ان صدق الشاعر يتجلّى بوضوح عن طريق تفاعله مع الواقع وحرارة التعبير عن الموضوع الذي يريد ايصاله للمتلقي .
ان القصيدة السردية التعبيرية هي القصيدة التي تتخلّى عن الوزن والقافية على حساب الحرية التي تمنحها للشاعر فيحلّق عاليا في سماوات بعيدة من الابداع والجمال والفرادة , تكون فقراتها النصية سلسة , وفي نفس الوقت صعبة الانقياد والكتابة , لا تمنح نفسها للشاعر بسهولة , تحتاج الى معرفة دقيقة بروحها وشكلها وجماليتها , تعبّر عن هواجس النفس الدفينة , وعمّا يحدث في اعماق الروح , وتثير المتلقي وتجعله يقف امامها مندهشاَ متحيّراً قلقاً , انها تكتب على شكل كتل واحدة وبدون تشطير او ترك فراغات بين فقراتها النصية او نقاط , وتكون طبيعتها شعرية , حيث ينبعث الشعر الكثير من النثر الكثير , تُكتب بالجمل المتوالية والفقرات المترابطة فيما بينها , وتحتفظ بخصوصيتها الشعرية , وتبتعد كثيراً عن السرد الحكائي , تكون الكتابة فيها متواصلة , وتمتاز بكثرة الصور الشعرية والمشحونة بزخم شعوري عاطفي شديد , هي المزاوجة ما بين النثر والشعر , والتشظّي الشعري , تبتعد كثيراً عن التشطير ولا تكتفي بالصورة الشعرية المعهودة , كل جملة فيها عبارة عن سطر شعري , فهي ليست قصة او مقالة , هي لا تمتلك ثيمة ولا تسلسل حكائي ولا تطور حدثي كما في القصة , فقراتها النصّية تتابع وتتوالى , وكذلك صورها الشعرية الكثيرة , وما فيها من كمية مشاعر وأحاسيس مرهفة , قادمة من اعماق الذات الشاعرة , تحافظ على الرمزية الايحائية والتكثيف اللغوي والصور الشعرية والانزياحات اللغوية , هي القصيدة التي لا تعتمد على توظيفات بصرية ايقاعية , التعبيرية فيها تعني التقاط المعنى العميق والدفين , واظهره بصورة شعرية مذهلة , لغتها التعبيرية تكون بلّورية , ومن خلالها نستطيع رؤية العوالم الداخلية للذات الشاعرة .
ان نظرة واحدة على قصائد الشاعر : كامل عبدالحسين الكعبي في ديوانه المعنون : طواف المداءات – خير دليل على قولنا هذا , فنجد النَفَس الشعري الطويل والفذّ من خلال كتابة القصيدة السردية التعبيرية على شكل قطعة واحدة , أي كتلة متوهجة وبشكل فقرة نصّية واحدة , فمثلا في قصيدة / على شرفات الفجر / تتجلّى مقدرة الشاعر على ذلك / معَ زقزقةِ العصافيرِ أشرقتْ همساتُ الجفونِ تتغنّجُ بدلالٍ على أغصانِ القمرِ ترسمُ صورةَ مطرٍ عانقَ ضوءَ الأبجدياتِ أبهرَ غيومَ الشعرِ أربكَ القوافي في أفواهِ القصائد فتلعثمتِ الألسنُ من بين الشفاهِ وعلى شواطِئ النسيانِ حطّتْ سفائنُ النجوى تتوهُ بحلمٍ يترامى معَ لحظاتِ الذكرى يسافرُ نحوَ الهيام يرتّلُ آيات الولهِ تحتَ جلدِ الانتظارِ تتواردُ دلالاتُ المعاني بفيضِ المشاعرِ وتنداحُ بحسٍّ عميقٍ القلبُ أعياهُ ليلُ الصقيعِ فاشتاقَ إلى حرقةِ الجمرِ هيّ المسافاتُ مشغوفة بتراتيل الوجعِ لا تهادنُ لا توادِعُ لا تَقْبلُ أنصافَ الحلولِ يا أيّها الدرّ المنسكب من ثغرِ الصباحِ رمّمْ ثقوبَ الليلِ بترانيم الشمسِ دعِ الظلالَ تتراقصُ على سطحِ أوراقي الذابلةِ زيّنْ سحبَ الشرودِ مزّقْ خيوطَ الشتاتِ هدّمْ جدران الصدودِ وأعْطِني من فجركَ شعاعاً أرسلهُ على طولِ المدى . / . ونجد هذه المقدرة الابداعية لدى الشاعر في جميع قصائد هذا الديوان الذي يعتبر اضافة كبيرة للقصيدة السردية التعبيرية وانتصارا للجمال والابداع , لقد سعى الشاعر في ديوانه هذا جاهداً أن يقبض على الشعر من خلال بحثه عنه وقد نجح في ذلك نجاحاً باهراً .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق