“المهرجان الأوّل للقصيدة بالمحكيّة اللبنانية”/ تظاهرة أدبيّة أشّرت على المرتبة الرفيعة لمحكيّتنا في تراثنا الأدبيّ!/ د. مصطفى الحلوة

 


رئيس”الاتحاد الفلسفي العربي”


ثلاثةٌ شبكوا الأيدي، رفعوها إلى الأعلى، وكأنّنا بهم يُقسمون على أن يبقوا متكافلين متضامنين، كي يُحيلوا لبنان، من جنوبه إلى جبله فإلى شماله، مساحةً لحراك فكري راقٍ، علّهم يُبدّدون العتمة التي تدهمنا، من كلّ فجٍّ عميق!

ثلاثةٌ باتوا شموسًا، إذْ وطّدوا العزم على تبديد ليلنا الطويل، مُدخلين الفرحَ إلى قلوبنا، بعد طولِ تجهُّم وعبوس!

ميراي شحادة، رئيسة”منتدى شاعر الكورة الخضراء”، وحسّان عصمت، رئيس “منتدى شواطىء الأدب”، ومردوك الشامي، رئيس”ملتقى حبر أبيض”، هم الشموس، أضاءوا أيامنا الثلاثة الخوالي بِ “المهرجان الأوّل للقصيدة بالمحكيّة اللبنانية”، برعاية من وزارة الثقافة واتحاد الكُتّاب اللبنانيين،  فكانت ثلاث أمسيات، أولاها في بشامون(عاليه)، والثانية في العباسيّة(صور)، والثالثة حطّت الرحال في مسقطي، طرابلس الفيحاء! كان المهرجان  بحقّ تظاهرة أدبيّة ووطنيّة جامعة، احتشد لها خمسة عشر من شعراء المحكية والزجل، وواكبها جمهور “ذوّاق”، تفاعل، إلى مدى بعيد، مع غالبيّة هؤلاء الشعراء، الذين نمّوا عن علوّ كعب، في عالم الشعر، بالمحكيّة اللبنانية. بل أنهم أرهصوا بحركة تجديد، في هذا اللون الشعري !

لقد قُدّرَ لي- وأنا المهجوس حديثًا بالشعر المحكي- أن أُشارك، حضورًا، في الأمسية التي استضافتها طرابلس(قصر نوفل)، حيث تقاطر العشرات، الذين أنصتوا لكلمات “ليست كالكلمات”، تصدح بها حناجر الشعراء، المنتمين إلى مناطق مختلفة من لبنان.

إستهلالًا بالنشيد الوطني اللبناني، وتمهيد رائعٌ للأمسية وتعريف بالمتكلمين والشعراء، من قِبل د.أماني فارس أبو مرّة. كانت كلمة للشاعرة المبدعة حنان فرفور(ملتقى حبر أبيض)، أعقبتها كلمة د.وداد الأيوبي( إتحاد الكُتّاب اللبنانيين). ثم توالى الشعراء على قراءة نماذج من نتاجهم، فأجادوا جميعًا، بنسبٍ متفاوتة. علمًا أن الشاعر غي خوري استأثر بانتباهي وأخذني طائعًا إلى أماكن قصيّة، لعلّها في عالم آخر، فرأيتُ إليه “شاعر المفارقات”! وقد زففتُ له هذا اللقب ! وإذْ استفسرتُ عن دواوينه المطبوعة، فاجأني بأن ليس له دواوين منشورة، بل هو يكتفي بنشر قصائده على صفحته (الفيسبوك)، فوعدته بأنّني سأتدبّر بعضًا من  قصائده، عبر دراسة نقديّة. كما كان للشاعر يامن رضا أن يخطفني إلى عالمه الأثيري، لما يتمتّع به من قريحة صافية، تُحاكي قمر مشغرة، في عزّ ليلة من ليالي صيفها الجميل! وكذا الأمر مع الشاعر المحامي مارون ماحولي، الذي يجمع الصنعة إلى الموهبة الشعرية، فهو متعمّقٌ في المحكية، وواضع كتاب/مرجع حولها، سيُوقّعه في 18 تشرين الثاني 2022. وعن الشاعرين الآخرين قيصر ميخائيل وعلي دهيني، فإن لكل منهما نصيبًا من تميّز.

لا شكّ أنّ أن الأُمسيتين الأوليين، في بشامون والعبّاسية، قد أحرزتا عين النجاح، الذي أحرزته الأُمسية الطرابلسية، إذْ ثمة ثُلّة من الشعراء المشتهرين أحيت هاتين الأُمسيتين.

..بقدر ما أفدتُ من أمسيتنا، ومن أعمال المهرجان كافة، التي تمّ نشرُها على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد ازددتُ إصرارًا على متابعة مشواري البحثي مع المحكية، ومع الشعر بالمحكية اللبنانية. في هذا المجال، كان أن وضعتُ دراسة مقارنة بين الفصحى والمحكية، صدرت في سيدني-استراليا (2020)، واتخذتُ الشاعر شربل بعيني أنموذجًا لهذه الدراسة، وقد جاءت بعنوان” شربل بعيني بين الفصحى والمحكيّة”. علمًا أنّ هذا الشاعر هو عميد الشعراء في المغترب الاسترالي( مضى على اغترابه 52 سنة، وهو ينظم بالفصحى والمحكية).

وإلى ذلك، لي عدة مراجعات نقدية منشورة في مؤلّفاتي، حول الشعر بالمحكية، لشعراء مقيمين ومغتربين، في عدادهم: المحامي غابي فؤاد دعبول، الشاعر المغترب الراحل روميو عويس( مراجعة ثلاثة من دواوينه)، إضافة إلى الشاعر شربل بعيني، آنف الذكر، إذْ أجريتُ مراجعة لخمسة من دواوينه تترجّح بين الفصحى والمحكيّة، وهي تُشكّل محتوى كتابي المنوّه عنه آنفًا.

من خلال هذه الدراسات النقدية، ودراسات أخرى عتيدة، حول المحكيّة والشعر بالمحكيّة، نذهب إلى أنّ المحكيّة ليست”حرفًا ناقصًا”، إذا جاز القول، فهي لا تقلُّ غنىً وجماليّة عن الفصحى!..فالشاعر شربل بعيني استطاع ، عبر ديوانه”مناجاة عليّ” بالمحكيّة، أن يجوز به إلى العالميّة، إذْ تمّت ترجمته من العربية إلى الإنكليزية والفرنسية والاسبانية والفارسية والأورديّة. وقد مُنح عليه جائزة الشاعر المبدع جورج جرداق. وكذا الأمر مع ديوانه “مراهقة”(1968)، و”رباعيات”(ط،رابعة 2016)، و”الله ونقطة زيت”(ط، ثالثة، 2016) .. هذه التجارب  الشعرية بالمحكيّة، رفعها البعيني في وجه “أكليروس” العربية الفصحى المتشدّد، مُسقطًا الذرائع المتهافتة التي يُحاجّون بها في إلقائهم الحُرم على المحكيّة!

وإذْ أراد شاعرنا البعيني أن يُسقط ذريعة أنّ لجوء بعض الشعراء إلى المحكيّة مردُّه إلى عجز لديهم عن النظم بالفصحى، فقد كان له أن ينظم “المربديّة”، وهي من مطوّلاته الشعرية، ألقاها في المربد الثامن في العام 1987، متوسّلًا ألوان الشعر العمودي والحرّ والعامّي والزجلي، وكانت موضع إعجاب منقطع النظير!

ولا ريبَ أنّنا لا نجانب الصواب حين نرى إلى المحكيّة “القوت اليومي للشعوب”، كونها تعكس حركة الحياة اليوميّة، بصُدقيّة عالية، وتجسّد الوجدان الشعبي بمحمولاته وتشعّباته، كأحسن ما يكون التجسيد! والمحكيّة ليست الندّ المنافس للفصحى، ولا الساعية إلى إقصائها لتكون بديلةً منها! وغالبًا ما يُردّد بعض الألسنيين المنفتحين أنّ العاميّة/المحكيّة هي الخزّان الاستراتيجي الاحتياطي للفصحى. فهي تمدّها، على مرّ الأيام، بدفق من كلمات وتعابير تتقبّلها، من منطلق أنّ اللغة كائنٌ حيٌّ، يخضع لسُنن التطوّر.

وفي مقاربة محكيّة ديوان “مجانين”(1976) للبعيني،تذهب الكاتبة والناقدة الفلسطينية الأسترالية د.نجمة حبيب إلى القول:” ..اللغة المحكيّة امرأة غجريّة حُرّة، جريئة صريحة، لا تُوارب، منطلقة على سجيّتها، تُمتع وتُشتهى بأكثر ما تفعل أختها الفصحى، ربّة الصون والعفاف، المترفّعة في برج عاجي”( شربل بعيني بين الفصحى والمحكيّة، صادر في سيدني 2020، ص 94)

..عودٌ على بدء، إلى أمسيتنا ، التي لا زال صدى جمالاتها يتردّد في نفسي أكثر مما يتردّد على مسامعي، فهي ستكون مدخلًا إلى ندوة حول القصيدة بالمحكيّة اللبنانية، فنتّخذ لها أنموذجين، هما: عميد شعراء المغترب الأسترالي شربل بعيني، والشاعر المحامي مارون ماحولي. وبهذا نُجسّر الهوّة بين الشعر بالمحكية اللبنانية بين لبنان المقيم ولبنان الانتشار!

هذه المهمّة نضعها على عاتق الثلاثي، مُتشابك الأيدي: ميراي شحادة وحسّان عصمت ومردوك الشامي، كي يتنكّب تنظيم هذه الندوة، فيكون انتقالٌ من مستوى “المهرجان” إلى المستوى البحثي  التطبيقي العملاني، فتتكامل المسألة فصولًا !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق