في منشور قصير يكتبه بشير شلش في حسابه على الفيسبوك، يهاجم فيه عاطف أبو سيف، كاتباً ووزيرا للثقافة الفلسطينية. سبب هذا الهجوم ما نشرته دار نشر يصفها شلش بأنها "صهيونية" إعلانا عن صدور رواية "مشاة لا يعبرون الطريق" مترجمة إلى اللغة العبرية. تقول الدار عن نفسها أنها لا تترجم كتابا دون إذن، ودون اتفاق مسبق مع الكاتب، يعني ذلك أن عاطف أبو سيف الوزير والكاتب الروائي في ورطة كبيرة، يصفها شلش بأنها خطوة تطبيعية.
تبدو رواية أبو سيف مهمة بالنسبة لدار النشر، كون كاتبها من غزة، وتتحدث عن وضع غزة، فوضعت الترجمة في هذا السياق الدعائي الصهيوني الذي يخدم الحرب على قطاع غزة، فجاء على الموقع الإلكتروني للدار "في أول رواية غزية تترجم إلى العبرية، تتحدث عن الحياة في غزة من منظور رائع ومثير للدهشة".
لا أظنّ أن أبو سيف في وضع يحسد عليه، لقد جاء الإعلان عن ترجمة الرواية في ظروف صعبة، ووصلت حالة التوتر والغضب الشعبي إلى أقصى مدى، بعد عمليات القتل الصهيوني للشباب والأطفال، وحصار المدن، وإجراءات سياسة جز العشب التي ينتهجها قادة الاحتلال، حيث القتل المستمر ببطء، ودون إحداث ضجة كبيرة، محدثة حالة من استنزاف الدم المتواصل يومياً، وما يتبعها من اعتقالات، ومضايقات من أفراد العصابات الصهيونية المجندة، ومن أفراد المستوطنين المسلحين المعربدين في كل نقاط التماس وعلى الطرقات. إن هذا الكيان الغاصب يشن حربا شاملة علينا لكن دون أن يعلن ذلك صراحة، لكن أفعاله وجرائمه على أرض الواقع تقول ذلك ببلاغة شديدة الوضوح.
هذه الحالة التي خلقها الاحتلال لم تجد لها نصيرا حقيقيا من السلطة الفلسطينية، بل إن محافظ نابلس أدلى بتصريحات معيبة في حق أمهات الشهداء، ووصفهن بالشاذات، وبذلك فإنه يعبّر بلا أدنى شك عندي عن موقف المتنفذين في السلطة من قادة الأجهزة الأمنية والسياسية.
جاءت رواية عاطف أبو سيف ليعبر فيها طريقا شائكاً، وفي غير محله، ويجلب له الكثير من الوجع، ويصيب عمله الثقافي العام في مقتل، إذ ترفع وزارة الثقافة التي يعتلي كرسيها منذ سنوات شعار "الثقافة مقاومة"، فكيف سيقاوم أبو سيف وهو يوافق على ترجمة الرواية إلى العبرية من دار نشر تغذي النزعات العدائية بالأدب، وهو عينه ما تقوم به المؤسسة الصهيونية في كلاسيكيات أنشطتها واستراتيجياتها.
على السلطة الفلسطينية التحقيق في المسألة، وعليها أن تضع النقاط على الحروف، وتجلّي الأمر برمته، وتقطع الشك باليقين، وتتثبّت من أنه فعلا قد وافق أبو سيف على ترجمة الرواية وطباعتها في هذه الدار ذات التوجه العدائي الذي يعادي وجود الشعب الفلسطيني، ويضرب نضاله وحركته المستمرة للتحرر والتحرير، وإن ثبت فعلا تورطه لا يُكتفى بإقالته، بل محاكمته، لأنه يعزز من منظور ما الرواية الصهيونية بدعم سياستها، ويكون قد خان الوطن والمبادئ التي أقسم عليها. فلا يجب أن ينظر إلى أبو سيف على أنه كاتب أخطأ، بل لا بد من أن يعامل معاملة مسؤول أجرم وخالف ما هو مكلف فيه من أصله، إنْ فعلا ثبتت موافقته على الترجمة، هذا إن كانت السلطة جادة في تحقيق الرواية الفلسطينية وتعزيزها كما تدعي بخطابها المعلن، وكذلك إن لم تسع حركة فتح- كون أبو سيف أحد أعضائها- من التغاضي عن الموضوع واستتفاهه، والتجاوز عنه ليمر بسلام كأن شيئا لم يكن.
كما أنّ على اتحاد الكتاب الفلسطينيين أن يستنكر هذا الفعل الحرام الذي يقوّض "الرواية الفلسطينية" ويصدر بيانا واضحاً وهذا أقل المفروض عليه، ويطرد أبو سيف من عضويته، ومقاطعة وزارة الثقافة ما دام فيها، بل عليها تدشين حملة من الكتاب والمثقفين لنزعه عن كرسي الوزارة. وألا يتم التهادن مع هذا المسألة الخطيرة، مع أنه في غالب الظن ستكون قيادة الاتحاد أجبن من أن تتخذ مثل هذا الموقف العملي، فهي لا تتقن إلا صياغة العبارات الإنشائية الخاوية من المعنى، يحسبها الظمآن ماء فإذا هي سراب محض.
كما يجب على الكتاب جميعا اتخاذ موقف حازم من أبو سيف في حال ثبت تورطه في هذه المسألة، ولا يصح أن نتعامل مع المسألة بالمصلحة الشخصية، فثمة قضية كبرى رضي المثقفون بحملها، وهي حراسة الوعي، فليكونوا إذن على قدر هذا الحمل.
لا يكفي أن يتحدث بشير شلش بهذه القضية وحده، بل هذا واجب علينا جميعا، ومن مهامنا الوجودية ما دمنا مشاة نعبر الطريق إلى فلسطين المحررة، وليس على متن رواية ترجمت إلى العبرية.
وأخيراً، هل أبدو قد شخصنتُ الموضوع أو بدوت "فجاً" "ساذجاً" وأنا أكتب عن هذه القضية، كما ستتهمني واتهمتني سابقاً كاتبة "جبانة" فليكن، ولنكن كلنا غير مهذبين أيضا في موضوع وصف بأنه "آخر حصوننا"، فلا بد أن ندافع بشراسة عن ثقافتنا بوصفها آخر تلك الحصون قبل أن تنهار. ألا يستحق الأمر شيئاً من هذا برأيكم؟ وهل يمكن للأشخاص أن يكونوا بمنأى عن مثل هذا؟ بل إن أشخاصهم مدانة ومجرّمة، فكيف سنفصل الشخص عن فعله وقوله، وخاصة في مثل هذه المواقف التي لا حل فيها سوى الوضوح والحدة والشراسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق