أوردَ الناشط الفايسبوكي نبيل يوسف على صفحته(بلاد البترون/ 26/12/2022) هذا النصّ، باللغة المحكيّة، للطبيب الطرابلسي المقيم حاليًّا في إيطاليا حُسام أزميرلي :"بمناسبة عيد الميلاد المجيد، بدّي عايَدْ على طريقتي أصدقائي من المسيحيين، وخاصة أهلنا بطرابلس. أوّل صديق طفولة كان بسّام إبن الجيران، ما كِنت أعرف إنّو مسيحي، كِنت أعرف إنّو صديق. كنت كل يوم، يا أنا عنده يا هو عندي بالبيت. انتقلت إلى مدرسة الطليان، وتاني صديق طفولة كان جورج أرمني، بس بيحكي عربي متلي متلو، وألله ستر ما كان يعرف أنّو أصل عيلتي تركي!..بمدرسة الطليان كنّا نلتقي بعد الضهر، بتشجيع من الأب كرميللو(..) الأب كرميللو قصة كبيرة، كان صديق لكل تلميذ، وبيعرف كل عيلة من عِيَل تلاميذه. وله فضل كبير على كثير من شباب طرابلس. بالكشّاف عشنا وأكلنا وسهرنا وفرحنا وتعلّمنا من بعض، مسلمين ومسيحيين، بعزّ دين الحرب الأهلية. حتى لمّا بالثمانينات إجِتْ صحوة إسلامية، غيّرت شوي من طابع المدينة(يقصد حركة التوحيد الاسلامي)، معظم الأصدقاء من المسيحيين تفهّموا أنّ المواقف المتطرّفة، من قبل البعض، ليست من طبيعة الاسلام السمح. ولأنهم جزء أصيل من تراث المدينة عرفوا أنّ موجة التشدّد هي موجة عابرة(..)كان عندنا تقليد برمضان، نعمل إفطار جماعي بمدرسة الآباء الكرمليين. كل واحد يجيب أكلة من البيت، ويشارك معنا الرهبان بالافطار، وإذْ بيوصل صدر منسف كبير، فنسأل: مين باعتو؟ قالوا : أم جانيت، بيقوم عبّودة وبيقول: والله أم جانيت صارت بتطبخ أكل إسلام! وهون فرطنا نحنا والرهبان وكل الحضور من الضحك. لكن أجمل ما سمعت، بعد سنين من الغربة، التقيت بصديق الطفولة دانيال المسيحي الطرابلسي، المغترب هو كمان بإيطاليا، قللي: بتعرف يا حكيم، بعد كل سنين الغربة، أكتر شي بشتقلو من طرابلس هو سماع صوت الأذان وتكبيرات العيد!"
...هذا النص، بل هذه الشهادة، من لدُن واحدٍ من أبناء طرابلس-وهو طبيب لامع في إيطاليا- تُغْني عن عشرات المحاضرات وورش العمل والكتابات الخشبية وفاقدة الروح، حول العيش المشترك، الذي اختاره الاجتماع الطرابلسي، على مرّ العصور، قديمها وراهنها!
ولا شكّ أن هذه الشهادة العفوية الصادقة توجّه صفعة إلى الإعلام الأصفر، المبرمج، الذي يجهد عبثًا في تصوير مدينتنا مدينةً حاضنةً للتطرّف الاسلامي وللارهاب. بل ذهب بعضهم إلى تشبيهها بقندهار!
وإذا كانت مدينتنا قد شهدت أحداثًا دموية، بين منطقتي التبانة وجبل محسن- وقد سمّيتُها حرب الفقراء- فهذه الأحداث كانت مبرمجة، تُدار من أجهزة مخابراتية، مما جعل طرابلس صندوقة بريد لتبادل الرسائل بين قوى متعددة، من محليّة وإقليميّة.
صحيح أنّ الحضور المسيحي في طرابلس إلى تراجع، فليس ذلك لأسباب أمنية فحسب، فثمة عوامل أخرى، أهمها البحث عن فرص عمل خارج المدينة، سواء أكان ذلك في العاصمة بيروت أو الخارج. ناهيك عن أسباب أخرى، لا يتسع لها هذا المقال. علمًا أنً هناك هجرة إسلامية لا تقلّ عن حجم الهجرة المسيحية. وقد كان للحرب الأهلية(1975) أن تؤدّي دورًا أساسيًّا في هجرة اللبنانيين من مختلف الطوائف.
ورغم كل ما قيل عن طرابلس وما سيُقال، فهي باقية مدينة للعيش الواحد بين جميع مكوّناتها وعوائلها الروحية. بل هي مشرِّعةٌ أبوابَها لكل من يُريد السكنى فيها، فتمنحه "جنسيتها"، ولا تشترط سنوات عشرًا لتفعل!
قد يخفتُ "خطاب البشر" بين المسيحيين والمسلمين في طرابلس، ولكنْ ثمّة خطابٌ باقٍ على الزمن ،هو "خطاب الحجر"، خطاب المعالم الدينية ، التي يُذكر فيها اسمُ الله، أطرافَ الليل وآناءَ النهار!
..ففي طرابلس شارع ذو عراقة، هو شارع المطران، يستمدُّ تسميته من مطرانية طرابلس المارونية(قلّاية الصليب)، القائمة في المنطقة الخلفية لشارع عزمي بك، منذ ما يقرب من مائة عام! وعلى بعد أمتار من قلاية الصليب، تنتصب أجمل كنائس طرابلس، هي كنيسة مار مارون. وها هو شارع الراهبات، الذي اتخذ إسمه من إحدى المدارس المسيحية فيه. وها هو شارع الكنائس، الذي تتراصف على جانبيه كنائس لمختلف الطوائف المسيحية في طرابلس. وها هي حارة السيّدة(العذراء مريم)، يلتصق إسمها بالكنيسة التي بناها القائد الصليبي بوهيموند السابع في العام 1286م. وها هي حارة النصارى، المحاذية للجامع المنصوري الكبير، حيث كان المطران الطرابلسي جورج خضر (أطال الله عمره) يتملّى من صوت الأذان، حين يقصد بيت جدّه، في تلك الحارة. ولنا أن نقرأ كتابه الرائع :"مسرى الطفولة"، لندرك كم أن في كل طرابلسي مسلم شيئًا من المسيحية، وفي كل مسيحي شيئًا من الإسلام!
فيا أيها المُرجفون وكارهو مدينتنا، عبثًا تحاولون "تسويد" وجه طرابلس، بل ستسودّ وجوهكم وتخرس أقلامكم، فطرابلس ستبقى فضاءً، فاتحًا ذراعيه لجميع اللبنانيين! ولكم أن تقرأوا تاريخها الحافل بمواقف العيش المشترك، بل العيش الواحد. وقدر طرابلس المحافظة على نسيجها ، الذي كانته، على مر الحقب التاريخية.
(من بيادر الفسابكة/قراءة نقدية في قضيّة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق