ترددت قبل مغادرة بيتي صباحًا. لم تسعفني حبة المنوّم التي بدأت ألجأ إليها كلّما شعرت باضطرابات أو بتعب؛ فالليل والقلق كانا صاحبيّ، وصوت المطر يتسلل إلى حجرتي بعناد، كأنفاس غاضبة من السماء، ويجرح السكون. كانت أخبار ومشاهد الزلزال الذي ضرب مناطق مأهولة في سوريا وتركيا تغزو معظم نشرات أخبار الفضائيات في العالم، وشاشة تلفوني تتلقى، كمحطة انقاذ، أخبارًا وأفلامًا صوّرها شهود عيان من مواقع الخراب. لم أستطع مشاهدة بعض تلك المقاطع حتى النهاية، فصور الدمار ومشاهد القتلى، خاصة الأطفال، كانت مخيفة حتى الشلل. أبكاني مشهد لأب كان يقرفص فوق بقايا رصيف شارع وأمامه صف من جثث أطفال صغار، يبدون من بعيد كملائكة صغار نائمين. بينهم كانت طفلته وكان يكلمها، بصوت مخنوق، هوى كنصل على كبدي، ويسألها: لماذا انتم ..لماذا أنت يا روحي.. كان عجزه يسيح مع دموعه ودهشته والحيرة تفتشان عن الحكمة بين الخرائب والركام، وعن العدل الذبيح على عتبات المعابد والبيوت، وعن المنطق في حصد هذه الارواح وهي نائمة مطمئنة في بيوتها وبين يديّ الدعاء والصلاة. كان الأب يجهش بحرقة مكتومة حتى نهاه صوت لرجل وقف هناك وطالبه بأن يشكر فطنة وكرم السماء ويحمد حكمتها. بلع الأب صوته ومد من بعيد، ذراعه نحو جسد طفلته وتمتم بضع كلمات سمعت صداها وكان كله حسرة ووجع. لم أعد اتحمل متابعة تلك المشاهد والاخبار. كان ليل القدس ساحرًا وفي الفضاء تتطاير "عباءات" من رذاذ رمادي، لم ينضج ثلجه، وتسبح بخفة أطفال يلحقون سرب فراشات تائهة. اتكأت على حافة اليأس وتخيّلت أنني اسمع همس نايات بعيدة تبكي.
حاولت، وأنا في طريقي الى رام الله، ازالة شوائب التشاؤم التي علقت باهدابي المتعبة؛ وتذكرت ما كان يقوله أبي: "لا تسبوا الطبيعة ولا تكفروا بها وبجبروتها. إنها أم "بأقنومين"، فهي أم الزلازل والجوائح والبراكين والنهايات، وهي أيضًا أم الخير والبركات والبدايات. لا تشتموها" هكذا كان يقول والدنا، "فلربما تبعث للبشر، عن طريق تلك الكوارث والموت والخرائب تذكارات وانذارات عساهم يتذكرون أصلهم ويعون جهلهم ويتعظون ويهتدون ولا يتغطرسون ويتعنجهون". كنت وأنا أتذكر أحاديث أبي وأحاول تهدئة غضبي من ليلة كانت كلها عبثا وبؤسا، اتبسم؛ فأبي بعد حصول كل كارثة كان يحاول مداواة خوفنا واستيعاب غضبنا وكان يربّي في نفوسنا بذور السعادة والفضيلة والأمل. كنا وقتها صغارًا فكنا نسمع كلامه ونهدأ ونسكت؛ ولكن عندما كبرنا صرنا نتذكر كلامه فنتبسم ولا نهدأ، ونقرّ بجهلنا الذي كلما عرفنا صار أكبر، وبعجزنا، ونسهر ولا نحلم.
كنت قريبا من حاجز "الجيب"، وهي قرية فلسطينية صغيرة كانت القدس تمسك بخاصرتيها، فنصب الاحتلال بينهما سوراً عاليًا ومدى؛ وكان أمامي طابور من السيارات الداخلة الى محافظة رام الله. وقف بجانب الحاجز جندي وبيده حاسوب كان يدخل اليه اسماء بعض السائقين عن طريق ما يسمونه بلغة التفتيش والحواجز "الفحص العارض". كنا نتقدم ببطء وعندما صرت قريبا منه اوقف السيارة التي أمامي وتبادل مع سائقها ومن جلس بجانبه، بعض الكلمات. فهمت انه كان يأمرهما بالعودة والدخول الى رام الله عن طريق حاجز "قلنديا". حاولا الاستفهام منه عن سبب قراره المفاجيء واقناعه بتغيير رأيه، لكنه أصر وأمرهما بصرامة حاقدة ، واصبع يده على زناد بندقيته، بالعودة ؛ ففعلا. ثم أشار نحوي بيده، بحركة غير المكترث، فتقدمت حتى صرت بمحاذاته. من قريب بدا مثل كل جنود الحواجز، أجسادًا كساها الغبار وحشية وشرا، ورؤوسًا محشوة كراهية وبنادق. لم يوقفني، كان يضحك، أو هكذا خيّل لي بعد أن مارس سلطانه على فلسطينيين عاديين ومنعهما من عبور حاجزه؛ فأشار أن أستمر فقطعت الحاجز ومثلي فعل من كانوا ورائي.
وصلت مقرّ نادي الاسير الفلسطيني قبل وصول عائلة الشهيد أحمد الكحلة، التي تسكن قرية "رمون" شرقي مدينة رام الله. قرأت في وسائل الاعلام كيف قتل جندي اسرائيلي احمد الكحلة وهو في طريقه الى ورشة عمله في قرية دير سويدان. في صباح الخامس عشر من الشهر الماضي نصبت تحت "جسر قرية يبرود" قوة من جيش الاحتلال حاجزًا فجائيًا، او ما يسمّى بلغة الشقاء "حاجزا طيّارا". أمر الجنود جميع سائقي السيارات القادمين من اتجاهيّ الشارع بالتوقف وعدم التحرك. كان معظم السائقين وركاب السيارات في طريقهم الى أماكن أعمالهم ووظائفهم؛ فانتظروا، مرغمين، طويلًا حتى بدأ بعضهم باطلاق صافرات سيارتهم كخطوة احتجاج ومطالبة بفتح الطريق.
"كنت الى جانب والدي في السيارة ونحن في طريقنا الى ورشة عملنا في قرية دير سويدان" هكذا بدأ قصيّ ابن الشهيد يروي لي تفاصيل استشهاد ابيه أمامه. كان يحدثني بصوت خفيت وبهدوء خال من علامات الأسى والالم. كنت اسمع تفاصيل عملية اعدام والده وأمتليء غضبًا. في بدايات عملي في فلسطين المحتلة كان هدوء أهل الشهداء وتقبلهم حقيقة موت اعزائهم بنوع من الرضا والتسليم يغيظني ويدهشني؛ ولكنني بمرور السنين فهمت ان هذه المسألة ليست بتلك البساطة، وهي، في الواقع، حالة اعقد واعمق مما تظهر عليه، وصرت أستوعب أن أسى واوجاع هؤلاء الاقرباء على فراقات غواليهم تبقى مدفونة عميقًا في دمائهم وفي أرواحهم مهما تعمّدوا اخفاءها، إما باسم ما تمليه صفات الرجولة الشرقية، فلا يجوز للرجل عند العرب أن يبكي وأن يحزن بالعلن، وإما بهدي العقيدة الدينية وموروثها في مجتمعاتنا.
"علت اصوات صافرات السيارات فبدأ الجنود بالقاء قنابل صوت. واحدة من هذه القنابل وقعت على سقف سيارتنا فاحتج والدي أمام الجندي على القاء القنبلة. كنا في السيارة فاقترب منا احد الجنود وبدأ برش غاز الفلفل علينا، فاصبت بما يشبه العمى. سحبني الجندي بالقوة من داخل السيارة وألقاني الى جانب الطريق، وقاموا باخراج أبي وبدأوا بالاعتداء عليه بعنف، بينما كان يدفعهم عن نفسه، الى أن سمعنا صوت الرصاص. كان هذا الرصاص الذي اعدموا فيه أبي من مسافة الصفر. أوقفني الجندي وأمرني ان أعود الى بيتي فسألته عن ابي فقال: لقد قتلته". هكذا حكى لي قصي قصة اعدام والده أمامه، وسكت.
حاولت اسرائيل ان تتهم الشهيد احمد بأنه كان يحمل سكينًا وقام بالاعتداء على الجنود، لكنها سرعان ما غيّرت روايتها الى أنّ أحمد الكحلة حاول أن يخطف سلاح أحد الجنود، الذي "اضطر" الى اطلاق النار عليه. وبعد ان انفضح كذب الجنود اضطرت اسرائيل ان تعترف ان احمد الكحلة قتل من دون أن يكون هناك سبب لقتله، وتبين كذلك ان الجنود الذين أقاموا الحاجز يتبعون لكتيبة كان جنود منها قد تورطوا في عمليات اعتداءات دموية واطلاق النار على الفلسطينيين وممتلكاتهم .
حاولت ان استدرج قصيّ الى خانة اخرى على سلم الصوت، لكنه بقي في سكينته وصلابته مصممًا على ضرورة ملاحقة الجنود قانونيًا حتى محاكمتهم؛ فوعدته بأنني معه حتى نهاية النفس.
كنا في مقر نادي الاسير الفلسطيني وكانت مشاهد دمار الزلزال في سوريا وتركيا تعرض على شاشة التلفاز امامنا. كنا ننظر اليها ونتابع حديثنا عن شؤون فلسطين والموت على الحواجز أو داخل السجون وفي الميادين، وماذا يمكن أن نعمل. لم يكن لأحد من الحاضرين أجوبة وحلول؛ فمعظمنا يشعر بسوء الحالة الفلسطينية وبانسداد فرص مواجهة الاحتلال الصحيحة والموجعة. بعضنا تطرق الى موقف دول العالم وكيف تصرفوا حيال سوريا وعاقبوا شعبها المنكوب، بينما ذهبوا لتقديم المساعدات لتركيا؛ وبعضنا دلف بسرعة نحو الحرب الروسية الاوكرانية وكونها فعليًا حربا عالمية ثالثة محدودة الانتشار. ومن روسيا وصلنا السودان عاصمة اللاءات الثلاث الشهيرة التي اطلقها العرب من الخرطوم عام 1967 وأعلنوا : "لا صلح، لا اعتراف ولا تفاوض مع العدو الصهيوني قبل ان يعود الحقّ لاصحابه". ضحكنا مثل المجانين، واتفقنا على أن معظم الدول العربية إنما هي مثل الكوارث الطبيعية، يجب ألا نتوقع منها غير الشقاء. هدأنا وعدنا الى واقعنا الفلسطيني والى قضايا الموت والحياة فاتفقنا على ان الانقسام الفلسطيني هو أكبر كوارث الطبيعة المستمرة التي تفتك بمصادر الامل الفلسطيني. كنا محبطين على حافة الرجاء ونتساءل متى سنعود لنصير شعبًا واحدًا لا يخشى أفراده الردى، مستعدا لمواجهة "الزلازل والبراكين"، شعباً يقدس الحياة ويعرف أن يذرف الدمع وقت الفرح، وأن يذرفه بلا خجل رجولي اذا غضبت الطبيعة وخطف "ملائكته" الغضة زلزالٌ لم يمهلها ان تضحك والصبح ؛ أو يبكي عندما يسمع قصة كقصة الاعدام على الحاجز. قصة احمد، رجل فلسطيني عادي كادح صادَق الفجر والازميل والكحلة ومضى وراء لقمة عيش أولاده بعزة وبكرامة؛ أحمد الانسان البسيط الذي أعدم بوحشية لأنه كان "يموت" على الحياة ويحب تراب بلاده.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق