صدرت للقاص السٌّوري جورج عازار المقيم في ستوكهولم، مجموعة قصصيّة جديدة عن دار نشر صبري يوسف، بعنوان: "زمن الذِّئاب"، بعد إصدار مجموعته القصصيّة الأولى "من عبقِ الماضي"، العام الفائت 2022، وقدّمت النَّاقدة والأديبة الجزائريّة نوميديا جروفي قراءة عن المجموعة في نهاية الكتاب، وقدّم المجموعة النَّاشر الأديب التّشكيلي صبري يوسف، وقد صمَّمَ الغلاف الكاتب بنفسه، واختار إحدى لوحات الفنّان التّشكيلي السُّوري يعقوب اسحق لغلافِ الكتاب، وشارك الفنَان بلوحات داخلية للكتاب، وجاء في مقدِّمة الكتاب ما يلي:
اطلعتُ على المجموعة القصصيّة الثّانية: "زمنُ الذِّئاب"، للقاص السُّوري جورج عازار المقيم في العاصمة السُّويديّة ستوكولم، بعد إصدار مجموعته القصصيّة الأولى: "من عبقِ الماضي"، عن دار نشر صبري يوسف، فجاءت استكمالاً للكثيرِ من المواضيعِ المتعانقةِ معَ فضاءاتِ المجموعةِ الأولى، وتضمّنَتْ ثماني عشرة قصّة قصيرة، وفي كلِّ قصّةٍ من قصصِهِ قدّمَ رؤى وأفكار معيّنة، أرادَ أن يعرضَها للقارئِ والقارئة، وقد استوحى فضاءاتِ قصصِهِ من وقائعِ الحياةِ ومن تجاربِهِ المتنوّعةِ وحميمياتِ الأسرةِ في دنيا الشَّرقِ والممتدّةِ في ربوعِ أوروبا، ومن بعضِ الأحداث الَّتي وقعتْ معَهُ وسمعَ بعضها من حكاياتِ الآباء والأجدادِ، مُضفياً عليها جانباً فيّاضاً من خيالِهِ السّيالِ، فجاءَتِ القصصُ سلسةً ومعبٍّرةً في سياقِ سردِهِ المكتنزِ بالرُّموزِ والكثير من مدلولاتِ المعاني، الّتي قدَّمها في متونِ قصصِهِ للمتلقِّي بمهارةٍ فنّيَّةٍ.
بدأ مجموعته بقصّة "بالكيلِ الَّذي تكيلون"، مقتبساً العنوان من آية في الكتابِ المقدّسِ: "بالكيل الَّذي تكيلون، يُكال لكم"، وكأنَّهُ أراد أن يقولَ للخائنين والظّالمين والنًصّابين، والّذين يخرقون القوانين والحقوق، أنَّه سيُكال لكم عاجلاً أو آجلاً، وتنمُّ هذه القصّة على جشع الإنسان، الَّذي يخون في الكثيرِ من الأحيانِ، أقرب المقرَبين إليهِ، واستطاعَ القاص أن يعيدَ الحقَّ إلى نصابِهِ بطريقةٍ فنّيَّةٍ ماهرةٍ في سياقِ سردِهِ! ولخّصَ في قصّةِ "أحزان دروبِ الفرح" محبّةَ الأبِ لابنتِهِ الوحيدة، بعدَ وفاةِ أمِّها، فأخذَ دور الأب والأم معاً، وقدّمَ لها الكثير إلى أن تزوَّجَتْ، فتداخلتِ الأحزانُ في دروبِ الأفراحِ، فجاءتِ القصّةُ تحملُ طابعاً دراميَّاً! واستوحى قصّة "زمن الذّئاب" من تاريخِ الأجدادِ، مستوحياً فضاءاتِها من المذابحِ الّتي راحَ ضحيَّتها آلاف القتلى ظلماً وعدواناً وغدراً، وقد تعرّضَ والدُ جدّتهِ والكثيرُ من أهلِهِ للقتلِ والتَّنكيلِ ومصادرةِ أموالهِم، لهذا أحبَّ أنْ يطلقَ هذهِ القصّة عنواناً لهذهِ المجموعةِ! وفي قصّةِ "تنهّداتِ اللَّيلِ الطَّويلِ"، تخفتُ حفاوةُ الحكايةِ والحدثِ، فقد جاءتِ القصةُ متماهيةً معَ فضاءِ النَّصِّ الأدبي، والتَّأمُّلاتِ وتداعياتِ الأفكارِ، بإيقاعٍ سرديٍّ شاعريٍّ، متناغمٍ معَ حيثيّاتِ السَّردِ، وإنْ كانَ مسارُ الحوارِ والأحداثِ خافتةً وغير معمّقةٍ في فضاءِ النَّصِّ! وفي قصّةِ "الصَّلاة الأخيرة"، يطرحُ موضوعَ قدومِ مغتربٍ بعدَ ثلاثِ سنواتٍ من اغترابِهِ، على متنِ طائرةٍ، وزوجتِهِ في أوجِ الشَّوقِ إليهِ، لكنَّ طائرته تسقطُ فوقَ البحرِ وتغرقُ ولا يصلُ إلى أحضانِ الحبيبةِ/ الزَّوجةِ. قصَّةٌ حزينةٌ موغلةٌ في الأسى، ولم تبيّنْ أسبابُ الغرقِ، ولم يبقَ لديها سوى الصَّلاةَ على روحِ الزّوجِ الرَّاحلِ! ويسترسلُ متألِّقاً في قصّةِ: "أبي سنديانة البيت"، لما فيها من حنانِ الأبوّةِ، مستعرضاً ما قدَّمَهُ والده من تضحياتٍ في تربيةِ أسرتِهِ الكبيرةِ، وهجرتِهِ إلى أوروبا متوقِّفاً عندَ الكثيرِ من محطّاتِ عمرِهِ ورحيلِهِ في نهايةِ الأمرِ في دنيا الاغترابِ، طالباً المغفرةَ والسَّماحَ لهُ من أقاصي السّماءِ، قصَّةٌ فيها الكثيرُ من الحنينِ والشَّجنِ. وتدورُ أحداثُ قصّة "صرخةُ الصَّمتِ"، عن صداقةٍ تجمعُ والدَ القاصِّ معَ صديقِ عملٍ لوالدِهِ، مقيم في دمشق، فزارَ القاصُّ معَ والدِهِ صديق والدِهِ، وهناكَ التقى معَ ابنةِ صديقِ والدِهِ، وتفاجأ في نهايةِ الزّيارةِ أنّها مقعدةٌ في نموِّ العقلِ، قصّةٌ حملَتْ بينَ طيَّاتِها مفاجأة، استمدَّها من وقائعِ الحياةِ وصاغَها بسلاسةٍ وانسيابيّةٍ.
وفي قصَّةِ "من غيرِ ميعاد"، نحنُ أمامَ نصٍّ قصصيٍّ محبوكٍ بسرديّةٍ شيّقةٍ، تدورُ أحداثُ القصّةِ حولَ شابٍ وشابةٍ أحبّا بعضهما بعضاً، لكنّهما لم يتزوّجا لظروفٍ معيّنةٍ، والتقيا مصادفةً في دورةِ وفودٍ جاءتْ من ربوعِ الوطنِ إلى برلين، فتنامَتْ خيوطُ القصّةِ بطريقةٍ شاعريّةٍ، وفي نهايةِ القصّةِ التقى الحبيبان القديمان لقاءً حميماً، أجادَ القاصُّ التّعبيرَ عن عواطِفِهما برومانسيّةٍ موائمةٍ لفضاءِ القصّةِ! وتدورُ أحداثُ قصّة "زيارة مفاجئة" حولَ سفرِ القاص من القامشلي إلى دمشق، وبعدَ فترةٍ يزورُهُ والدُهُ ويقضيانِ وقتاً طيّباً، قصّةٌ فيها سردٌ ممتعٌ ولغةٌ رشيقةٌ، مركّزاً على التَّشويقِ والمفاجأةِ، نجحَ في بنائِها المتناغمِ معَ وهجِها السَّرديِّ. ويلتقطُ فكرةَ قصّةٍ "رسالة منتهية الصَّلاحية" من عوالمَ شابٍ أحبَّ شابةً وقطعاً عهداً بالمحبّة فيما بينهما، ثمَّ سافرَ إلى إحدى دولِ الخليجِ، كي يعملَ هناكَ ويطوِّرَ وضعَهُ الاقتصاديِّ، وعادَ بعدَ عامٍ وإذْ بحبيبتِهِ قد حنثَتْ بوعدها معه، وقطعَنْ علاقتها بهِ دونَ أنْ تخبرَهُ، واختارَتْ شاباً آخر تعرّفَتْ عليهِ ولديهِ إمكانيّاتٌ اقتصاديةٌ أفضلَ منهُ، فينتقدُ القاصُّ عبر هذهِ القصّة، الحالاتِ الَّتي تقعُ في أوساطِنا الاجتماعيّةِ المماثلة لهكذا حالة، وينسجُ القاصُّ "توأم الرّوحِ" ببراعةٍ، مبيّناً كيفية تعلُّق التَّوأمِ بجزئِهِ الثّاني، وفي قصّة: "حفلة مدرسيّة" نتلمَّسُ إيقاعاً سرديّاً جميلاً يتخلَّلهُ أحداثاً فكاهيّة، فقد حاولَ أخوه الصّغير أن يحضرَ الحفلة، وإذ به يحضر ندوة عقائديّة، متوقّعاً أنّهُ العرض المسرحي، فأعطى مفارقة قصصيّة جميلة في فضاء القصّة! ويستوحي القاص من بعض عاداتنا قصة "في بيتنا عجل"، تمَّ شراؤه للـ "قليّة"، مستذكراً هذا الحدث عندما كان طفلاً، ثمَّ راحَ ينسجُ قصّة "فيلم سينما" عن حضور زوجة عمّه فيلماً سينمائيَاً برفقتها وهو طفل، عن المطرب فريد الأطرش ويدخل في تفاصيل سرديّة حول رغبة الأطفال وهم يتناولون البوظة بمتعةٍ غامرة. ومن القصص الطَّريفة في هذه المجموعة، "مغامرة طفولة"، حيث يسطو القاص عندما كان طفلاً على فردة شحَّاطة لأمِّهِ وأخرى لأختِهِ، ومقلاة ألمينيوم ويبيعها بثلاثة فرنكات ويشتري بها حلويات لذيذة وبوظة ويتناولها تحت تختهم الكبير في حوش بيتهم، تاركاً والدته وأخته يبحثان عن الشّحاطتين والمقلاة ساعاتٍ طوال! ثمَّ يعودُ القاص إلى رحابِ الطُّفولةِ مستوحياً من ألعابِ أيام زمان قصّة حملت عنوان: "دكريات من زمنٍ فات"، تتمحورُ عن ألعابِ الطُّفولةِ بكلِّ مرحِها وشغفها ومباهجِها الرَّحبة! وتوفَّقَ في قصّة "السُّروال الجديد"، لما فيها من رؤية فكاهيّة ودعابة في فضائها السّردي، فقد جرت العادة في بعض العائلاتِ الفقيرة والكبيرة، أن يلبسَ الصّغار لباس اخوتهم الكبار، كي يخفِّفوا من المصاريفِ المترتّبةِ عليهم، مركّزاً على مكافحةِ الأم وتضحياتها، وقد تحايل القاص الطُّفل أن يمزِّقَ سرواله الّذي حصل عليه من أخيه الأكبر، وبعد أن مزَّقه، متخيِّلاً أن يحصلَ على سروالٍ جديدٍ، لكنَّه تفاجأ بأنْ قدّمتْ أمُّهُ سروالاً آخر لأحد أخوته الكبار، كي تقصِّرهُ على مقاسه، فخابَ أمله ممَّا كان يخطّط له! ويقفل مجموعته بقصّة رصينة: "أمّي ضحكة الفجرِ"، مستعرضاً حكاية أمٍّ مكافحة، متوقّفاً عندَ الكثيرِ من تضحياتِ الأمِّ وتعاونها الكبير معَ الأب، وبعد غربةٍ طويلةٍ يلتقي مع بقيَّةِ أفرادِ أسرتِهِ معَ والدته، ثمَّ تعودُ إلى منزلِها وترحلُ وحيدةً في اليوم الثّاني من وصولِها، قصّة حزينة، تراجيديّة، تحملُ معاناةَ الأمِّ وحنانِها، وعلاقة أسرة متضامنة مع بعضِها بعضاً حتى الرّمقِ الأخيرِ!
إنَّ المجموعة القصصيّة الثّانية "زمنُ الذِّئاب"، للقاص السُّوري جورج عازار الصَّادرة عن دار نشر صبري يوسف، تحوي بين دفَّتيها رؤية تحليليّة لوقائع الكثير من المواقف والأحداث والممارسات التي وقعت في الوطن الأم أو في رحاب الاغتراب، مركِّزاً على ذكرياته وحنينه إلى عوالم طفولته وذكرياته وشبابه وتجاربه المتنوّعة في الوطن الأم وغربته الفسيحة في السُّويد وفي دنيا الاغتراب، مستعيداً عبر ذاكرته الكثير من الأحداث والوقائع الّتي مرَّت في حياتِهِ، وساكباً من مخياله في تفرُّعات فضاءات السَّرد الكثير من التّفاصيل، فجاءَت القصصُ محتبكةً من تجاربِهِ ومخيالِهِ معاً، مضفياً في فضاءاتِ السَّرد ترميزات مهمّة للغوصِ عميقاً فيما يريد أن يعبِّرَ عنه، بلغةٍ سلسةٍ ورشيّقة وسهلة، ومنسابة بعفويّةٍ متناغمةٍ مع َفضاءاتِ القصَّةِ القصيرة، فولدَت قصصه تحملُ بين متونها مساحاتٍ رحبة من تدفّقاتِ خيالِهِ وذكرياتِهِ المتراقصةِ في واحاتِ الطُّفولةِ والشّبابِ ومتاهاتِ الاغترابِ بأسلوبٍ رصينٍ ولغةٍ سهلةٍ ومتماسكةٍ في بنائِها الفنّيِّ، وتضمّنت القصص الكثير من رؤاه وأفكاره الَّتي صاغها في مرامي قصصِه عبر جموحات حرفِهِ المتناغمِ مع أحداث القصص وتشابكاتها المتناغمة، مستنبطاً ومستوحياً الكثير من الأفكار والأهدافِ التي يحملها بين جناحيهِ،كي يقدِّمها للقرَّاء والقارئاتِ على طبقٍ من حنينِ الرُّوح والقلب إلى مرامي الكتابة، فولدَتْ قصصه مشحونةً بعاطفةٍ رهيفةٍ فيها من الدِّفءِ والحنينِ والتَّجلّياتِ المنسابة من خيالِهِ المتوهِّج بانبعاثٍ أشهى ما يموجُ في إشراقةِ بوحِ الحرفِ!
صبري يوسف
ستوكهولم: 2. 10. 2022
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق