“زمن الخيبة”* كتابٌ يُعيدُ الاعتبار إلى علم اجتماع السياسة ويتعمَّق محطاتٍ سياسيةً قلقة: لبنانيًّا وعربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا/ د. مصطفى الحلوة

 


(رئيس الاتحاد الفلسفي العربي)


مدخل / إطلالة بانورامية على الكاتب والكتاب

“زمنُ الخيبة” لكاتبٍ من ذلك الجيل، منكودِ الحظّ، الذي ترعرع على إيقاع سلسلةٍ من النكبات والهزائم، التي تعيشها المنطقة العربيّة، منذ نيّف وسبعة عقود، كانت فاتحتَها نكبةُ فلسطين في العام 1948، التي شكّلت، بتداعياتها الكارثية، بؤرةً دائمة التفجُّر لمزيد من النكبات والهزائم المتعاقبة، تتناسل من بعضها بعضًا! وإذْ يتلبَّسُ الكاتبَ عصرُه، بقدرٍ كبير، فقد جهد الباحث عدنان خوجة كي يكون شاهدًا عدلاً على مراحل قلقة من عصره، يتفاعل معها: لبنانيًّا وعربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا. من هنا طفق يُقاربُ هذه المراحل، من موقع الباحث في الاجتماع السياسي، كما يتحصّل من العنوان الرديف للعنوان الأساسي لكتابه. ولنا أن نُضيف، من جانبنا، بأن الكاتب أعمَلَ، في مواضع مُتعدِّدة من كتابه، علم النفس الفردي والجمعي. ناهيك عن إتراع العديد من النصوص برُواء أدبي وجداني، نامًّا عن قدرة تعبيرية فائقة، كما عن ذائقة جمالية رفيعة المستوى.

“زمنُ الخيبة” كتابٌ كشكولي، لجهة معطياتِهِ والموضوعات، يعكسُ بجلاء التركيبة الفكرية، مُتعدِّدة الأُطُر، لدى الكاتب. فهو فنانٌ تشكيلي مرموق وباحثٌ في الفنون وتاريخها. وهو صاحبُ محاولات شعرية، عَبْرَ قصيدة النثر والمحكيَّة اللبنانية، وهو مُثقّفٌ ذو إطلالات واسعة على ألوان معرفية شتّى، وهو أخيرًا باحثٌ في شؤون الفكر السياسي. هذه ” الخلطة”، في تركيبة الكاتب، كان لها أن تتجسَّد من خلال الكتاب، الذي نتصدّى له بالمعالجة، إنطلاقًا من العلاقة الجدلية بين الناصِّ والمنصوص، أي بين صاحب النصّ وما ينصّ!


“زمن الخيبة” / فصولاً وموضوعات ومنهج بحث

إذا كانت مقالات الكتاب المائة وست وثمانون تتموقع زمنيًّا بين تاريخي 26/1/2008 و 29/4/2014، فهي تتوسع مدىً إلى ما قبل العام 2008. كما تتعدّى إلى ما بعد العام 2014، ذلك أن الكاتب خوجة ذهب بعيدًا في استنكاش جذور أطروحاتِهِ، كي يتعرّف إلى أبعادها والخلفيات. كما راحَ، عبر نظرات ثاقبة، يستشرف ما يحمله الآتي من أحداث ووقائع. وقد تحقّق الكثير من رؤاه والتوقّعات. هي نظراتٌ استشرافية، غير تنبُّئية، مبنيّة على معطيات صلبة، أفضت، إِثْرَ عملية تفكيك وتحليل، إلى نتائج، على قدر من الصِحّة والصُدقية كبير!

186 مقالةً، تشغَلُ كل واحدةِ منها صفحتين أو ثلاثًا، نُشرت غالبيتُها في صحيفة ” البيان “، التي تصدر في طرابلس (لبنان). إضافةً إلى نشر عدد وافٍ من المقالات على مواقع الكترونية، وفق أوراق بحثيَّة وكتابات ومنشورات جامعية مصنّفة، في لبنان والأردن ومصر وتركيا.

وقد أفاد كاتبنا من مرحلة الحجر الصحي، التي عشناها في الزمن “الكوفيدي”، خلال عامي 2020 و2021، إذْ وفّرت له فسحةً مديدة من وقت، لجمعِ شتات مقالاته بين دفّتي كتاب، بلغت صفحاتُه خمسمائة وثماني عشرة. وإذْ راعى الكاتب خوجة طبيعة هذه المقالات، فقد أدرجها تحت أربعة فصول، يصلح كل فصل منها، حالَ التوسُّع فيه، ليكون كتابًا مُستقلاًّ بذاته.

وقد جاء الفصل الأول بعنوان ” المسألة اللبنانية “، وهو أطول هذه الفصول، إذْ حوى 181 صفحة، وتوزّعت مادتُهُ على عنوانين: “لبنان الدولة التي لم تُولد / طرابلس.. عذابات مدينة “. أما الفصل الثاني، وهو ثاني الفصول حجمًا (122 صفحة)، فقد اتخذ العنوان الآتي: ” في الإطار العربي”. وقد تقاسَمَ نصوصَهُ عنوانان: ” الحراك العربي / سوريا على طريق العاصفة “. وبما يخصّ الفصل الثالث، وعنوانه ” الحراك الإقليمي والدولي ” فقد توزّعت نصوصه على عنوانين، أوّلهما: ” الحراك الإقليمي والدولي: تركيا، إيران، إسرائيل، الولايات المتحدة “، وثانيهما: ” الولايات المتحدة وإسرائيل “. ويمتد هذا الفصل على 113 صفحة. أما الفصل الرابع، وهو أصغر الفصول (82 صفحة)، فقد جاء بعنوان: ” هموم عربية وتداعيات ثقافية “.

إذا كانت الفصول الأربعة تتباين، موضوعات ومضامين، فهي تتداخل مع بعضها بعضًا، وتغتذي من بعضها بعضًا. فعلى سبيل المثال، قد نقع على قضية لبنانية، تتجاوز الإطار المحلي إلى الإطار الإقليمي أو الدولي، بما يؤشِّر على تشابكٍ بين ما هو محلي لبناني وما هو عربي وما هو إقليمي وما هو دولي، وليجدَ هذا التداخل تعليله فيما يدعوه الكاتب ” لُعبة الأمم”!

وعن الموضوعات، التي حفلت بها الفصول الأربعة، فنحنُ بإزاء 186 موضوعًا، عكست مُجريات الأحداث في لبنان، وفي أربع جهات المعمورة، ليس من موقع التأريخ لهذه المجريات وتوثيقها، بل التفاعل معها، كما أسلفنا، من منظور علم اجتماع السياسة.

في سردٍ مُتخيَّر لبعض عناوين الموضوعات / المقالات، التي يضمّها الكتاب، نتوقف في الفصل الأول عند الآتي: التمثيل النيابي / الفساد السياسي/ الحكومات والأداء الحكومي / الانتخابات البلدية / المحكمة الدولية/ اتفاق الدوحة. وبما يخص “الطرابلسيات “: تيار المستقبل / طرابلس الضحيّة/ حرب داحس التبانة وغبراء الجبل / عناق الجدران المخضّبة إلخ.

وفي الفصل الثاني، نجدُنا بإزاء: ربيع العرب.. لماذا الآن؟ / عن النظام العربي / ثمار الربيع العربي / الربيع السوري في المختبر الدولي/ أمريكا وسلاح الدمار الشامل إلخ.

وعن الفصل الثالث، فإننا ننتقي بعضًا من عناوينه: تركيا وإسرائيل من التحالف الاستراتيجي إلى الخلاف الاستراتيجي / تركيا وسياسة الجسور المفتوحة / تجفيف مصادر الإرهاب / الأمن العربي بين الطموح التركي والجموح الإيراني إلخ.

وفي الفصل الأخير، وهو فصلٌ ممتع، بتنوّع موضوعاته وعدم اقتصاره على المجال السياسي، فقد حفل بقضايا فكرية وثقافية، على تماس غير مباشر بالفضاء السياسي. وقد اخترنا منه: العبور إلى الدولة وَهْم / القوة الناعمة وقضية تحرير فلسطين / موت مثقف ولادة ثقافة / المثقف في عصر الاستهلاك / خطاب السياسة في الفن / براءة الإسلام.. براءة من العقل / ترميم تمثال الحرية أم ترميم حرية أمريكا؟ إلخ..

– عن المنهج، الذي توسَّلَهُ الباحث خوجة، فقد حرص على مُجانبة المنهج السردي المملّ، ما وسعه الجهد، ولم يتعامل مع الحدث، على غرار الصحافيين، من كُتّاب الأعمدة والزوايا، فهو ليس بصحافي ممتهن، عليه أن يؤدّي ” فرضًا” يوميًّا. بل هو باحث أكاديمي، يتسلّح بآليات الفكر النقدي، ولتكون اليدُ الطولى لعملِيّتي التفكيك والتحليل، مُخضعًا المعطيات، التي بين يديه، إلى فحصٍ وتحرٍّ دقيقين.

لقد كان للكاتب أن يتكئ على المنهجين الاستقرائي والاستنباطي (الاستنتاجي) فيُعمل كلاّ منهما، وفق طبيعة القضية التي يُقارب.

ثمّة نقطة إيجابية، على الصعيد المنهجي، تتمثَّلُ في تقصِّي الكاتب بعض قضايا، من معينها وعبر مصادرها الأساسية، وفي حيِّزها المكاني. فها هو في مقالَتيه ” هواجس على ضفاف البوسفور” (صفحة 346 – 348 / وصفحة 365 – 367)، اللتين يتناول فيهما بعض المواقف التركية والسياسة التركية، يُحاورُ أستاذًا جامعيًّا تركيًّا، مُتخصِّصًا في القانون الدولي. هو لم يتوفَّر على أطروحته “التركية “، من خلال التنظير الصِرف فحسب، بل أطلّ عليها أيضًا من “أرض” الأطروحة (أي أرض الحدث) سماعًا، على غرار ما فعل الفيلسوف وعالم الاجتماع السياسي الغربي ألكسي دو توكفيل (1805 – 1859)، الذي قصد أمريكا لتحرّي مسار الديمقراطية فيها، فكان كتّابه المشتهر”De la démocratie en Amérique” (عن الديمقراطية في أمريكا)، الذي صدر بجزئيه عَامَي 1835 و1840. وكذا فعل الباحث خوجة في نصّين آخرين له ” استراحة فوق غبار تقسيم ” (صفحة 368 – 370 / وصفحة 371 – 373).

وإذْ كانت الموضوعية ديدنَ كاتبنا، فقد كانت له وقفات، في مواضع من الكتاب، اتّسمت بُبعد تعبيري خطابي، من دون الانتقاص من صُدقية المعطى.

قد يرى بعضُ النقاد أن الجنوح إلى الخطابية يفضي إلى المعيارية، القائمة على ” الينبغيّات”، بحسب تعبير الباحث د. أنطوان مسرّة.

هذه المسألة تستحق منا وقفة متأنِّية، فلا نتعجَّل في إصدار الأحكام القاطعة. لقد تحصّل لنا أن الباحث خوجة، في مقاربة موضوعاتِهِ، ذات البُعد المحلي اللبناني، لا سيما الطرابلسي، كما العربي، لم يكن مُحايدًا. ولا يعني ذلك أنه كان مُنحازًا إلى عقيدة سياسية معينة. بل هو غير ” متحزِّب أو غير مؤدلج. هو وطنيٌ حتى العظم، وعروبي حتى النخاع الشوكي. فلقد ساءه ما آلت إليه أوضاع لبنان وأوضاع المنطقة العربية من تردٍّ متماد، في جميع المجالات، وباتت في أسفل قائمة الأمم. من هنا لم يستطع أن يكتم غيظه وغضبه، وهو الذي دعانا، في إحدى مقالاته إلى الغضب (يا أمّة العرب شيءٌ من الغضب / ص 190).

هكذا طفق يُعنّفُ القيّمين على الأوضاع العامة، كما يُعنّفُ الشعب، الذي ينساق وراء زعيمه، انسياق القطيع للكرّاز. راح ينزاح، بعض حين، من صفة الباحث الصارم علميًّا، إلى صفة الخطيب المرشد والمعنّف في آن.

ففي مقالته ” لا تجعلوا طرابلس أبرز الضحايا ” (ص 147) ثمة دعوة، بنبرة خطابية، إلى تجنيب طرابلس أن تكون ضحية بل أبرز الضحايا. هكذا كان ترداده لعبارة: “لا تجعلوها” لعدة مرات.

ومن خلال مقالة أخرى “دولة.. فالج لا تعالج”، وقد كتبها في حُمّى جولة الاحتراب (رقم 18) بين التبانة وجبل محسن، كان له أن يردّد عدة مرات اللازمة (لا): لا لتجاهل الوقائع من قبل الدولة / لا لدور شاهد الزور (..) / لا للجلوس في مقاعد المشاهدين (..)/ لا لعدم الإقرار بالعجز الناتج عن غياب الإحساس إلخ (ص 169).


” زمن الخيبة ” / لونًا معرفيًّا ومحطات للتفكُّر والاعتبار

ينتمي ” زمن الخيبة” إلى فن المقالة، وهو لونٌ أدبي مستحدث في الفكر العربي، يعالج فيه الكاتب قضية أو فكرة معينة أو حدثًا محدّدًا. وهو لونٌ يطول مجالات معرفية مُتعدّدة. من هنا نجدُنا أمام المقالة العلمية والمقالة الأدبية، والمقالة السياسية والمقالة الاجتماعية، وإلى آخر السلسلة من المقالات، في فنونٍ شتّى.

وتتسم المقالة بسهولتها، وبقِصرها، بما يجعلها تتناسب راهنًا وعصرنا، الموسوم بعصر السرعة.

بهذه السِمات، فإن المقالات المائة وست ثمانين، التي يضمّها “زمن الخيبة”، تُلبّي شروط فن المقالة السياسية الاجتماعية. فكل مقالة، كما ذكرنا آنفًا، تُكِبُّ على أطروحة أو قضية أو حدث محدَّد، ولا تتجاوز الصفحات الثلاث. وقد عمد الباحث خوجة إلى توسُّل لغة سليمة واضحة، مما يجعل مقالاته، واستطرادًا الكتاب، في متناول أكثر الشرائح المجتمعية. وفي ذلك استجابةٌ لديمقراطية الفكر، انتشارًا وذيُوعًا!

صحيح أن الباحث خوجة أدرج كتابه، بحسب عنوانه، في إطار الاجتماع السياسي، ولكننا نرى إليه أيضًا مؤلَّفًا، ينضح بمحطات، تنضوي إلى الكتابة الإبداعية. فالكتاب حافلٌ بوقفات أدبية رائعة، كما بتعابير مبتكرة، تفرّد بها الكاتب، فكانت التماعاتٌ مبثوثة في تضاعيف الكتاب.

وعلى سبيل التمثّل، نستلُّ بعض مقاطع. فمن مقالة ” متشائل “تنقصُهُ الدهشة “، نقرأ في مستهل المقالة: ” ودّع اللبنانيون عامًا واستقبلوا عامًا آخر. هكذا، وبكل بساطة، كمن يُقلِّبُ صفحات كتاب مملّ، تمضي السنون بهم، كمركب في التيه، لا يترك في ذاكرتهم إلاّ مزيدًا من الحسرة ومزيدًا من خيبات الأمل، ومزيدًا من اليأس! هكذا ودون أن يذرفوا دمعة واحدة على العام المنصرم، الذي لطّخ بالسواد حاضرهم، وزنَّر باليأس مستقبلهم، وتركهم في منزلة بين المنزلتين، عاجزين عن التفاؤل بالآتي من الأيام، ولهم في ذك ألف عذر ” (ص 107).

.. ومن مقالة، “طرابلس أولاً ” (ص 133) موصِّفًا ما تُعانيه: “حالةُ الاستكانة والانكسار والعُزلة والتهميش الرسمي، التي تعيشها المدينة، والتي حوّلتها إلى مجرّد أحياء متجاورة ومنثورة في بُستان خريفي مهجور “.

– ولقد كان للمشهديات الأدبية أن تبلغ الذروة، في ” رباعيتِهِ ” (أربع مقالات) التي جاءت بعنوان ” عناق الجدران المخضّبة “. فعبر هذه الرباعية يروح إلى عالم طفولته وحداثته ، فيعمد إلى عملية  ” مسح وجداني ” وليس طوبوغرافيًا ، للمنطقة التي عاش فيها ، وهي منطقة تحكي قصة مدينة طاعنة في الزمن ، هي المدينة الداخلية المملوكية العثمانية ، حيث كانت دُكان الوالد المحاذية لنهر أبي علي ، وحيث السكن العائلي في منطقة القبة ، قبة النصر ، المُشرفة على المدينة ، وهو يقع بجوار الكنيسة والمسجد ، وإذا بنا أمام مشاهد من سيرة ذاتية : ” وَتذكّرتُ أنني أودعتُ تلك الأزقّة الثكلى في طرابلس بعضًا ذكرياتي وحنيني وأيام صبوتي و طفولتي  المشبعة بالشقاوة في قبة النصر وطلعة العمري وعقبته الزاهد ” ( ص 156 ) .

وفي النص (رقم 2 – الجدران المخضّبة)، يستعيد دُكان أبيه:” لم يتغيّر دُكان أبي، ربّما استبدل مالكه الجديد بابه الخشبيّ، الذي كانت مفاصله تئنّ كل يوم مرتين، بباب معدني أكثر صرامة وأمانًا، فأضاف إليه بعض الرفوف، التي تنوء بالبضائع، في غياب الزبائن، وغربة السكان “(ص159).

.. ومن (الجدران المخضّبة، رقم 4)، فهو نصٌّ مترعٌ وجدانية: “توقفتُ أمام السبيل (سبيل الماء) الحزين، والتفتُّ ذات اليمين وذات اليسار، وأنا أبحث عن مصادر تلك الأصوات المنبعثة من أحياء ذاكرتي المعذّبة، فلم ألمح تلك الوجوه، التي غيّبها الزمن، ولم أحظَ إلاّ بأصوات الجدران الحزينة، التي تبكي في صمت، وهي تبحث، في غياهب اللحظة الضائعة، عن أنيس أو حبيب، فلا تلتقط الاّ الوهم ” (ص 165).

.. إنه الارتقاء بخطاب الأمكنة وخطاب البشر إلى أعلى درجات الحميمية، بحيث أتت هذه الرباعية ” لتُطلَّ على السياسة من باب، لم يألفه ممتهنو الكتابة السياسية الجافة، بل الخشبية، لدى بعضهم!


“زمن الخيبة” بين الرؤيا الاستشرافية وملامسة علم الدراسات المستقبلية

سبق القول إن ” زمن الخيبة” لا يتحدَّد زمنيًّا، لجهة وقائعه، عبر المواقيت التي اندرجت تحتها مقالاتُهُ المائة وست وثمانون، والتي تتموقع بين عامَي 2008 و2014، بل تتجاوز هذين العامين، من خلال الغوص على خلفيات الظاهرات التي يُقاربها والعوامل الفاعلة فيها. ومن جهة أخرى، فهو يستشرف المستقبل، عبر نظرة رؤيوية ثاقبة، رسمت خريطة طريق (سيناريو) لما يحمِلُهُ الآتي، وجُلُّهُ من سيِّء الأوضاع والأحوال.

هكذا كان للباحث خوجة أن يُلامس، في بعض مواضع من كتابه “علم المستقبليات” (Futurologie)، وهو علمٌ يُختصّ بالمحتمل والممكن، مع استخلاص عبرة من الماضي والارتكاز على الحاضر، انطلاقًا من بعض المسلّمات والفرضيّات لرصدِ حركة الزمن الآتي ومساراته.

تمثيلاً على المسألة، ثمة شواهد كثيرة يحفل بها الكتاب، سنكتفي بالتوقف عند قضيتين، أولاهما حول مستقبل النظام السياسي اللبناني، والثانية حول ما يُرتقب للربيع العربي.

من خلال مقالة ” درب الجلجلة “، فهي تُقارب نتائج الانتخابات اللبنانية للعام 2009، لتخلص إلى انتهاء صلاحية نظامنا السياسي:” فالانتخابات الأخيرة، على حرارتها غير المعهودة، لم تكن سوى فصل من فصول إعادة ترميم النظام القائم، كي يستمر في الخدمة على علاّته، رُغم انتهاء صلاحيته” (ص 25). إنّه واقع الأمر راهنًا، بعد مرور أربع عشرة سنة على تحبير هذه المقالة. وإذْ يعلِّل الكاتب عدم قدرة قوى 14 آذار، التي حازت الأكثرية النيابية في تلك الانتخابات، عن إحداث التغيير، فلكونها: “لم تستطع أن تتجذّر في الشارع اللبناني، كإرادة للتغيير، وإنما تمترس أركانها خلف تمثيلهم القبلي والمناطقي والطائفي، وخلف أساليب وممارسات وتقاليد السياسة اللبنانية، فتحوّلوا إلى كونفدرالية تقليدية عاجزة عن إنتاج محرّك فكري جديد، يُشكّل رافعةً لأفكارهم وطموحاتهم السياسية ” (من وحول التكليف إلى فخ التأليف، ص 40).

وكمثال آخر، كما أسلفنا، حول الربيع العربي، فقد كان لدى كاتبنا توجُّسٌ حول المصير الذي سيؤول إليه، منذ أن باشر الكتابة حوله. ففي مقالة، عنوانها: ” ربيع بلا أقحوان ” (19 /3/2013)، يخلص إلى القول: “يدخل الربيع العربي عامه الثالث، والواقع السياسي العربي لم يظفر بالأقحوان الموعود، ولا يزال ينتقل بين خيبات الأمل، ويبتعد أكثر فأكثر عن طموحات الشعوب في الاستقرار والحرية والديمقراطية وحقوق المواطن في العيش الكريم (..) والمسافة لا تزال شاسعة بين موروث سياسي يتنطّح للسلطة، وهو متسلِّح بعقلية القرون الوسطى“.

وبعد استعراضه الوضع التونسي والسوري، ينتهي إلى القول: “الخشية أن يتحوّل الربيع العربي إلى فُرصة ضائعة كبيرة، والتداعيات كفيلة بأن تخنق أريج الربيع المُجهد، ليتحوّل إلى ربيع بلا عبير، أو ربيع بلا أقحوان ” (ص ص: 266 – 268).

.. في نهاية المطاف، وإذْ نثمّن هذا المؤلَّف / المرجع، نرى أنه جديرٌ بالقراءة والإفادة منه، فهو سجلٌ يرصُدُ مرحلةً قلقة من تاريخنا اللبناني والعربي، كما مسار الإقليم والعالم.


***

* “زمن الخيبة” / كتاب في الاجتماع السياسي، مؤلّفهُ د. عدنان خوجة، صدر عن spectrum، لبنان، 2023.

*مراجعة نقدية  ألقيت حلال ندوة حول كتاب د.عدنان خوجة ( السبت 4 شباط 2023) في “مركز  الصفدي الثقافي”، في طرابلس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق