بلاد ما بين النهرين جميلة كالشمس وشعبها ملون بطوائفه وقومياته كألوان طيفها.
مشتركات التعايش بسلام ورفاهية بين ديانات وطوائف وقوميات شعب بلاد ما بين النهرين أكثر بكثير من المفارقات، وذلك بحكم الغريزة أو الرغبة الإنسانية للعيش بأمن وأمان، والطموح البشري بالتطور والتقدم لأجل الرفاهية والسعادة.
لكن عندما تسلط قوة عظمى مثل امريكا، عأساس إستراتيجيتها السياسية والاقتصادية في المنطقة، على هذاالشعب أحزاب وكيانات قومية وطائفية تجعل من خطابها السياسي العنصري واقع حال بقوة المال والسلاح، بالتأكيد تصير المتفرقات أكثر تأثيراً على الشعب من المشتركات. وبالتأكيد يكون التحزب والتكتل في كانتونات طائفية وقومية، الوسيلة الوحيدة للأمن والأمان المعيشي.
في الأول من تشرين الأول عام 2019 انطلقت في شوارع بغداد والجنوب ثورة شعبية كانت امتداداً لتظاهرات واحتجاجات سبقتها في مناطق متفرقة وأزمنة متتالية، شملت العراق من شماله إلى جنوبه. على سبيل المثال، تظاهرات عام 2011 المطالبة بإصلاح المنظومة الاقتصادية للدولة بإقصاء ومحاسبة الفاسدين، والاعتصامات السنية المطالبة بإصلاح المنظومة السياسية بإقصاء ومحاسبة الطائفيين ، واحتجاجات الكرد على تردي الاوضاع المعيشية وهيمنة حكم العوائل. ورغم الأسلوب القمعي السلطوي الموحد في معالجة هبات الغضب الجماهيري تلك، واخمادها بشيطنة أسبابها وأهدافها وفق نظرية المؤامره، ظل جمرالغضب الجماهيري راقداً تحت الرماد.
في البداية انطلقت ثورة تشرين بفعل مجاميع نخبوية من الشباب والفتيات الذين عاصروا خراب ما بعد الاحتلال، وصاروا ضحايا منظومة سياسية احتلالية قسمت، بنظام المحاصصة، بلادهم إلى طوائف وقوميات عنصرية. خرجوا في الشوارع يهتفون ضد منظومة سياسية احتلالية جعلت من قادتها وعوائلهم، والمليشيات المسلحة المدافعة عنهم، والطبقة الإدارية المعنية بخدمتهم، اسياداً عليهم ومصادرين، بغير حق، مقدرات وخيرات وطنهم.
من خلال فساد إداري سياسي واقتصادي وثقافي واجتماعي هو الاسوا في تاريخ العراق الحديث. وفي مرحلة مروعة من العمالة للمشاريع الخارجية ومحاربة الهوية الوطنية، صارت بلاد ما بين النهرين مستنقعات دماء للمشاريع الإقليمية التوسعية وفصائلها المسلحة بمسميات وحكايات دينية، وصارت بؤر لمافيات تهريب العملة والآثار وتجارة السلاح والجنس وبيع الأعضاء البشرية، ولكل ما نتج عنه من تداعيات تسببت بالانهيار النفسي والمادي للمواطن وبالتالي الأسرة والمجتمع.
في خضم الخراب الذي لا مهرب منه إلا بغضب وطني عارم، أدركت تلك المجاميع الشبابية النخبوية بوعي استثنائي وطني ما لم تدركه الأجيال التي سبقتهم، أدركوا بأن الحل ليس في الإصلاح والتصحيح ولكن بالتغيير الشامل لكل ما جاء بعد الاحتلال الامريكي لبلادهم. أدركوا بأن الحل ليس في التخلص من شخصيات العمالة والفساد في منظومة الدولة، ولكن بتغيير النظام الذي تدار به الدولة من خلال تلك الشخصيات. وعلى هذا الأساس خرجت تلك المجاميع وهتفت " نريد وطن" .
في الوهلة الأولى استقبل الشعب العراقي هتافاتهم بشيء من اللامبالاة وظنت الحكومة المعزولة والمحصنة في المنطقة الخضراء بأنها مجرد هبة غضب وستنتهي بالقمع المسلح المنظم كسابقاتها. لكنها لم تنتهي على الرغم من قتل الشباب المتصدرين لها، ومنهم الشاب صفاء السراي.
في ذات الوقت كانت هناك مجاميع من شباب التيار الصدري الطائفي الذين خرجوا مع أترابهم من المدنين المستقلين بدوافع وطنية عفوية لا طائفية سياسية كما حدث في أيار 2016.
حيث في التاريخ اعلاه اقتحمت جماهير التيار الصدري مقرات الحكومة في المنطقة الخضراء وأثارت الرعب في سكانها من السياسين وأدت إلى هروب معظم مستوطنيها مع عوائلهم. لكن سياسة التأرجح لزعيم التيار مقتدىالصدر بين تأييد حكومات المحاصصة الطائفية والقومية والاشتراك معها في توزيع المناصب، وبين رغبة جماهيره بالإصلاح الشامل، رمت بظلالها الكئيب على نفوس هؤلاء الشباب وخلقت داخلهم شيء من التمرد الغير معلن على سياسة زعيمهم، فانضموا كخط ثاني مع أقرانهم المدنين، حيث كانت دوافعهم النفسية الوطنية أكثر تحفيزاً من العقائدية التي اقتحموا سابقاً بتأثيرها المنطقة الخضراء، والتي انتهت بانتقادات زعيمهم على فعلتهم ورسخت شكوكهم بحقيقة غاياته في قيادتهم.
انصياع مجاميع التيار الصدري من المتمرسين على مواجهة العنف السلطوي لقيادة أقرانهم من المدنين المتسلحين بالوعي الوطني النخبوي، منح ثورة تشرين زخم شبه متكامل من التنسيق المنظم بين مواجهة عنف السلطة دفاعاً عن النفس والحفاظ على سلمية ثورتهم. ووفق منهجية الكر والفر السلمي للمجاميع الشبابية، انتقل الغضب الشبابي من مرحلة الهتافات العفوية إلى مرحلة الاصرار والثبات على الأرض والموقف.
ولكي نفهم الأخلاقيات الإنسانية والوطنية لثورة تشرين الشبابية، نحتاج التوقف عند الشرارة التي اشعلت سراج الثورة، وكيف ولماذا أدى عجز حكومة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي عن قمعها إلى تدخل قائد فيلق القدس قاسم سليماني لتشكيل خلية الأزمة مع قيادات المليشيات التابعة له لأجل اخماد تلك الثورة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق