قراءتي الأولى في ديوان "عالم أعمى" للشاعر شربل بعيني/ محمود شباط

 




قصيدة "عالم أعمى"

**********


قيل بأن الإبداع الأصيل كالبناء الشاهق، والصيت كالظل، وسرعان ما يذهب الظل فور زوال البناء، ويستمر طالما استمر البناء.

تتجسدُ هذه الحكمة في آلاف الأبنية التي شيدها الشاعر والأديب والمُربِّـي شربل بعيني، الذي يأبى إلا أن يُشركنا بغناءٍ احتفاليٍّ حيناً، وبعزفٍ شجيٍّ على آلة سيتار هندية حيناً آخر. ذلك ما يراه القارىء بوضوحٍ كافٍ في مؤلفاته بشكل عام، وفي قصيدة "عالم أعمى" بشكل خاص. حيث يؤلمُه سير العالم في الاتجاه المعاكس :

"العالم عَم يمشي خْلَيفاني !! 

 العالم عَم يمشي خْلَيفاني !!

وِيجرّ الأيَّام بْشَعرا،

يوَقِّعها عَ الأرض

ويِدعَسْ عَ صَفحاتا البيضا

ويِزوي متل الأعمى الْـــ ضَيَّع دَربو!!"

بِمُجَـرَّدِ بِدءِ القاريء في العَـبِّ من سلسبيل شربل بعيني، من أيٍّ من ينابيعه الغنية، سوف يحسّ ببلورةٍ صادقةٍ احترافيةٍ لمعنى التطلع نحو الأفضل، يُضيء كفانوس تنويريٍّ ، بهي الحضور، إن تكلم عن الماضي تراه صُوَراً حلوة دافئة تحنّ إليها، وإن قارَبَ المُستقبلَ يُريكَ ضوءَ آخر الـنَّـفق. يكرج حجل يراعه برشاقةٍ على مدارجِ الفكر الأصْوَب تمهيداً للتحليق في فضاءات الإنسانية والحضارات البشرية والدعوة للتفاعل معها، بما يفضي إلى التوازن الروحي وينابيع السعادة الداخلية.

ما يعطي إبداعَ شربل بعيني ميزته الخاصّة هو احترامه لوقت القاريء، حيث يُـثمرُ الكلام أدبا نديّا طريّا سهلا مُمتنعا، وذلك عبر تكثيف الجملة بالبلاغة التي أوجزها ابن المقفع بهذه العبارة : " البلاغة هي التي إذا سمعها الأخرق ظنّ بأنّه يحسن مثلها".

 

عَـبْـرَ دَفَّـتَي الدِّيوان نرى المُساكنةَ البريئة بين الشِّعـرِ والـنَّـثرِ والصُّوَرِ المُلونة. وقد صاغتها ورسمتها أنامل محترفة حريصة على مقتنيات الموروث، كما الأثر الأخلاقي والإنساني والحضاري كما لو كان الغرض هو حفظه من الاندثار. 

لا يُوفِّـر شاعرنا ما يُسمَّى بالصّحافة الصفراء التي تفبرك الخبر لمن يدفع أكثر من اللَّوم والتقريع، حيث لا يهمّ "التاجر الصحفي" أو "الصحفي الدكنجي" العبث بالسُّلم الأهلي حتى، ونَحرِ الحقائق بحافة ورقة الدولار طالما يصلهُ المعلوم بالدولار حيث يرشقهم شاعرنا بسهامه دون وجل أو تردّد:

"والكتَّابْ... اللازِم حَرفُنْ 

يضوي بعَتمات الأيَّام

باعُـو حْـروفُن بالسُّوقْ السّودا

وْما خَـافو لَعنِة هالأجيال الجَّايِـي

مِن تَحت حْجَار التّاريخ  

الْــ ما داق الحنِّيِّه قَـلبُو".

بحضور أدبي يرخي بظلاله على الساحة الثقافية بمختلف ميادينها، قارَبَ الشاعر بعيني دوافع استنهاض الجديد واستحضار العتيق، مُمَهِّـداً مساحةً قَـيِّـمةً معقولة ومُجدِيَـةً أمامَ مَن تَـتَـوفُّـر لَـدَيهِ الـنِـيَّـة والإمكانِـيَّـة للكتابة،  وللعمارِ على مَداميكه المتينة البنيان.

وفي قصيدة "حكاية بطل" يستذكر شربل بطلا وطنياً، قد تنطبق أوصافه على بعض الذين طالتهم مخالب الغدر: 

"وبـيخَـبْرو أخبَـار وحْكَـايات

عَـن بَـطل ....

لَـفّ الحقيقة بالأمَـلْ

وخَبّى بِقَلبو تْراب وسْواقي

وأشجَـار عَـم تـشـلَح تَمر للنَّاس

وصِدفِه .... عَ تَلّات المَـحَبِّه مات

وما انـعَـرَف كيف مات!! "

وإلى اللقاء في قراءتي الثانية في قصيدة "لصوص الهَيكَـل"، الذين يسمِّيهم بعض صحفيي هذه الأيام "بنكرجية" ، وكذلك قصيدة "نحنا ملوك الحب". 

عيحا في : 28/04/2023

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق