"كونين ـ لطائف وطرائف" كتاب قصصي لقي اهتماماً في فلسطين المحتلّة وفي متحف الشاعر الكبير الراحل محمود درويش تحديداً، حيثُ عُقِدت ندوة عن عالم القصّة القصيرة والتطوّر الذي طرأ عليها.. تحدّث فيها عدد من الأدباء والمثقّفين والنقّاد بينهم القاصّ والناقد والأديب محمود شقير الذي لفت إلى أهميّة القصص القصيرة في كتاب "كونين ـ لطائف وطرائف" لجهة عناصر كثيرة بارزة منها " التوثيق" و"العفويّة التي ترد على ألسنة النّاس" و"هاجس الجنس في المخيّلة الشعبيّة". وأخيراً حثّ الحضور على قراءة الكتاب بعدما قرأ نصوصاً منه كنموذج". وإليكم أجنحة:
1 (ملح القعّ)
كان المرحوم عقيل سرور "أبو مسلم" نحيلاً وأقصر كثيراً من زوجته العبدة، وهي أصلاً من بلدة تبنين غير البعيدة بالسيّارة من كونين ـ جنوب لبنان ـ جبل عامل وكانت ذات شخصيّة، ومن سطوتها تمسك بماليّة البيت القليلة وتصرفها بالتدبير في زمان كان يائساً أو بائساً إقتصاديّاً حقّاً. ويوماً، وفيما كان أبو مسلم يحرث أرضه علقت سكّةُ الفلاحة بشيء ليتبيّن إنّه حجر كبير من نوع "ملح القعّ" الذي يخلط في لونه بين الأبيض والأسمر وإذا لفحتْه الشمس يصدر بريقاً قولوا بريق الماس، وعند مدخل بيت الصديق علي فيّاض "أبو أحمد" حجران كبيران منه.
وطرأتْ لأبي مسلم خاطرة أو فكرة طالما تندّر بها أبناء كونين، وكلّ غايته أن يأكل لحماً مشويّاً افتقد طعمه من زمان وربّما من أزمنة. وهما في البيت ليلاً قال لزوجته بحركة مسرحيّة ذكيّة متلفّتاً يميناً وشمالاً إنّه عثر، وهو يفلح، على كنز. ولمّا اندهشت العبدة وكاد صوتها يرتفع وضع يده على فمها بسرعة حرصاً، فالبيت في وسط الضيعة والبيوت متلاصقة وكلُّ جار يكاد يحصي أنفاس جاره.
ومع الفجر نهض أبو مسلم عريساً، متحمّماً، يتمطّى، ثمّ رجع إلى البيت ومعه أمّ مسلم وعلى رأسها "سِدِر ألمينيوم" فيه حجر مغطّى بقماشة تحجب عنه النظر. ودفناه في "صحن البيت" بعد أخْذ "مسطرة" ـ عيّنة، فيذهب أبو مسلم، بحسب الخطّة الموضوعة أو المرسومة من قبله شخصيّاً، إلى مدينة صوْر التي تبعد حوالي 40 كلم من قرية كونين بحثاً عن مشترين، واشتكى بدهاء إنّه للأسف ليس معه بدل أجرة سيّارة إلى صور، فأعطته بأريحيّة من القليل الذي تحفظه، ولكنّه عوض أن يذهب إلى صور ذهب إلى بلدة بنت جبيل المجاورة وقصد اللحّامين، واشترى لحماً، وطلب أن يُشوى اللّحم له، وتأخّر في السوق، ورجع إلى البيت، وقال لزوجته إنّه عثر على من سيشتري الكنز، وإنّهما يتفاوضان.
وفي اليوم التالي، وقد ذهب إلى بنت جبيل أيضاً، عِوض صور، وقد أخذ من زوجته بدل إيجار النقل كذلك، وقصد لحّام الأمس، ورآه أناس من كونين واستعجبوا حاله فهو غير مقتدر، ووصل خبره إلى أمّ مسلم، وانتظرته غاضبة، وعندما بلغَه أنّها علمتْ بأمره لم يرجع إلى البيت حتى توسّط له الأوادم ولكن، طبعاً، لم يتب.
2 (مخاطباً الله)
هناك رواية عن الحاج مصطفى فوعاني تقول إنّه كان قد زرع قطعة أرض قمحاً، ونضج القمح ولم يبلغ طوله شبراً، وبعد البيدر والمورج جعل القمح الصافي في "خيشة" صغيرة ربطها وجعلها على حمارته إلى البركة الكبيرة التي من زمان ما قبل الرومان من أجل الغسل والصوصلة، وكان الحاج مصطفى طيّب القلب إنّما "عصبي"، وكانت أيّام فقر، وعندما اقترب من البركة خطر له أن يرفع يديه نحو السماء وهو يقول: "يا ربّ حلّها وافرجها علينا"!. وكانت الحمارة قد وضعت قائمتيها الأماميتين في الماء كالعادة ولكن هذه المرّة لم يعجبها أن تشرب من أوّل البركة بل خاضت في الماء أمتاراً، وزيادة في الطين بلّة كأنّ أحداً حلّ ربطة الخيشة وهرَّ القمح في الماء. وانصدم الحاج مصطفى، ورفع يديه بعصبيّة نحو السماء مخاطباً الله وقال: "قلتلّك حلّها وافرجها ما قلتلّك حلّ الخيشهْ"!.
3 (حذاء القمر)
في سنة 1973 وكنت ملتحقاً بثانويّة بنت جبيل ـ عروس الجنوب، قال ابراهيم فوعاني، وعند الظهر، كنّا نأخذ فرصة ساعتين، من الثانية عشرة إلى الثانية ظهراً. ومرّة وكان يوم خميس حيث يُقام سوق الخميس الشعبي في بنت جبيل كنت أمرّ بمحلّ أحذيه بين سوق اللّحم وسوق الغلّة والبالة عند أسفل درج لا يزال قائماً، وكان داخل المحلّ الصديق أحمد غول بصحبة أبيه الذي كان قد وعده بحذاء جديد، ووفى بوعده، وكانا يعاند أحدهما الآخر أمام صاحب المحلّ الذي كان يزن فوق 120 كلغ، وله كرش ـ بطن كبير، وكان جدّي يمازحه فيضع يده على بطنه ويقول له: "شو؟ أيمتى بدّك تخلّف"؟. وكلّ أهل كونين يتعاملون مع صاحب المحلّ الطيّب هذا بالذات. وأصرّ أحمد غول على حذاء له كعب عالٍ، وكانت الموضة هي الكعب العالي، وكان أبوه يحبّذ حذاء عاديّاً يحمله وينصح به إبنه باعتباره "متين" و"بِيضَاين" ـ يدوم، وما من فائدة حيث أصرّ أحمد وقال لأبيه بعناد: "أريد هذا الحذاء أو لا أريد شيئاً"، فغضب الأب وأمسك بحذاء الكعب العالي ورفعه عالياً وقال: "لوين بدهن يرفعوا الزلمي ـ الإنسان ـ بعد؟ عالقمر"؟.
4 (الشيخ علي)
ورواية يزيد عمرها على سبعين عاماً، كان الشيخ علي ياسين هو مؤذّن كونين، ويؤذّن "يدويّاً" حيث لم تكن كهرباء وميكروفونات إلى الستّينات من القرن العشرين. كان الشيخ يصعد الدرج إلى مئذنة الجامع ويقوم بتأدية الآذان، وكما تعرف فالحال في ذلك الوقت، ولكلّ مزارعي جبل عامل، سواسية تقريباً، كان بائساً، أي الجميع في مستوى واحد، إلاّ الشيخ علي فقد كان الأكثر فقراً لأنّه كان كفيفاً وزوجته مثله كفيفة وقد رزقهما الله خمس بنات "مفتّحات" إنّما لم يرزقهما صبيّاً. وللإستعانة على الحياة افتتح الشيخ علي دكّاناً صغيراً ولا مصدر رزق له ولأسرته غير هذا الدكّان المتواضع جدّاً. وحدث أن اتّفق بعض الشباب "الشلمسطيّه" على سرقة الدكّان، ورسموا الخطّة، ولعبوا بعقل عبد الحسين طعمة الذي كان أصغرهم سنّاً، واستطاعوا إقناعه بدهاء، وبسّطوا له الأمر باعتبار أن الشيخ يثق به، وقالوا له بوجوب الذهاب للدكّان وشراء أي شيء، وأن يتحيّن الفرصة ويتّجه إلى باب الدكّان ذي "الدرفتين": الأولى متحرّكة والثانية ثابتة، ومهمّته فقط أن يخفض قفل "الدرفة" الثابتة من الداخل ففعل. وعند منتصف الليل جاء دور "فوج المغاوير" الذين "دفشوا" ـ دفعوا الباب ـ وفتحوه بسهولة، ونهبوا المحتويات عن بكرة أبيها. وعندما طلع الصباح لم تسكت شهرزاد وخاضت في الكلام المباح، وانكشف المستور وضجّت الضيعة لهذا العمل الأرعن، ومن جهتهم فإنّ أفراد العصابة أظهروا أنّهم أشدّ الناس إستنكاراً لما جرى أو حصل، وكان قائد العمليّة هو أبو مصطفى، يصيح غضباً وأسفاً، ويصول ويجول، ويتقدّم ويتأخّر، ويصفّق، بعدما يرفع كفّيه نحو السماء ويقول: "يا ويلكم من الله يا أهل كونين"!. وكان عبد الحسين طعمة واقفاً مع الناس يراقب مندهشاً ولا يصدّق غرابة أفراد العصابة. وندم على فعلته أشدّ الندم ولكن ظلّ الأمر سرّاً حتى تقدّم في السنّ وقرّر أن يذهب الى مكّة حاجّاً بيت الله الحرام، وذهب إلى إمام البلدة السيّد محمد باقر إبراهيم وروى له تفاصيل التفاصيل، وخمّن السيّد قيمة المسروقات مع احتساب فارق الزمن، فالأسعار تتغيّر، ودفع عبد الحسين المبلغ الذي تمّ توزيعه على الأكثر عوزاً في كونين عن روح المرحوم الشيخ علي ياسين.
5 (بين السمرا والبيضا)
اشتبكت إثنتان بالغناء إحداهما سمراء وثانيتهما بيضاء، وكلٌّ منهما تُظهر محاسنَها ومعايبَ الثانية. وأخيراً قرّرتا الذهاب إلى القاضي ليبتّ في أمرهما ويقضي للأجمل. ويبدو أنّ القاضي فاسد، فيقضي للبيضاء التي تشير إليه بيديها خفيةً أنّ حزمة كبيرة من المال بإنتظاره إذا قضى لها. وكان حسين عبدالله "أبو فوزي" رحمه الله، وهو رجلٌ "فاكهة" بتعبير كامل مسلماني "أبو محمّد" ورجلٌ "فاكهة" مثل كلّ آل طعمة في كونين بتعبير شاهر مسلماني "أبو شوقي"، كان يغنّي هذه الأغنية وهو بالجزمة الطويلة والخيزرانة، "وْعمْيرقص"، وكلّ من في العرس كورس له فَرَحاً وضحكاً وتصفيقاً: "بين السمرا والبيضا \ صاير خِلفه قويّه \ السمرا بتقول للبيضا \ لي عندك مشروعيّه". وتقول السمراء: "أنا السمرا السمّوره \ بْناغي متل العصفوره \ يا بيضا يا مصفوره \ يا ليمونة المهريّه". وتقول البيضاء: "أنا ماني ليموني \ كلّ الشباب حبّوني \ يا سمرا يا مجنوني \ كبّاشك متل الجنيّه". وتقول السمراء: "متل الجنيّه كبّاشي \ بيخضع لي أمر الباشي \ عيونك متل الرشّاشي \ وْبينزّوا دايماً مَييّ". وتقول البيضاء: "متل الرشّاشه عيوني \ لكن حلوه ومزيوني \ قماشةْ وجّك مدهوني \ بزفت المركبجيّه". وتقول السمراء: بالزفت طاليتيني \ يا بيضا يا لعيني \ لونك متل الشنّيني \ وبْيمصل باللبنيّه". وتقول البيضاء: "اللبنيّه مأكول الناس \ ما هي زفت الأقرع راس \ يا لونِك أسود أغباس \ كأنِّك مشحرجيّه". وتقول السمراء: "مشحرجيّه وغندوره \ ومن وجّي تهلّ بْدوره \ يا بيضا يا مصفوره \ يا حوّارة البريّه". وتقول البيضاء: "أنا ماني حوّاره \ وجّي عالقمر طاره \ البيضا ستّ القمارا \ والسمرا خزمتشيّه". إلى أن تقول السمراء والبيضاء معاً، وقد اتّفقتا أن تحتكما للقاضي: "إيدي وإيدِك عالقاضي \ تنكفّي المشروعيّه". وتقولان: "يا قاضي السلام عليك \ نحنا بأرواحنا بنفديك \ ما تحكيلناش هيك وهيك \ واشرح بالحق سْويِّه". ويقول القاضي: "السلام بردّ عليكن \ ذبحتوني بعينيكن \ إحكوا أنا بين ديكن \ بْرايات المعنويّه". وعندما يعجز عن التميّيز أيّهما أجمل يقول: "والمعاني بْراياتي \ اسمعوني يا بناتي \ السمره رجوة حياتي \ البيضا رجوة عينييّ". وتقولان: "ما بدّها رجوات عيون \ إحكي كلامك عالقانون \ مين اللي فازت بالكون \ ع الستّات المخبيّه"؟. فتشير له البيضاء، بيديها، من وراء ظهر السمراء، كما أشرنا، أنّ شيئاً "محرزاً" بإنتظاره، فيسارع ويقول ناطقاً بالحكم النهائي: "بحكي كلامي عن أكيد \ لا بنقّص فيه وْلا بْزيد \ البيضا بْتضوّي لبعيد \ متل الشمس المضويّه". فتغضب السمراء وتقول للقاضي المغشوش: "إمشي أقعد ع الحفّه \ ما بتفهم ولا نتفه \ تاكلّك هاك اللفّه \ بتطلع دورة أرضيّه". ويطلب القاضي من البيضاء أن تفيه ما وعدته، فتستنكر أن تكون قد وعدته بشيء، وتقول إنّها كانت تشير بيديها لينتبه أنّ له "قِرق" فقط.
6 (الضبع الخائب)
عبد الحسين طعمة "أبو منير"، وقد بلغ سنّ الرشد، بدأ يحبّ ويعشق، وكان يحضر عرساً بمفرده في بلدة برعشيت المجاورة، وانسجم حتى تجاوزت الساعة العاشرة ليلاً، وقرّر أن يعود الى كونين سيراً على الأقدام، ولم تكن سيّارات في ذلك الزمان، وحاول أصحاب العرس ثنيه وإقناعه أن يبقى ويبيت عندهم لأنّه إذا كان وحيداً قد تعترضه الضبع، فلم يكترث. وبينما هو يسير في الطريق وإذ ضبع، لسوء الحظّ، تعترضه، ومن حسن الحظّ في آن كانت شجرة قريبة، وتسلّقها بأسرع من لمح البصر، وبقيت الضبع تنتظر تحت الشجرة علّ وعسى تزلّ قدمه ويقع، ولكنّ عبد الحسين لفّ ذراعيه حول أحد الأفنان و"تجربَد" ـ استمسك بقوّة ـ وأمضى الليل الطويل هكذا: مفتّح العينين، حابس الأنفاس، مشدود الأعصاب، مرعوباً ومتعباً. أخيراً بدأ بزوغ الفجر وبدأ رحيل "العتم"، وتنفّس عبد الحسين الصعداء. ولشعورٍ بالثقة والأمان تدبّر وبال على الضبع. وبدأ الفلاّحون يتهافتون إلى الحقول، وخافت الضبع، وهربت خائبة، ونزل عبد الحسين وهنّأ نفسه بالسلامة.
7 (ثورة الجرّة)
في أوائل العقد الثاني من القرن العشرين كان آل الزين يشكّلون عصب كونين، وكان بعضهم للأسف في آخر أيّامهم من المتسلّطين، ولم تكن في ذاك الزمان مياه شفة، وكانت "العين التحتا" هي المصدر الوحيد المتوفّر لمياه الشرب، وهذه العين لها تاريخ، وجعل آل الزين ناطوراً على هذه العين في صيف جفاف فظيع. وحدث أن أرسل حسين شبلي، جدُّ المرحوم شبلي، ابنتَه إلى العين لكي تملأ الجرّة ماءً، فرجعت خائبة، ولكي يرضى الناطور طلب حسين شبلي من ابنته أن تعود إلى العين وقد حملت سلّة تين وعنب هديّة، فأخذها الناطور وسمح لها بجرّة ماء للشرب، ولمّا امتلأت كسرها عامداً متعمّداً، فرجعت وأطلعت والدها على ما كان، فاهتاجت الضيعة من هذا الإستكبار، وذهب وفد، وبجرأة، إلى بلدة تبنين، مشياً وراكبين الدواب، حيث مكان الحاكم التركي، وعرضوا عليه مظلمتهم والألم والشرر في أعينهم، ولغاية في نفس هذا الحاكم، فقد استقبل مظلمتهم أيّما استقبال وأرسل عسكراً إلى كونين أجلوا منها آل الزين أجمعين، مع تهديد وهو إذا رجع واحد منهم يوماً إلى كونين في حياته فإنّ الحاكم سيمحيهم من الوجود ويمحي معهم حتى حرف "زين" في القرآن الكريم. خافوا خوفاً شديداً، ولم يعد حقّاً أحد منهم إلى كونين سوى المرحوم حسين وأخوه المرحوم صادق حيث اختبآ في بلدة برعشيت المجاورة ورجعا إلى كونين، عند أوّل فرصة شوقاً وحنيناً وقد "غطّى" ـ تستّر ـ عليهما أبناء البلدة لأنّهما كانا "كويسين" ـ لطيفين ـ محترمين ـ بعد أن غيّرا كنية الزين إلى أيّوب، ومن سلالتهما في أيّامنا أحمد الحاج حسين طالب "أيّوب" وشقيقته خديجة حسين طالب "أيّوب"، وطالب هو إسم الجدّ.
8 (حيّة وهميّة)
كان المرحوم الحاج محمد قاسم فوعاني مريضاً فقرّر أصدقاء له، وذلك ستينات القرن الفائت، أن يعودوه في "السهرة" وهذا ما كان. وشاءت خديجة الحاج حسين طالب الشهيرة بالمقالب أن "تلعب" معهم، وهم في طريق العودة إلى بيوتهم، إحدى ألعابها الشهيرة حيث أحضرت عقالاً قديماً أسود اللّون وجعلته على الأرض ملتوياً على شكل يشبه الحيّة وذلك تحت شجرة "بطن" ـ بطم ـ كبيرة، صاحبها هو عبد الهادي بلّوط، والمرور تحت هذه الشجرة إجباري، ويا للأسف فإنّ هناك من قطع هذه الشجرة العتيقة زمان الاحتلال الإسرائيلي للشريط الحدودي اللبناني مع فلسطين المحتلّة، والمهم إنّ "الإخوان" رجعوا وكانوا يتحدّثون مع بعضهم البعض في الليل المقمر بصوت مرتفع قليلاً وربّما خوفاً من قوم الجنّ الذين لا يحبّون الضوضاء لا من قريب ولا من بعيد.. فيفرّون، وما أن اقتربوا حتى بدأت خديجة الحاج حسين، ومن مكانها حيث تختبئ، عمليّة جذب الحبل المربوط بالعقال، رويداً رويداً، وعندما وقعت أنظارهم على الحيّة الوهميّة التي تتحرّك تصارخوا: "حيّه حيه". وبدأوا بمراشقتها بالحجارة، وخديجة الحاج حسين تستمرّ بجذب الحبل حتى شاهدوها تمسك بالطرف الآخر وهي تقف على مهل وتنظر بإستعلاء غريب إليهم!.
9 (حرام عليك!)
وفي الأربعينيّات من القرن العشرين كان مختار كونين هو الشيخ عبد الحسن حمّود والد المرحومين: موسى وجواد، والمشيخة له اعتباريّة وذلك لِسِعة عقله واتّساع صدره، وكان "صاحب بيت" وكريم النفس جدّاً. وكان له صديق بيروتي متموّل من آل الكردي يرتدي "قمبازاً" ـ ثوباً طويلاً و"طربوشاً" أحمر اللون، استضافه الشيخ أكثر من مرّة، فأحبّ كونين وأحبّ أهلها، واشترى فيها "كذا" قطعة أرض. ومرّة جاء إلى كونين مصطحباً زوجته البيروتيّة، وعند المغادرة عائداً إلى بيروت بالبوسطة ـ الحافلة الكبيرة ـ وقفتْ له خديجة الحاج حسين طالب ومعها طفلها يبكي وصرخت في "مقلب" من مقالبها الغريبة: "لوين رايح؟، لمين تارك إبنك؟، حرام عليك"!. وأُصيبت الزوجة البيروتيّة بالذعر، وأقسم زوجُها الكريم أنّه متّهم مظلوم، وبالطبع من دون جدوى. وأخيراً باع الأراضي التي سبق واشتراها وانقطع عن كونين، و"هيداكْ يوم وْهيدا بَدَاله".
10 (عرب الحمدون)
قرّرتْ خديجة الحاج حسين طالب صاحبة المقالب وهي في زيارة مسائيّة إلى أمّها أن تعمل مقلباً بزوجها أبي العبد، واتّفقت مع شخصين وهما شقيقها أحمد الحاج حسين وعبد المعين عناني. وعندما شارفت الساعة العاشرة ليلاً، تقريباً، دقّت ساعة الصفر. وتلثّم أحمد الحاج حسين وطرق الباب وغيّر لهجته وقال: "نحن عرب الحمدون نريد خبزاً". فأعطاه أبو العبد ممّا في اللّكن (وعاء معدني كبير يُحفظ فيه الخبز). ثمّ وضع أبو العبد أذنه على الباب وسمع صوت زوجته خديجة الحاج حسين تقول لعبد المعين: "أدخل إنت وقل له الخبزات ما بيكفّو بدنا (نريد) بعد". واستعدّ أبو العبد، حيث أحضر قضيباً معتبَراً. وقُرِع الباب مجدّداً، وكان عبد المعين ملثّماً، وتكلّم وقد غيّر لهجته أيضاً، وتلقّى الجواب الذي لن ينساه ما عاش يوماً، حيث انهال عليه أبو العبد بالضرب المبرح. وفشلتِ الخطّةُ فشلاً ذريعاً.
11 (قصّة الغزال)
تزوّج حسين عبدالله "أبو فوزي" من نهلة وبيتها الآن بين بيت علّوش وبيت محمود نعمة طعمة، وفي أوّل أسبوع من زواجه اصطاد أحد أبناء الضيعة غزالاً واشترى أبو فوزي منه لكي يتغذّى ويكون دفْع الثمن في ما بعد. وعند المغرب بدأ يشوي ويأكل هو ونهلة التي كانت تضع الحمرة والبودرة والكحل و"داحشه حالها بزوجها مبسوطه"، وخلال لحظات الانسجام إذ الباب يُطرق ـ انزعج حادساً وقال بصوت فيه نبرة: "مين"؟، فقال: "أنا فْلان بدّي حقّ اللّحمه"، فقال له أبو فوزي: "لمّا ناكلها منعطيك حقّها"، فقال وهو يتلصّص عبر شقّ صغير في الباب العتيق: "شايفك عم تعلك"!.
12 (شمس العروس)
تزوّجتْ حمدة خنافر "أمّ محمّد" التي هي أصلاً من بلدة عيناثا المجاورة لبلدة كونين وذلك في سنة 1955 من عمّي كامل علي محمّد أسعد أمين مرعي رزق شلالا مسلماني، و"زفّوها" على فرس، وكانت العادة أن يجرّ ناطور البلدة فرسَ العروس، وكانوا يعطونه بدل عمله هذا "تيّاراً" هو "إشارب" ثمين يُلفّ به عنق الفرَس. وهناك "حوربة" ـ أغنية أنشدها في الزفّة حسين عبدالله "أبو فوزي" نادرة: "يا شمس دَلّي حبالِك \ وتأمّلي بحالِك \ بالجوّ ما عاد لِك سكونْ \ طلعتْ عروس قبالك".
13 (المطربة صباح)
كانت المرحومة الحاجّة "أمّ حسين" وذلك في ستينات القرن العشرين تحلب "الغنمات والعنزات" في الإسطبل ـ و"عيّطلها" ـ ناداها ـ زوجها المرحوم جميل مسلماني قائلاً: "عجلي اطلعي يا إمّ حسين، صَبِيحْ (المطربة اللبنانيّة المشهورة صباح) عمبتغنّي"، فقالت، وانتظاراً، ولكي لا يفوتها شيء من غناء "الصبّوحة": "هيّاني جايي، أطفي الراديو وانْطرني ـ انتظرني"!.
14 (شخير "ورِّ" البقر)
قال عبد طعمة "أبو عبّاس" إنّه أيامَ الشباب اتّفق مع "بنت" أن يلتقيا في حاكورة (قطعة أرض) هي للشيخ عبد، وكانت مزروعة قمحاً أستراليّاً طويلاً، بحيث يختفي بداخله الجمل، كما يُقال تعبيراً عن حال، ومقابل أن "يستمسك" بها وعدها بعلبة "راحة" ـ حلويات ـ وذلك بعد أن يؤذّن الشيخ علي آذان المغرب. وتحمّم عبد طعمة وحلق لحيته وذهب الى الحاكورة وجلس وطال إنتظاره، "وْصارْ يغفلْ وِيفِيقْ"، وتكرّر ذلك، وأصبحت الدنيا ظلاماً شديداً، وفي هذه الأثناء خرجت زوجةُ أحد الجيران من آل رشيد وجاءت إلى الحاكورة كي تبول، على عادة أهلنا قبل اكتشاف المراحيض، وأنتَ تعلم أن "الحرمه" عندما تريد أن تبول فـ "السايب" (لا حسيب ولا رقيب) له "شخير" مثل "ورِّ" البقر، فسمع عبد طعمة هذه "النغمات" فظنّها لحبيبته، همس وقال: "أنا قاعد هون ليش قعدتي عندك"؟!. فهربتْ خوفاً وهي تبول. وفي الصباح سرتْ "دعاية" إن حاكورة الشيخ عبد فيها: جِنّ!.
15 (كاديلك سوداء)
حسين عبدالله "أبو فوزي" كان من أوائل الذين اقتنوا سيّارةً في كونين ـ خمسينات القرن العشرين وهي من نوع "كاديلك" سوداء "مِنْ هَل طوالْ، موتورها خربان، بْتمشي ع الدفش ـ الدفع، أشكمانها مخزوق، وبْتهدر". ولم يعدم من يغنّي له في ذلك العصر والأوان: "بُو فوزي جايب سيّاره \ بْتهدر متل الطيّاره \ بالطلعه شِدّوا يا ولاد \ وبالنّزله حطّوا حجاره".
16 (الزيّات المحبوب)
وقبل سنة 1967 كان يأتي إلى كونين بائعو زيت من بلدة بنت جبيل يحملون الزيت في "جالونات" ـ حاويات حديد ـ على البغال، وكانت لديهم أوعية من تنك يطلقون على الصغيرة منها تسمية وهي "يقّة" وعلى الأكبر "يقّتين" وهكذا، وهي أوزان قديمة. وخلال حرب "67"، وكانت الظروف صعبة أيضاً، رفض "الزيّاتون" بيع عوائل محتاجة أو فقيرة بالدَّين باعتبار أنّ "الدنيا حرب" ولا أحد في الحرب يبيع دَيناً أو قرضاً سوى "أبو نمر الحوراني" فقد غامر ووافق، وكسب ثقةَ وحبَّ أهل كونين الذين لم يتعاملوا من بعدُ مع أحد غيره.
17 (كونين الجنوب)
كانت لقية تصدح بها حناجر أبناء كونين في الخمسينات من القرن العشرين إذا تفاخروا، وهي واحدة من محفوظات الحاجّة عطوفة عقيل مهنّا "أمّ محمّد" زوجة الحاج عبد اللطيف محمود مهنّا: "إحسانها بسكّانها \ وعنوانها عَنّا ينوب \ كونين ضمْن كْيانها \ فازت على كلّ الجنوب"!.
Shawkimoselmani1957@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق